لم أكن لأتخيل كم الأفكار والتحليلات التي خرجت بها من هذا الحوار. عقب أزمة الراقصة جوهرة، كنت أتوقع أننا سنتحدث عن معاناة الراقصين الأجانب في مصر، لكننا تطرقنا لما هو أعمق من هذا.
جاءت نتاليا (اسم مستعار) من أميركا الجنوبية، الذي يفصل بيننا وبينها مئات الأميال واختلاف ثقافي ضخم، إلى مصر كمدربة رقص لفرقة استعراض في سيناء، ثم انتقلت إلى القاهرة لتصبح مدرّسة لإحدى اللغات الأجنبية، فهي –كما قالت- لم تكن لتتوقع أن تجد مجتمعاً يتقبل الرقص في القاهرة. لكن حبها للرقص دفعها للبحث عن مراكز لتعلم الرقص، فتهجر تعليم اللغات من أجل تعليم الرقص.
كيف وجدت مجتمع محبي الرقص في القاهرة؟
ينمو إلى حد كبير، وأنا سعيدة بذلك، لأن ما رأيته من قبل ليس كمثل هذا العام أو حتى العامين الماضيين. فالناس أصبحوا أكثر وعيًا بمفهوم الرقص، إذ لا يرون فيه الصورة النمطية عن الرقص، بل أسلوب حياة وفنًا متصلين بكل ما يقع حولك.
فالرقص ليس مجرد حركات مع الموسيقى، فهو أعمق من ذلك بكثير. فالرقص يستطيع أن يخرج مشاعرك، سواء كنت راقصًا محترفًا أو هاويًا. وذلك لأن كل شخص قادر على الرقص، وكل شخص لديه نفس الفرصة للسعي وراء ما يريده، وقد يكون في بعض الأحيان لا يعرفه حقًا، كما قد لا يعرف نفسه من الداخل. الرقص يستخدم لإطلاق الإبداع وتعزيز التواصل مع الآخرين والشعور بالسعادة، بالإضافة إلى أن كلًا منا لديه تجربته الخاصة والفريدة مع الرقص.
ألمحت نتاليا خلال حوارها إلى أنها لا تزال تكتشف مجتمع محبي الرقص في القاهرة، وإلى أي مدى يمكنها تطوير عملها فيه، لذا تستبعد حالياً فكرة العمل كراقصة محترفة في القاهرة، فالمهن المتعلقة بالرقص –بحسب خبرتها- تتعرض للظلم والقهر بسبب الدين، وهو الأمر الذي أضعف مجتمع الرقص في مصر.
وتقول "اعتقد أن الرقص لا ينظر إليه بنوع من الاحترام، وأن الناس تنظر إليه كهواية أو شيء لا قيمة له، وهو أمر غريب، فالرقص كأي مهنة أخرى محترمة تتطلب الكثير من الجهد والدراسة، ويجب –كراقص- أن تتمرن بجهد وانتظام 6 أو 10 ساعات يوميًا، وأن تتخلى عن الكثير من الأشياء في حياتك. اعتقد أن أي مهندس أو طبيب لا يقوم بأكثر مما نقوم به".
الجميع تحدث أخيرًا عما حدث للراقصة جوهرة، فما رأيك أنت؟
بشكل عام، فإن وضع الراقصات الشرقيات في مصر معقد جدًا على عكس الراقصات الأخريات، فالرقص الشرقي يعتمد بشكل رئيسي على حركات "سكسي" –هذا هو جوهر الرقص الشرقي- على عكس الرقص المعاصر مثلاً. لذا فمن السهل أن تجد عروضًا للرقص المعاصر في مسارح القاهرة، لكن عروض الرقص الشرقي مقتصرة على النوادي الليلية.
