"استيقظ الناس على شائعة ملأت القلوب خوفاً. هناك قائد جديد لمعتقل طرة. استخف المعتقلون الجدد، وكنت منهم، بالخبر. أما القدامى، فارتعبوا حين عرفوا أن القائد هو العقيد عبد العال سلومة". بهذه الكلمات، وصف القيادي الإخواني أحمد رائف في كتابه "التعذيب في سجون عبد الناصر" بداية تعرفه على أحد الجلادين المجهولين في فترة جمال عبد الناصر، حين اعتُقل بين عامي 1965 و1968، في ما بات يُعرف بقضية تنظيم سيد قطب. سلومة شخصية مثيرة، فهو ضابط شرطة يحضر في أوراق المعتقلين بداية من عام 1954 وحتى نكسة يونيو 1967. تراه في أوراق محمود السعدني، وأحمد رائف، ومحمد مهدي عاكف، وكلهم اعتُقلوا في حقبة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر. رغم انتماءات هؤلاء المعتقلين الفكرية المتنوعة بين إخوان مسلمين وشيوعيين، لم يكن سلومة يُفرّق بينهم. عذّب الرجل الجميع وعاش مجهولاً.
مذبحة طرة
بداية مشوار سلومة في أوراق المعتقلين كانت من معتقل "ليمان طرة". يسلّط مرشد الإخوان المسلمين السابق محمد مهدي عاكف، الذي اعتقل عام 1954 في قضية محاولة اغتيال عبد الناصر في الإسكندرية، الضوء على ذلك الضابط الذي حمّله المسؤولية الرئيسية عن مقتل عدد من أعضاء جماعة الإخوان داخل المعتقل، في ما بات يُعرف في أدبيات الإخوان المسلمين بـ"مذبحة طرة".يروي عاكف في مذكراته أن سجن ليمان طرة تحكم فيه ثلاثة ضباط: عبد الله ماهر، عبد اللطيف رشدي، والرائد عبد العال سلومة، والأخير كان الأكثر تعذيباً لقيادات الإخوان وذلك طاعة لرؤسائه في وزارة الداخلية. واستمر ذلك حتى جاء مايو من عام 1954 ووقع الصدام. يروي مرشد الإخوان السابق أنه في ذاك الشهر، بدأ التضييق على جماعة الإخوان بشكل كبير ومُنعوا من أداء الصلاة داخل العنابر وكان عبد العال سلومة يتصدّر المشهد وهو يردد "جاتلنا أوامر عليا بتصفيتكم". وحين اشتكى بعض الإخوان لمأمور السجن من التضييقات، قُيّد المشتكون بسلاسل حديدية. بعد ذلك، نجح الإخواني علي حمزة في الاستيلاء على سلسلة مفاتيح العنابر من رجال الأمن ونجح في فتح أحد عنابر المعتقلين الإخوان فخرجوا وساد هرج ومرج في ليمان طرة.
يحضر في مذكرات المعتقلين من عام 1954 حتى يونيو 1967. البحث عن تاريخه لم يكن يسيراً، فالمعلومات عنه شحيحة... عن جلاد سجون عبد الناصر عبد العال سلّومة
أشرف على اعتقال كثيرين من انتماءات فكرية متنوعة بين إخوان مسلمين وشيوعيين، ولم يُفرّق بينهم، إذ عذّب الجميع... قصة عبد العال سلّومة، الضابط المصري في سجون عبد الناصر...
في منتصف ليل أحد أيام عام 1959، نادى المساجين وأجبرهم على خلع ملابسهم واتخاذ "وضع الكلب"... وجلس الضابط المصري عبد العال سلومة على كرسي يضحك ويضرب بعض مؤخراتهم بالعصاويكمل عاكف أن مفاوضات حدثت بين مأمور السجن والإخوان المعتقلين انتهت بدخولهم إلى عنابرهم. لكن في الليل، جاء عدد من الضباط وأطلقوا من وراء القضبان النيران على عدد من المعتقلين وكان سلومة أبرز مَن قام بعملية التصفية التي أسفرت عن 16 قتيلاً و22 مصاباً بإصابات حرجة. ولم ينته الأمر إلا بنقل سلومة إلى سجن آخر بعد انتشار خبر الحادثة واضطرت الحكومة للتحقيق بما جرى وحمّلت عبد العال سلومة المسؤولية الرئيسية عنه.
