كانت أشعة الشمس حارقة في صيف 1954، ولم يكن كل شيء على ما يرام. المناخ السياسي العام كان مفعماً بالتوتر في ظل مفاوضات جلاء البريطانيين عن الأراضي المصرية، والخلاف الدائر بين اللواء محمد نجيب والزعيم جمال عبد الناصر كان في أوجه. ولم تخفّف قبلات فاتن حمامة لعمر الشريف في فيلم "صراع في الوادي" من وطأة التجاذبات السياسية حينذاك. في يناير 1955، أسدل الستار على قضية سوزانا التي تورّط فيها 13 يهودياً حوكموا في دار القضاء العالي بتهمة التجسس.
عدد جريدة الأهرام يوم صدور الحكم على المتهمين في فضية لافون
بحسب صحيفة "الأهرام"، أثارت جلسة النطق بالحكم خوف المتهمين، وظهر ذلك على أوجههم: مارسيل مصفرة الوجه، ود. موسى مرزوق كان أكثر المتهمين وجوماً وجلس صامتاً مطأطئاً رأسه، أما صمويل عازار فراح يصلّي. بدأت أعناق المتهمين تشرئب حينما دخل قاعة المحكمة البكباشي إبراهيم سامي معلناً في 27 يناير 1955 الحكم بالإعدام شنقاً لموسى مرزوق وصمويل عازار وبالأشغال الشاقة لمجموعة من المتهمين، وببراءة بعضهم. لم يشر الحكم إلى أفراهام دار وبول فرانك، وتجاهل ماكس بينيت الذي انتحر في سجنه قبل موعد الجلسة.
ظروف الفضيحة
مطلع عام 1954، كان الخوف الإسرائيلي من المستقبل عارماً، خاصةً أن الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور لم يكن فاتحاً ذراعيه لإسرائيل لأنه كان يأمل بفتح قنوات جديدة مع عبد الناصر، بينما كانت بريطانيا على وشك سحب قواتها المرابطة في السويس، حسبما يذكر الكاتب الإسرائيلي يوسي ميلمان في كتابه "الجواسيس". بين هذا وذاك، كان كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية دايفيد بن غوريون ورئيس الأركان موشي دايان يعتقد بأن الدول العربية تفكر جدياً في الانتقام من الدولة العبرية الوليدة لاستعادة كرامتها المهدورة في حرب 1948، يقول محمد حسنين هيكل في كتابه "ملفات السويس".وثيقة مرفقة في كتاب محمد حسنين هيكل "حرب الثلاثين سنة - ملفات السويس
وفي تلك الظروف، عقدت إسرائيل النية على ضرب مصر عن طريق تنفيذ خطة وُضعت في شعبة الاستخبارات العسكرية بالجيش، تقضي بتفعيل مجندين شباب ليرتكبوا اعتداءات ضد دور السينما والمؤسسات العامة المصرية والمراكز الثقافية وسيارات الدبلوماسيين والرعايا الإنكليز. وكان الغرض الأساسي من ذلك تحطيم ثقة العرب والعالم بالنظام المصري الفتي ومنع الغرب من تقديم المساعدات العسكرية له، بحسب الباحثة ليفيا روكاخ في كتابها "الإرهاب الإسرائيلي المقدس". كان بن غوريون في تلك المرحلة قد ترك رئاسة الوزراء واعتكف في مستوطنة بصحراء النقب، قبل أن توضع الخطة في إطارها التنفيذي، بسبب خلافات سياسية. ولكن أعوانه في الحكومة لم يتورّعوا عن تزوير توقيع وزير الدفاع الجديد في وزارة موشي شاريت بنحاس لافون على الأوامر التنفيذية للعملية، حسبما تروي ليفيا روكاخ.