[caption id="attachment_140131" align="alignnone" width="1000"]
الراقصة جوهرة[/caption]
المشكلة الثانية التي تواجهها الراقصات الشرقيات في مصر، هو نظرة المجتمع لمن تعمل في النوادي الليلية، وهي نظرة سلبية. عادةً يُنظر إليهن كبائعات جنس، لذا فالراقصات الشرقيات لسن مشهورات لأنهن سيواجهن مشاكل بسبب تلك الشهرة.
لكن هناك من الراقصات من يعملن في بيع الجنس؟
هناك ممن يقال إنهن راقصات يعملن في هذا المجال، لكن لا يعني هذا أنهن راقصات محترفات، فالراقصة المحترفة لديها تقدير لما تقوم به ولما بذلته من مجهود طوال حياتها، لأنها عملت وتمرنت لتكون راقصة محترفة. كما أن وجود من يعملن في بيع الجنس وفي مجال الرقص، أو إن شئنا الدقة في التعبير، من يحصلن على المال من خلال أنشطة ترفيهية عبر أجسادهن، لا يعني أن الراقصات "بغايا"، فهذا منطق مغلوط ومشوش، مثل المزج بين الدين والتقاليد، هذا عادة يحدث هنا وهو منطق مشوش أيضًا، فالدين أمر والتقاليد أمر آخر.
ما الذي قد يواجهه الراقص المحترف في مصر، وفي القاهرة تحديدًا؟
لا يواجهون مشاكل عادة، لأنهم ملتصقون بوسط ثقافي منفتح يقبلهم ويقدّر ما يقومون به. لكن إذا خرجوا عن هذا الوسط فسيواجهون العديد من المشاكل، أقلها خطورة هو أنهم لن يستطيعوا القيام بعملهم وسينظر الناس لما يقومون به على أنه مزحة أو أمر ليس جديًا.
لا يقتصر دور مدربي الرقص في مصر على تعليم الحركات الراقصة بل عليهم أولا أن يعلموا المصريين الثقة بأنفسهموماذا عن مدرب الرقص؟ الراقص المحترف وضعه أصعب من مدرب الرقص، فمدرب الرقص لا يتم إطلاق الأحكام عليه، ومن يأتون للتعلم أو للاكتشاف سيستمرون إن أحبوا الرقص وأصبح لديهم وعي به، فإن لم يرقهم ذلك ينسحبون بهدوء. هل زرت ملاهيَ ليلية في مصر؟ أزور الملاهي الليلية في مصر، وهذا أمر طبيعي في بلدي. من يزور الملاهي الليلية في مصر من المصريين؟ أشخاص يرغبون في الاستمتاع بوقتهم والاسترخاء، لا أكثر. إذاً، فإن الوضع في مصر يشبه الوضع في بلدك في هذا المجال؟ لا، لا يمكنك المقارنة بالطبع. لأن الوضع الظالم في مصر يجعل المرء ينفجر عند قيامه بأي شيء، ففي حالة تناول الكحوليات –على سبيل المثال- نجد أن المصريين لا يستمتعون بالشراب، بل يشربون حتى الثمالة. ذلك يرجع لأنهم لم يعتادوا أو يتعلموا ثقافة الاستمتاع بالكحوليات. تطرقت نتاليا إلى القهر الذي يتعرض له المواطن المصري في عدة إجابات، فطلبت إيضاحًا، فقالت: "المصريون يتعرضون لاضطهاد وظلم كبيرين، لذلك من الصعب أن يرقصوا، فالرقص هو حرية التعبير بأجسادنا عن مشاعرنا المختلفة، وعندما ترقص فإن جسمك يفرز الأدرينالين الذي يولد الحماس والسعادة. لذلك لن تجد أي شخص في العالم يرقص ويشعر بالحزن، إلا إذا كان الرقص هدفه التعبير عن مشاعر الحزن، وهو هنا يعتبر نوعًا من العلاج، وفي النهاية هذه العاطفة أو الإحساس سوف تخرج. لذلك إن