من بين جميع السياسيين الغربيين الذين اضطلعوا بمهمة حكم إحدى الدول العربية، إبان فترة الاستعمار الأوروبي، بين نهايات القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، يُعَدّ إيفلين بارينغ، والذي عُرف واشتهر بلقب اللورد كرومر، إحدى أكثر الشخصيات التي استأثرت بمساحات واسعة من النقاش والجدل.
اللورد كرومر الذي شغل منصب القنصل البريطاني العام في مصر، عاصر فترة دقيقة في تاريخ الشرق عموماً والمنطقة العربية على وجه الخصوص، وكان الحاكم الفعلي لمصر بعد سقوطها في يد الإنكليز عام 1882، وقضى في هذا المنصب ما يزيد عن الربع قرن من الزمان، فتكوّنت لديه خبرة كبيرة في التعامل مع المصريين، حرصت الإدارة الإنكليزية على الاستفادة منها عندما طبعت مذكراته في كتاب ضخم تحت مسمى "مصر الحديثة".
وُلد اللورد كرومر في 26 فبراير 1841، وقضى الفترة المبكرة من حياته العملية في الهند التي كانت تمثل درة التاج البريطاني حينذاك، ثم انتقل إلى مصر عام 1877 للعمل مندوباً لصندوق الدين المصري في القاهرة، وهو صندوق أنشأه الخديوي إسماعيل للتأكد من وفاء مصر لديونها التي استلفتها من حكومات أجنبية من أجل إنجاز مشروع قناة السويس، وكان شاهد عيان على أحداث الثورة العرابية وما تبعها من أحداث متلاحقة.
شهدت الفترة التي عاصرها اللورد كرومر تغيّرات هائلة في المجتمع المصري، إذ ظهرت طبقة برجوازية جديدة، استمد أفرادها أساليبهم المعيشية وأفكارهم وثقافتهم من المجتمعات الأوروبية المتقدمة، واستعاضوا بها عن موروثاتهم القديمة السائدة في المجتمع المصري، فظهرت أفكار مثل حرية المرأة وتجديد الدين والوطنية والديمقراطية لأول مرة في الشرق الإسلامي.
وكان القنصل البريطاني العام مشاركاً بقوة في تلك التطورات الفكرية والثقافية، ما جعل الآراء تختلف حول توصيفه وتقييمه، إذ سانده إبان فترة حكمه العديد من التنويريين الداعين إلى التجديد والتطوير، بينما صب عليه الإسلاميون جام غضبهم، واتهموه بأنه لم يكن سوى أحد الغربيين العاملين على هدم الإسلام.
اللورد كرومر عند دعاة التغريب... رائد التحديث
"ليس أمامنا سوى بديلين. هذان البديلان هما أن مصر يتحتم في نهاية المطاف أن تكون مستقلة استقلالاً ذاتياً، أو أنه ينبغي ضمها إلى الإمبراطورية البريطانية، وأنا شخصياً أساند بصورة قاطعة التحرك في اتجاه البديل أو الاختيار الأول". هذه الجملة وردت في الفصل الختامي من كتاب اللورد كرومر، وأعرب من خلالها بشكل صريح وواضح عن تمنياته بأن تسير مصر نحو استقلالها، وألا تبقى مجرد تابعة للتاج البريطاني.سانده العديد من التنويريين المصريين الداعين إلى التجديد والتطوير، بينما صب عليه الإسلاميون جام غضبهم، واتهموه بأنه أداة غربية لهدم الإسلام... تقييم لدور القنصل البريطاني العام اللورد كرومر في تاريخ مصر الحديث
القنصل البريطاني العام اللورد كرومر... ارتبط بالعديد من الأسماء المصرية التنويرية وتقارب مع كل من الشيخ محمد عبده وقاسم أمين ومرقص فهمي وأحمد لطفي السيد والأخوين سعد وأحمد فتحي زغلولهذا التمني الذي تواتر في مواضع متعددة من كتاب القنصل البريطاني العام وتقاريره التي رفعها إلى الإدارة الإنكليزية في لندن، يتوافق مع ما عُرف عنه واشتهر به من محاولات لخلق نخبة مصرية مثقفة تستطيع المضي ببلادها قدماً نحو التحديث والتقارب مع الدول الغربية المتقدمة، وبالتأكيد من منظور أوروبي. ولذلك ليس من الغريب أن نجد