البحث عن تاريخ سلومة لم يكن يسيراً، إلا أن اللواء فؤاد علام، نائب رئيس جهاز أمن الدولة الأسبق، عرفه بعد أن قضى معه بعض الوقت في معتقل الواحات. يقول علام لرصيف22 إن سلومة ضابطاً كفوءاً وينفّذ الأوامر، مضيفاً أن التحقيق في حادثة ليمان طرة الذي تسببت في تعطيل ترقيته ظلمه لأن قتل معتقل لم يكن ممكناً بدون موافقة قيادات عليا. ويتابع أن أصابع الاتهام في تلك الحادثة كانت تشير إلى وكيل وزارة الداخلية في ذلك الوقت صلاح الدسوقي، لكن تم استخدام سلومة ككبش فداء. يتحدر سلومة من محافظة بني سويف وتوفي أبويه في بداية مسيرته المهنية ولذلك قضى معظم وقته مع المعتقلين، خاصةً أنه لم يتزوج، يوضح علام.
معتقل الواحات
يحضر عبد العال سلومة مجدداً في أوراق محمود السعدني، وتحديداً في عام 1959، حين ألقت قوات الأمن القبض على عدد كبير من الشيوعين، في ما أطلق عليه في أدبيات الشيوعين "التغريبة" التي استمرت خمسة أعوام. وكان السعدني من بين المعتقلين ووثق تلك الفترة في كتابه "الطريق إلى زمش".كانت أولى محطات اعتقال السعدني في سجن القلعة، ويروي أنه بعد قضاء ستة أشهر هنالك، انتقل مع مجموعة إلى معتقل الواحات، ولم يكن قد ذاق العذاب بعد حتى كان أول أيامه في المعتقل الجديد: فوجئ بنداء في منتصف الليل كانت نتيجته خلع الملابس وجلوس المعتقلين "في وضع الكلب" ومؤخراتهم متوجهة نحو الضابط عبد العال سلومة الذي جلس على كرسي يضحك ويضرب بعض المؤخرات بالعصا. ويكمل السعدني أن مَن تعرّضوا لتلك الإهانة كانوا أساتذة جامعات ومهندسين وعمال، ومنهم مفكرون وفنانون وصحافيون، لكن لم يكن كل ذلك يشفع لهم بل إنه حين سأل عبد العال سلومة فنان الكاريكاتير "زهدي" ما عملك وأجابه الأخير رسام كاريكاتير، ما كان من الضابط إلا الرد: "شاعر يعني؟". طبع سلومة الحاد هو ما دفع السعدني إلى التفتيش حوله. يقول في كتابه المذكور إن حادثة ليمان طرة أثرت عليه بسبب تجميد رتبته عند رتبة رائد وكان المفترض في ذلك الوقت أن يصبح عقيداً، ولذلك أخرج كل همه في المعتقلين و"كان من المفترض أن نحمل 50 كيلو من الرمال الناتجة عن تفتيت الصخور في الجبل يومياً لكن مع سلومة كان يصل الأمر إلى 150 كيلو وكان يلعننا طوال الوقت حتى سقط أكثر من 10 رجال وفارقوا الحياة نتيجة الإجهاد الشديد". ويوضح فؤاد علام أن عبد العال سلومة عانى من اكتئاب شديد بعد حادثة ليمان طرة وما نتج عنها من تأخر في ترقيته، ولذلك لم يكن من المستبعد أن ينعكس ذلك على تعامله مع المعتقلين، وإن كان السبب الأهم وراء طباعه، برأيه، هو حياة سلومة بدون زوجة أو أسرة.
