كان جاك فرانسوا مينو، القائد الثالث للحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1801) متحمساً لقضية الاستعمار الفرنسي ولاندماج مصر بفرنسا. وللتقرّب من المصريين، تزوّج من المصرية زبيدة، ابنة محمد البواب، بعد أن أشهر إسلامه.
قصة مينو (1750 – 1810) وزبيدة يرويها عبد الرحمن الرافعي في الجزء الثاني من كتاب "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر". وبحسب ما ذكره الدكتور جمال شقرة لرصيف22، سعى مينو للزواج من مصرية من أجل استمالة المصريين خاصة أن الحملة الفرنسية كانت تمرّ بظروف حرجة بعد رحيل نابليون بونابرت إلى فرنسا عام 1799، ومقتل القائد الثاني للحملة جان بابتيست كليبر (1753 – 1800). وذكر الرافعي أن مينو أراد التقرب من الشعب المصري إلى درجة الاندماج فيه، فاعتزم الزواج من سيدة مصرية شريفة، واقتضى ذلك اعتناقه الإسلام.
زواج من أجل "الصالح العام"
أتى زواج الجنرال الفرنسي في إطار إيمانه بفكرة ترسيخ قدم بلاده في مصر. ذكر كريستوفر هيرولد في كتابه "بونابرت في مصر" أنه كان من أشد القادة الفرنسيين في مصر تحمساً لقضية الاستعمار والاندماج، وإن كان آخرون قد شاركوه هذه الحماسة، إلا أن أحداً منهم لم يتصرف بمثل ما تصرف به. فبونابرت أعلن للمصريين من قبل أنه مسلم بقلبه ولمّح إلى أنه سيعتنق الإسلام، أو على الأقل هذا ما أشيع، أما مينو فقد اعتنقه فعلاً. ولذلك، هنأ بونابرت مينو على "تضحيته" في سبيل القضية الوطنية. بعد زواجه، كتب مينو للجنرال ديجا الذي عيّنه بونابرت حاكماً على القاهرة يقول: "يجب أن أحيطك علماً يا عزيزي الجنرال بأنني اتخذت لي زوجة، وأنني أعتقد أن هذا الإجراء يخدم الصالح العام". أما الجنرال مارمون الذي أنبأه مينو بهذا الإجراء بنفس اللهجة فقد رد عليه مهنئاً، وأضاف، متخابثاً في أغلب الظن: "أنت محق في قولك عن أن زواجك سيدهش الكثيرين، أما أنا يا عزيزي الجنرال، فاعتبره علامة على إخلاصك العظيم لمصالح الجيش الفرنسي". وبعد أسبوع كتب إليه مارمون يسأله: "إني توّاق لأن أعرف هل مدام مينو جميلة، وهل في نيتك في القريب العاجل أن تتحفها برفيقات لها جرياً على أهل البلاد؟". فأجاب مينو: "يا عزيزي الجنرال، إن زوجتي طويلة القامة، مبسوطة الجسم، حسنة الصورة من جميع الوجوه، فلها عينان رائعتان، ولون بشرتها هو اللون المصري المألوف، وشعرها طويل فاحم، وهي لطيفة الطبع، وجدتها تتقبل كثيراً من العادات الفرنسية بنفور أقل مما توقعت... وأنا لم ألح عليها بعد في الخروج سافرة على الرجال، فهذا سيأتي شيئاً فشيئاً... ولن أنتفع بما أباحه النبي من الزواج بأربع نساء خلاف السراري، فإن في النساء المسلمات شهوة حارة عنيفة، وفي زوجة واحدة أكثر من الكفاية لي"، روى هيرولد.بذاءات الجنود
غير أن هذه المباركات الرسمية للزواج لم تحل دون تعليقات شديدة البذاءة حول الموضوع داخل الجيش الفرنسي. فالجنرال جوزيف ماري مواريه ذكر في مذكراته الواردة في كتاب "مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر" أن لقب "عبد الله" الذي حمله مينو خلق بين الجنود الفرنسيين انطباعات ليست في صالحه، إذ اصطدم ذلك بجذوة أفكارهم الدينية التي نهلوا تعاليمها من تربيتهم الأولى، وثارت تساؤلات بينهم حول ما إذا كان هذا الرجل الذي ارتد عن دينه كفوءً لقيادتهم.قصة عمرها أكثر من 200 سنة... للتقرّب من المصريين، تزوّج القائد الثالث للحملة الفرنسية على مصر جاك فرانسوا مينو من المصرية زبيدة، ابنة محمد البواب، بعد أن أشهر إسلامه
"طويلة القامة، مبسوطة الجسم، حسنة الصورة من جميع الوجوه، لها عينان رائعتان، ولون بشرتها هو اللون المصري المألوف"... هذه أوصاف زبيدة التي تزوجها القائد الثالث للحملة الفرنسية على مصر جاك فرانسوا مينو للتقرّب من المصريينولكن شقرة يرى أن هذا الزواج لم يثر استياء واسعاً بين جنود الجيش الفرنسي، لأن أفراده كانوا يؤمنون بقيم الحرية والمساواة التي قامت عليها الثورة الفرنسية، ومن ثم كانوا يرون أن من حقه اتخاذ أية زوجة له كيفما شاء.