اسم اللورد كرومر يرتبط بالعديد من الأسماء المصرية التي حظيت بمكانة مهمة على الصعيدين الفكري والثقافي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والذين اعتُبروا في ما بعد رموزاً للحركة التحديثية والوطنية في مصر والعالم العربي. بحسب ما تتفق عليه الكثير من المصادر التاريخية المعاصرة لتلك الحقبة، فإن الصالون الثقافي الذي كانت تعقده الأميرة نازلي فاضل، كان الميدان الرئيسي الذي شهد تقارب اللورد كرومر مع كل من الشيخ محمد عبده وقاسم أمين ومرقص فهمي وأحمد لطفي السيد والأخوين سعد وأحمد فتحي زغلول. فبتشجيع مباشر من القنصل البريطاني العام المتحمس لعملية تحديث المجتمع المصري، انطلقت دعوات تحسين أوضاع المرأة ودفعها للمشاركة المجتمعية، فظهر كتاب مرقص فهمي المعنون بـ"المرأة في الشرق"، ثم تبعه كتاب قاسم أمين الشهير "تحرير المرأة". الدعوة الصريحة إلى الحراك الاقتصادي الليبرالي كانت أيضاً إحدى نتائج تأثير اللورد كرومر على النخبة المصرية. فبحسب ما يذكره الكاتب أنور الجندي في كتابه "رجال اختلف فيهم الرأي"، فإن مقولة مصر للمصريين التي أطلقها أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد كانت بإيعاز مباشر من اللورد كرومر، وإن العلاقة بين الرجلين كانت تتسم بالإعجاب والتقدير المتبادلين، حتى أن لطفي السيد وصفه بقوله: "أمامنا الآن رجل من أعظم عظماء الرجال، ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا نداً له يضارعه في عظائم الأعمال". امتد تأثير اللورد كرومر القوي على النخبة المصرية ليصل إلى واحد من كبار علماء الدين المسلمين في ذاك الوقت، وهو الشيخ محمد عبده، الذي لطالما عُرف بتقديمه مشروعاً إسلامياً اصلاحياً تنويرياً، يُضرب به المثل حتى وقتنا الحاضر. علاقة اللورد كرومر بعبده انتظمت على شكل صداقة وطيدة، وظهرت آثارها بشكل قوي عندما حاول الخديوي عباس حلمي الثاني أن يعزل عبده من منصبه كمفتٍ للديار المصرية، إذ رفض القنصل البريطاني العام ذلك بشكل قاطع وأكد بحسب ما أورده أحمد أمين في كتابه "زعماء الإصلاح في العصر الحديث" أنه "لن يسمح بعزله من الإفتاء ما دام هو موجوداً"، ليتيح له بذلك الفرصة لاستكمال برنامجه الإصلاحي في المؤسسة الدينية المصرية. ومن الغريب أن تأثيرات اللورد كرومر في النخبة المصرية لم تقتصر على الجوانب الثقافية والفكرية فقط، بل نجد أنها امتدت لتصل إلى واحد من كبار الزعماء الوطنيين، وهو سعد زغلول. بحسب ما يذكر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "مصطفى كامل... باعث الحركة الوطنية"، وجد اللورد كرومر في زغلول نموذجاً فريداً للمصري القادر على الإدارة والمشاركة في تحمل أعباء السلطة، ولذلك عيّنه وزيراً للمعارف بناءً على سياسة جديدة انتوت الحكومة البريطانية اتباعها في مصر بعد وقوع حادثة دنشواي، وهي سياسة تتبنى تعيين مصريين في مناصب كبرى في الدولة للتخفيف من الآثار المجتمعية الساخطة على الاحتلال البريطاني. الإعجاب بين اللورد كرومر وسعد زغلول لم يقتصر على الأول وحده، بل كان متبادلاً لأقصى درجة، وهو ما يظهر في مذكرات زعيم الأمة. فعند تناوله لحادثة عزل اللورد كرومر، قال إنه عندما سمع بالخبر كان كمَن تقع ضربة شديدة على رأسه، فلم يستشعر بألمها لشدة هولها، وإنه سارع وقتها إلى زيارته وتوديعه قائلاً: "إني لا أفكر في شخصي ولكن في بلدي ومنفعتها التي سوف تخسر بعدك خسارة لا تُعوّض".