معتقل طرة
خرج الشيوعيون من المعتقلات عام 1964 ولكن الإخوان دخلوها مجدداً عام 1965 في قضية تنظيم سيد قطب. وهنا تحضر رواية أحمد رائف لقصص سلومة مع المعتقلين وكان قد وصل إلى رتبة عقيد في تلك الفترة. يقول إنه بعد انتشار خبر عن أن عبد العال سلومة هو قائد معتقل طرة الجديد، جاء يوم مكفهر أقفلت فيه العنابر والزنازين، "ووقفت أنظر من وراء القضبان فوجدت رجلاً أحمر الوجه على كتفه نسر ونجمتين كناية عن رتبته كعقيد وتومض عينيه الخضراوين بالوعيد ولمحني فقال: أنت يا معتقل ادخل". وصلة التعذيب بدأت مبكراً. يروي رائف أنه بعد وصول سلومة، أخرج كل المعتقلين وخلعوا ملابسهم في فناء معتقل طره لتبدأ حفلة الضرب الليلية، وتلك كانت عادته أسبوعياً، لكن ما تفرد به عبد العال في تلك الفترة هو ما أطلق عليه "التوعية"، والمقصود بذلك مناقشة الإخوان وإجبارهم على تأييد جمال عبد الناصر كتابةً، بجانب الهتاف له. ولسلومة قصص كثيرة مع قيادات الإخوان التاريخية. فبعد وصلات التعذيب المستمرة وإجبارهم على الهتاف، بدأ في إحضار قيادات الجماعة لمناقشتهم وكان على رأسهم منير دلة الذي دارت بينه وبين سلومة مناقشة وكانت الأسئلة كلها حول اختيار حسن الهضيبي مرشداً عاماً وهدف جماعة الإخوان وهل تعمل من أجل الوطن أم الاستعمار.
ولما لم يلقَ سلومة أية إجابة ترضيه، أمر بنزع الملابس عن دلة وجلده لمدة ثلاثة أيام صباحاً ومساءً، هو وباقي المعتقلين. أما نتيجة تلك المناقشات فكانت جمع كافة قيادات الإخوان في عنبر واحد ومنعهم من الخروج ولو لساعة واحدة وقال لهم سلومة: "العنبر ده محدش هيفارقه أبداً"، كما يوضح رائف. في الرابع من يونيو، بلغ التعذيب حدّه الأقصى. اختلق سلومة فكرة أن هناك أربعة أشخاص محكوم عليهم بالإعدام ومنهم شكري مصطفى، الشاب الذي خرج بعد ذلك وأسس جماعة التكفير والهجرة. سيق مصطفى، وكان لا يعرف شيئاً من دينه حينذاك، بحسب رائف، إلى ساحة الإعدام ليكتشف أنه إعدام صوري وحين نزُعت العصبة عن عينيه بعد تمثيلية الإعدام وجد أمامه عبد العال سلومة فما كان منه إلا القول: "هخرج من هنا وأقتلك انت وغيرك من الحكومة الكافرة".
في ذلك اليوم أيضاً، أعلن المعتقل محمود حلمي نيته قتل عبد العال سلومة، لكن عدداً من المعتقلين استطاعوا إقناعه بالابتعاد عن تلك الفكرة حتى لا يحلّ الجحيم على الجميع، كما يؤكد رائف. تغيّر الأمر كثيراً بعد نكسة يونيو 1967. يوضح أحمد رائف أنه في ليل ذاك اليوم اعتقلت السلطات الأمنية الكثير من الأشخاص وبعضهم يهود، بعد بيان تنحي جمال عبد الناصر، ويقول: "جاءنا سلومة ليقول بوجه بشوش لأول مرة سوف تسمعون أعظم خبر في حياتكم، وحين أجبناه: هل انتصرنا؟ فحتى الآن لم تكن هناك معلومة مؤكدة حول الحرب، قال: لا استقال عبد الناصر، وبعدها بأيام غادرنا عبد العال سلومة وهدأت الأمور حتى وفاة جمال عبد الناصر".
يروي فؤاد علام أن عبد العال سلومة وصل إلى منصب نائب رئيس مصلحة السجون في عهد وزير الداخلية الأسبق زكي بدر وتوفي عام 1987 إثر إصابته بالسرطان، ويقول إنه لم يكن سوى رجل ينفّذ القانون والكثير مما كتب عن السجون في عهد جمال عبد الناصر أكاذيب. وعن سر عدم وجود أية صور له، يشير إلى أن ضباط مصلحة السجون وأمن الدولة، ونظراً لطبيعة عملهم، لم تكن صورهم متاحة في ذلك الوقت وكان الأفضل ألا تنشر لهم أية صور حتى لا يتعرّف عليهم أهالي المعتقلين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...