من يأتون إلى دروس الرقص خائفون أن يكونوا ما يريدون حقاً، بسبب أنهم يخافون من أن يكون ذلك الذي يريدونه خطأ أو أنهم لن يستطيعوا ذلك. ولهذا السبب لا يقتصر دور مدربي الرقص في مصر على تعليم طلابهم وكيفية أداء الحركات الراقصة، بل عليهم أولًا أن يعلموا المصريين الثقة بأنفسهم. على مدربي الرقص أيضًا أن يعلموا المصريين أنهم يرقصون كي يستمتعوا بالرقص. فليس من حق أحد أن يحكم عليهم إن كان رقصهم جيداً أم لا. وعندما يكتسب المتدرب ثقته بنفسه ويعي جسده سيتمكن من أن يرقص وسيستطيع المدرب أن يعلمه خطوات الرقص". هل معنى ذلك أن المصريين يسيرون عكس فطرتهم؟ أجل، وذلك يرجع للعديد من الأحكام التي يفرضها الآخرون، فيقولون هذا لا يصح وذلك لا يجوز. ولكن ما لا يعرفونه هو أنهم –في النهاية- سيقومون بذلك الشيء الذي يمنعونه عن أنفسهم، ولكن حينها سيقومون به بشكل غايةً في السوء. فإذا لم يكن للمرء أي اتصال بالجنس الآخر فلأن كل من حوله يقولون إن ذلك لا يصح. وإذا نظر شخص من الجنس الآخر إليه بابتسامة فيصبح مجنونًا، في الوقت الذي كان الشخص من الجنس الآخر –في أغلب الأحيان- يتعامل بكياسة لا أكثر ولا أقل. وهذا هو القمع الذي يمارسه المصريون على أنفسهم. لا أحد يدفعك للتفكير في تلك الأمور بل الثقافة السائدة هي التي تجعلك تفكر بهذا وتقمع ذاتك. المصريون هم باحثون عن الإنسانية لأنهم يفتقدونها، فكل منا يحتاج إلى الناس وإلى الحب وإلى أن يكون لدينا حبيب، لا يمكننا نكران ذلك. لكن ما يحدث هو أننا نقمع مشاعر الحب لدينا، كيف لا نستطيع مثلاً أن نحضن أو نقبل من نحب في العلن، وأن نظهر حبنا له، هناك لحظة أو موقف لا يمكن أن يتكررا، وليس منطقيًا أن نقول فلننتظر حتى نصل إلى مكان مغلق أو أن نصل إلى المنزل، لأن المشاعر تتدفق في لحظة معينة، وإذا قمعتها فأنت تسير عكس فطرتك الانسانية لانك تقمع مشاعرك بدل من التعبير عنها. ما الذي يخشاه من يأتي إلى دروس الرقص؟ ما لمسته هو أنهم يخشون من الفشل ومما قد يقوله الناس عنهم، واعتقد أن هذه هي أكبر مشكلة، لأن المصري يفكر في ما يقول الآخرون عنه. وإذا استطعنا تغيير ذلك المنطق، فسيعيش الناس هنا في سلام. دلفت إلى دروس الرقص معها، فوجدتها –إلى جانب شرحها كيفية أداء الحركات الراقصة- تتحدث عن المحاضرات التي انخرطت فيها عن الرقص، وتفاعل الجسد مع الموسيقى، وكيف أن الحركة مع الموسيقى تولد لدينا وعيًا من نوع جديد هو وعي بأجسادنا عبر مشاعرنا، أو وعي بمشاعرنا عبر أجسادنا. تحدثت معنا عن فترة ستشق فيها أجسادنا طريقها في التعبير حالما يكتمل وعينا به. مع نتاليا، لم أجد كثيرين –مما أبدوا حماسة في الاشتراك معها- ممن يريدون الاستمرار. وجدت دهشةً وخجل كثيرين من حركات بدت لها طبيعية، وكانت تمضي وقتًا في الحديث معهم عن تلك الحركات وعدم الخجل منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...