اللورد كرومر عند الإسلاميين... تواطؤ على الدين
إذا كان اللورد كرومر قد حظي بعلاقة مميّزة وبقبول واسع بين عناصر النخبة الفكرية والثقافية المصرية، فإن معظم الآراء الإسلامية المعاصرة نظرت إلى تلك العلاقة على كونها تآمرية الطابع، وتخفي وراءها أهدافاً استشراقية إمبريالية تهدف إلى القضاء على الإسلام وتدجين المسلمين. وحظي كتاب "مصر الحديثة" بقدر كبير من الهجوم والانتقاد بمجرد صدوره عام 1908، إذ نشرت جريدتا اللواء والمؤيد ردوداً تفصيلية على ما ورد فيه. وكان مما جاء في المؤيد: "لم يكن اللورد كرومر من رجال العلم والفلسفة ولا من رجال التأليف، إنما كان جندياً يؤمن بمجد الإمبراطورية، تعوّد بحكم وظيفته أن يكتب، ونظرته استعمارية تنبع من وجهة نظر سيطرة بريطانيا، وهي قائمة على كراهية الشرق والعرب والمسلمين واحتقارهم والإيمان بأن الرجل الأبيض له حق تمدينهم". أما الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه "النظرات والعبرات"، فقد اعترض على توصيفات اللورد كرومر للدين الإسلامي بقوله: "إننا لا ننازع اللورد كرومر ولا أمثاله من الطاعنين على الإسلام في معتقدهم ولكننا نحب منهم ألا ينازعونا في معتقدنا، وأن يعطونا من الحرية في ذلك ما أعطوه لأنفسهم". وفي كتابه المعنون بـ"عودة الحجاب"، يشرح الشيخ محمد إسماعيل المقدم، وهو أحد أهم علماء الدعوة السلفية بمصر، العلاقة التي ربطت بين الإمام محمد عبده من جهة واللورد كرومر من جهة أخرى، فيؤكد على أنها قامت على أساس من المصالح المشتركة، ذلك أن العالم الأزهري الذي كان قد تم نفيه خارج مصر بعد اشتراكه في الثورة العرابية، رجع إلى وطنه مرة أخرى، بُعيد موافقة القنصل البريطاني العام الذي قبل شفاعة الأميرة نازلي فاضل في الشيخ المنفي. ويعتبر المقدم في كتابه أن عبده رد الجميل للسياسي البريطاني المحنك، بعدما غيّر في المناهج الأزهرية، وأدخل فيها دراسة الفلسفة والمنطق والكتب الأجنبية البعيدة عن القيم الإسلامية. أما عن علاقة اللورد كرومر بالزعيم المصري الشهير سعد زغلول، فقد حاول الأديب الإسلامي محمد محمد حسين، في كتابه "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، أن يوضح ملابستها التآمرية بقوله: "اختار اللورد كرومر سعد زغلول وزيراً للمعارف، فحاول بمجرد تعيينه إحباط مشروع الجامعة المصرية، وتصدى للجمعية العمومية حينما طالبت الحكومة في مارس 1907 بجعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية، وكان وقتئذ بالإنكليزية، وكان الاحتلال هو الذي أحلّ اللغة الإنكليزية محل العربية في التدريس". وتُعتبر مسألة تطوير التعليم من أهم النقاط التي سجّلها الإسلاميون على اللورد كرومر طوال فترة حكمه لمصر. فبحسب ما يذكره الكاتب الإسلامي سيد العفاني في كتابه "أعلام وأقزام في ميزان الإسلام"، كان القنصل البريطاني العام يخطط لضرب العقل المصري المسلم، وتفريغه من أهم قيم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وتنميطه وقولبته ليسير وفق المنهج الذي سار عليه العقل الغربي، وذلك حتى يسهل حكم المصريين وتتاح للإنكليز فرصة السيطرة عليهم بشكل سهل وميسّر. وفي ما يخص تلك النقطة تحديداً، يذكر العفاني أن اللورد كرومر استخدم أحد المبشرين الإسكتلنديين وهو دوغلاس دنلوب، إذ عيّنه عام 1906 مستشاراً عمومياً لوزارة المعارف المصرية، وأعطاه صلاحيات واسعة تفوق تلك التي يمتلكها الوزير نفسه، فبدأ المبشر الإسكتلندي في خطة عمل مدروسة ومحسوبة، حارب فيها التدريس باللغة العربية، وشجع على تعليم الإنكليزية، كما عمل على حذف الكثير من القصص والدروس الإسلامية التي تحتويها الكتب الدراسية في مراحل التعليم الأولى، ونجح في خطته بشكل كبير، إلى الحد الذي جعل جريدة اللواء في عددها الصادر في التاسع من أكتوبر 1907، تصفه بأنه "أقوى آلة وضعها اللورد كرومر لتعطيل التعليم في مصر، وأكبر مقاوم لرقي البلاد من باب المعارف".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم