بعد تناولي طعام الغداء، ذكرتني والدتي بمكالمة يجب أن أقوم بها، كان ينبغي أن أتصل بسيدة لترتيب لقاء لي مع صديقتها التي تصغرها سنًا، لقاء بهدف الزواج.
تعتبر أمي تلك المكالمة مهمة، أما أنا فأعتبرها ثقيلة الظل.
بعد وفاة والدي، أصبحت والدتي وقريباتها وزميلاتها مهتمات بتزويجي، عارضت الفكرة وقلت لهن لدي أمور أهم الآن من الزواج. حينذاك اشتعلت ضدي حرب عشواء، فأصبح النقاش حول هذا الأمر يدور في كل مهاتفة لي مع أحد أقربائها كما مع والدتي ومع أختي أحياناً.
وفي النهاية، قلت لمَ لا، فحاولت الربط بين زواج الصالونات والمواعدة العمياء blind dating، ففي كليهما يتقابل شخصان بنية مسبقة في التعرف على شخص من الجنس الآخر، أو حتى من الجنس نفسه، بهدف الاتحاد الأبدي.
وقلت "الكثير من الشعوب والثقافات تنتهج هذا الأسلوب أيضاً، فلمَ نرفضه نحن؟!"
وبعد عدة شهور من الرفض، وافقتُ على مقابلة العديد من الفتيات اللاتي توسطت بينهن وبيني قريبات والدتي. الفتاة الأولى كانت من الصعيد، رحت أحاول أن أبرز التشريعات بيننا، وقد أفزعني ما يحدث، شاب وفتاة يتحدثان عبر شبكة الإنترنت من أجل الزواج والارتباط الأبدي.
بدا عقلي يتذكر صديقتي التي كنت أجلس معها ساعات نناقش سبل خروجنا من متاهات مرض الاكتئاب، وفرحت جداً عندما أخبرتني عن حبها لشاب رأته رائعاً، وهنا قارنا بين ثراء الذكريات والمواقف، وبين الصحراء الجرداء التي تفصلني عن فتاة يقولون إننا قد نعلن خطبتنا عما قريب.
"إذا واجهت مشكلة لمن ألجأ؟ من المفترض أن ألجأ إلى أقرب شخص لي، حدث ذلك بالفعل ووجدت نفسي لا أفكر إلا في صديقتي لأحكي لها، فهي التي يجمعني بها تاريخ طويل من المواقف والنصائح والذكريات. أكاد أجزم أنها تحفظني عن ظهر قلب، وأكاد أن أكون أمين سرها، أما تلك التي يقولون إنها ستكون زوجتي، فلا أعرف عنها إلا قليل وهي لا تعرف عني سوى النزر اليسير.
لا، هذا ليس زواجاً بالطبع، فليسموه زواجاً متى شاءوا، لكنهم لن يجبروني على أن أصدق أن هذه المهزلة تعتبر زواجاً.
أطول فترة زمنية تحدثت فيها مع فتاة في إطار زواج الصالونات، دامت ثلاثة أسابيع، كانت خلالها تتحاشى الحديث بوضوح عن أي من القضايا التي أطرحها عليها، أو يفرضها النقاش، وإذا قمت بمزيد من الضغط، ردت رداً دبلوماسياً يعكس ببراعة ما يريده السامع لا ما يقوله المتحدث، بهدف أن تتركني متوهماً أنها أجابت عن سؤالي، في حين أنها أعطتني جواباً كالمرآة يعكس ما أريد أن أفهمه لا ما تريده هي. ولكن لم يستطع أي من أجوبتها أن يقنعني بعكس ما أراه، وهو عدم الوضوح والتلاعب المستمر.
سألتها: "هل أحببته يومًا؟" فقالت "بالطبع، ألم يكن زوجي، هكذا تفعل الفتيات المحترمات"وبالرغم من أننا لم نتقابل سوى مرات قليلة، فقد أظهرت غيرة شديدة في عدة لقاءات وطالبتني في أحدها بوجوب أن أتناقش معها فرض حدود بيني وبين زميلاتي وصديقاتي. عدم الوضوح المتعمد والإصرار على التعجيل بإجراءات الخطبة تكررا مع شخصيات مختلفة، حتى بات الأمر أشبه بالظاهرة أو السلوك العام، بالنسبة لي. ناقشت مع زميلة لي بالكاد تخطت منتصف عقدها الثاني بأعوام قليلة، وهي أرملة ولها ابن، أحوال زواجها. رآها زوجها في حفل فخطبها من أهلها الذين وافقوا وهي وافقت بالتبعية بعد أن صلت وشعرت بارتياح بعد الصلاة. سألتها: "هل أحببته يومًا؟". فقالت "بالطبع، ألم يكن زوجي، هكذا تفعل الفتيات المحترمات". دُهشتُ من المنطق. لقد أحبته بعد أن وافق عليه أهلها أولاً ثم الصلاة ثانياً، لاحقًا تم توقيع عقد يتناول شأنها. الأمر نفسه حصل لي، أي الخيار بين هذا النوع من الزواج وبين النخاسة. فالاثنان يتشابهان في موافقة أولياء الأمر ثم توقيع العقد لتمنح المرأة بعده جسدها وولاءها المطلق لرجل ما. لكن هل كان فعلاً ولاءً مطلقًا؟ أتذكر نقاشًا بين مديرة مركز ثقافي وامرأة ترتدي عباءة (لا شماتةً بالعباءة بل كتصور وحيد أذكره عنها)، كانت الأولى تقنع الثانية بأن تحضر هي وزوجها ورشة للتعريف بالشريك (الزوج/الزوجة -الحبيب/الحبيبة) وللتواصل معه، وقد ردت ذات العباءة: "لم يفهمنا، هو ينفذ ما نريده على أية حال، هكذا أفضل. لو فهمنا لما تزوجنا من الأساس ولم نفذ ما نريد". ما هذا الهراء الذي أسمعه؟ هل هو نوع من الاستعباد المتبادل؟ هي تمتلك عقله فتسيّره متى شاءت، وهو يمتلك جسدها فيفعل به ما يحلو له. ذكرني الأمر بالروايات والأعمال الدرامية التي تتناول قصص السلطان العثماني الذي كان جنوده يسرقون نساء لتحويلهن إلى جوارٍ له، ثم بخدعة أو مؤامرة من إحداهن توهم السلطان بأنه اختارها لتصبح سلطانة وتتسيد على من كانت تخشاهم من قبل. في مرة لاحقة، كانت إحدى خالاتي هي الراعية الرسمية للمحادثات مع العروس المرتقبة، بدأت تتصل بي أو بوالدتي بشكل شبه يومي لتطمئن على مجريات الأمور. حينذاك كنت أود الانتقام باسم العلم واللغويات وتاريخ الحضارة والتبادل الثقافي، من نفسي. أي جريمة فعلها التواعد الأعمى ليتساوى مع زواج الصالونات؟ أتذكر حينذاك صديقي الأمريكي الذي حكى لي عن رفيقه في السكن، الذي قام بالتواعد الأعمى، إذ لم يكن هناك أي أوصياء عليه. كما أن التواعد الأعمى يأتي بهدف التعارف الذي قد تسفر عنه علاقة عاطفية. لكن في زواج الصالونات فإن المحاذير الكثيرة التي يضعها أوصياء المشهد والذين عادة ما يكونون الأهل، تجعل من الصعوبة حدوث أي شيء، والقاعدة المتبعة دومًا هي: استراح أحد الطرفين للآخر، إذاً فلنزوجهما. التواعد الأعمى يختلف هنا، ففي العديد من الدول، ليس الزواج سوى إعلان يقول إن هذين الشخصين يريدان أن يمضيا حياتهما معًا، لذا فالقرار يأتي على مهل، بل قد لا يأتي على الإطلاق، خاصة أن هنالك دولًا تُعامل أي شخصين يعيشان معًا كما لو أنهما متزوجان، ففكرة هروبه من المسؤولية غير واردة هنا. لذا، فكرة الزواج ليست عامل ضغط بل هي قرار يؤخذ نتيجة تفكير مضنٍ. لكن عندما يكون الزواج زواجًا بلا طلاق، أو زواجًا مسموحًا فيه الطلاق لكن يمنع تنفيذه "لأننا معندناش بنات تتطلق" أو لفرض مؤخر صداق أكبر مما يحتمل الزوج، تصبح الحياة الزوجية غرفة إعدام، وقد يموت فيها أي من الزوجين في سن مبكرة، بدنيًا أو روحيًا، ويجلس كل من شاركوا في جريمة تزويجه/ـا متعجبين من وفاته/ـا في تلك السن المبكرة. إذ ذاك تغدو فكرة الزواج رعبًا لكل من الطرفين. أقف عاري الجذع أمام الحوض لاغتسل، فأشاهد في مرآته الشعيرات البيضاء التي ظهرت بين شعر ذقني وشعر رأسي ونما بعضها على صدري وكتفي، فأنزعج. هل بدأ خريفي في الظهور فعلًا؟ ما الذي فعلته بحياتي الاجتماعية والعاطفية؟ آخر فتاة كادت تنمو بيننا علاقة عاطفية نفرت مني، ومضت لتتزوج آخر بعد أشهر قليلة، بسبب توتري الناجم عن الاكتئاب بالرغم من أنه كان في مراحله الأولى. الغريب أني في تلك المرحلة التي نهش فيها المرض روحي وأيامي، نشرت كتابي الأول ولقي استحسان جمهور وباحثين متخصصين، وفي الفترة نفسها، بدأت أفكار لكتب عديدة في الظهور في رأسي، ولكن الاكتئاب الذي بات يبتلعني كل يوم، عطلني عن إنهاء أي من تلك الكتب. يأتيني الخلاص عبر مكالمة تفيد أن الفتاة حدث لها أمر طارئ. عملية جراحية ستخضع لها إحدى صديقاتها وستلازمها هي. جلست منهك القوى بسبب الصراع النفسي السالف ذكره، وقررت كأي شخص يعاني من الاحتراق النفسي أن أزور مواقع التواصل الاجتماعي بلا اكتراث لما تحتويه، فأجد إشعارات كثيرة تأتيني من صفحة الرياضة التي أديرها، عبّر أصحابها عن إعجابهم بفيديو وضعته في عيد العشاق الماضي، لعشيقين، يفصل بيننا وبينهما عدة دول ومحيط، وهما يمارسان الرياضة معًا بحميمية. ذكرني المقطع بقصيدة سجلت على بردية هاريس 500 (منذ حوالى ثلاثة آلاف عام) تقول فيها امرأة لحبيبها "معاً، يدك في يدي، سنتريض على شاطئ النيل". ثم تذكرتُ صاحبة العباءة، وصمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...