كاذب ودجال؟
ويبدو أن مينو ظن أن إسلامه وزواجه من مصرية مسلمة سيمهد الطريق لتقبل المصريين لإجراءاته. وبحسب هيرولد، "اعتبر مصر قطعة من فرنسا، وأعلنها كذلك رسمياً، وراح يغيّر ملامح البلاد ليصوغها على صورة فرنسا، فأمر بهدم أحياء كاملة في القاهرة لتتسع لإنشاء شوارع فسيحة، وانتزع جباية الضرائب من يد الأقباط وفرض ضريبة واحدة على الأرض، وألغى الرسوم الإقطاعية، وغيّر قوانين المواريث الإسلامية، وألغى القانون الجنائي الإسلامي وأنشأ محاكم جنائية تحت إدارة الفرنسيين، وأمر بقيد المواليد والوفيات إجبارياً، وأنشأ أول جريدة تُطبع باللغة العربية". غير أن الأهالي رأوا أن هذه الإجراءات ليست سوى محاولات يقترفها مسلم كاذب لاقتلاع جميع نظمهم وتقاليدهم، بل واعتبروه دجالاً، كل ما يأبه له هو جعل مصر إقليماً فرنسياً، وهي رغبة لم يشاطروه إيّاها، ذكر هيرولد.مصاهرة عائلة "شريفة"
لم يكن مينو يقصد اختيار سيدة بالذات، بل كان بحسب الرافعي يرمي إلى مصاهرة عائلة تتصل بالسلالة النبوية، فرغب في البدء بمصاهرة الشيخ الجارم، عميد أسرة الجارم العريقة في الشرف والعلم، ولكن يبدو أن الشيخ استعجل سد الطريق أمام الجنرال، فلم يكد يسمع برغبته حتى بادر إلى تزويج كريمتيه إلى اثنين من أهله، ليتخلص من هذه المصاهرة. دفع هذا الرفض مينو إلى طلب الزواج من زبيدة، ابنة محمد البواب أحد أعيان رشيد، وكانت مطلقة بعد زواج سابق من شخص يدعى سليم آغا نعمة الله، فقبل أبوها وقبلت هي، وتم عقد الزواج في وثيقة شرعية مؤرخة بتاريخ 25 رمضان سنة 1313، وتضمنت اعتناقه للإسلام، وتَسمّى فيها باسم "عبد الله باشا مينو". بعد ذلك تظاهر مينو بتمسكه بالشعائر الإسلامية حتى أنه كان يؤدي صلاة التراويح في شهر رمضان بمساجد رشيد، وكتب إلى نابليون ينبئه بذلك ويقول في رسالة إليه أن هذه الطريقة قد حببته إلى نفوس الأهالي، حسبما روى الرافعي.رؤية مختلفة
في مقابل هذه الروايات، يتبنى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور أحمد الملا وجهة نظر مختلفة. يرى أن زواج مينو من زبيدة لم تقف وراءه دوافع سياسية بحتة، معللاً رأيه بأن الحملة الفرنسية على مصر كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة وقت زواجه. وقال لرصيف22 إنه بعد رحيل بونابرت إلى فرنسا اتجه كليبر لمفاوضة العثمانيين على الرحيل وعقد معهم اتفاقية العريش الأولى للجلاء عن مصر في يناير 1800، إلا أن الإنكليز تدخلوا لإبطالها. كما قام المصريون بثورتين كبيرتين ما دفع الفرنسيين إلى التفكير بالرحيل عن مصر. وبالتالي، برأيه، لا يعدو زواج مينو كونه قصة زواج عادي لا يحمل أبعاداً سياسية. حتى أن المُلا يقول إن زواج مينو من زبيدة أتى عليه وعلى زوجته بسخط كبير من المصريين وليس العكس، فقد اعتبرها البعض خائنة لأنها تزوجت من غازٍ لبلادهم.تضارب آراء
وتضاربت الشهادات عن زبيدة، "فمن قائل إنها شابة مغرية، وإن مفاتنها أيقظت شهوات مينو المكتهل حتى عبثت بعقله، ومن قائل إنه لم يرها قط قبل العُرس، ثم تبين أنها لم تكن على ما زُين له من شبابها وجمالها وثرائها"، بحسب هيرولد. أما مينو نفسه فقد أذاع على الملأ أنها سليلة أسرة من الأشراف، لأن أباها وأمها متحدران من سلالة الرسول. وبحسب الرافعي، رُزق مينو من زوجته في شهر يناير 1801 ولداً أسماه سليمان مراد جاك مينو. أقامت زبيدة مع زوجها في رشيد عندما كان حاكماً للمدينة، وبقيت فيها بعد أن تولى القيادة العامة للجيش الفرنسي، إلى أن احتلها الأتراك والإنكليز فخرجت بصحبة أخيها من أمها علي الحمامي، وانتقل بها إلى الرحمانية، ولمّا احتلها الحلفاء قدم بها إلى القاهرة فدخلاها ونزلا بدار القائد العام، بيت الألفي بك بالأزبكية، ثم انتقلا إلى القلعة ليكونا بمأمن من الاضطرابات، وكان مينو وقتئذ بالإسكندرية. وبقيت زبيدة وابنها وحاشيتها في القاهرة إلى أن وقّع الجنرال الفرنسي بليار الذي كان حاكماً لهذه المدينة على شروط التسليم وتم جلاء الفرنسيين، فأذن لها قائد الجيش الإنكليزي الجنرال جون هيلي هتشنسون بالسفر إلى الإسكندرية لتلحق بزوجها، على أن مينو طلب الإذن لها بالسفر إلى فرنسا فرحلت إليها على إحدى السفن التي أقلت جيش الجنرال بليار. ولكن خاتمة قصة مينو وزبيدة لم تكن سعيدة. يروي الرافعي أن الجنرال الفرنسي أساء معاملة زوجته ثم هجرها عندما انتقل إلى تورينو بإيطاليا، واستبدلها براقصات اتخذهن خليلات، وتركها تعاني مشقة العيش إلى أن توفيت.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...