مرحلة وضع القنبلة في السينما
إشارة البدء
عقارب الساعة تعلن السابعة من مساء 16 يونيو 1954. أذاع برنامج "ربات البيوت" على راديو إسرائيل حلقة عن طريقة صناعة الكيك الإنكليزي، ما يعني أن توقيت تنفيذ العمليات التخريبية قد حان. فقد كان هذا البرنامج يقدّم التعليمات لأعضاء الخليّة بطريقة مشفّرة. بطل القضية هو إيفري جلعاد الذي كان يعمل قائداً لسرية في الجيش الإسرائيلي. سُرّح من الجيش عام 1951 على خلفية اتهامه بسرقة ثلاجة، فانضم إلى الوحدة 131 المتخصصة بتنفيذ عمليات التخريب والدعاية السوداء عبر خطوط "العدو"، يذكر كتاب "الجواسيس". وبموجب تعليمات شعبة الاستخبارات، وصل جلعاد إلى الإسكندرية مطلع عام 1954، وأصبح وكيلاً لشركة إلكترونيات ألمانية في مصر مستخدماً اسم الرائد بول فرانك الذي فُقد أثره بعدما أرسلته الاستخبارات الألمانية إلى فلسطين. وأيضاً، قام المقدم مردخاي بن تسور، المسؤول عن الوحدة 131، بتجنيد الرائد أفراهام دار المعروف بخدماته الجيدة في تنشيط الهجرة اليهودية من أوروبا إلى إسرائيل، وبدأ نشاطه في مصر بجواز سفر بريطاني يحمل اسم "جون دارلينغ" وأنشأ خلية جاسوسية في القاهرة والإسكندرية. عقارب الساعة تقترب من الساعة 11 من صبيحة الثاني من يوليو 1954. تقدم فيليب ناتانسون بخطوات واثقة نحو صندوق بريدي بالإسكندرية واضعاً لفافة صغيرة فيه ومحاولاً السيطرة على خوفه بمضغ العلكة. في نفس التوقيت تقدم فيكتور ليفي وروبير داسا إلى صندوق بريد مجاور وألقيا فيه بلفافات مشابهة. احترق مكتب البريد الأمريكي في الإسكندرية وسقط ضحايا. حينما ذهب الضابط في المباحث العامة الرائد ممدوح سالم إلى موقع الحادث، عثر على جراب نظارة يحتوي على قطع صغيرة من الفوسفور الأحمر، أي أن الحريق نتج عن تفاعل كيميائي متعمد. ولكن الصحافة لم تهتم بالأمر، حسبما يروي عادل حمودة في كتابه "عملية سوزانا". مساء 14 يوليو، دخل داسا مكتبة المركز الثقافي الأمريكي في الإسكندرية، برفقة فتاة يافعة مثيرة، تاركاً وراءة جراب نظارة. في توقيت واحد تقريباً، اندلعت حرائق في المكتبتين الأمريكيتين في القاهرة والإسكندرية، فأصيب بعض العاملين فيهما وبعض زوارهما. وتحدثت الصحافة عن تماس كهربائي.ضربة حظ
في مساء 23 يوليو 1954، صنعت ضربة حظ صدفة حسنة. كان النقيب حسن المناوي، معاون مباحث قسم العطارين، يمرّ مروراً عابراً في شارع فؤاد بالإسكندرية، وفجأة تعالت أصوات استغاثة. كان الجاسوس فيليب ناتانسون يندفع من داخل سينما ريو والنار تلتهم سرواله. تدخل الضابط وألقى به أرضاً وظل يلف جسده على الأرض حتى انطفأت النار. حينما شرع الشاب في نفض سرواله وفي يده جراب نظارة، تناثرت حبيبات من مسحوق أسود اللون على الأرض. سقط أحد أعضاء الخلية. وفي أروقة قسم العطارين، وشى ناتانسون بصديقه ليفي معترفاً بأنه عضواً في خلية إسرائيلية، يقول أحمد عادل، رئيس وحدة الدراسات في "مجموعة 73 مؤرخين" لرصيف22.مساء 16 يونيو 1954، أذاع برنامج "ربات البيوت" على راديو إسرائيل حلقة عن طريقة صناعة الكيك الإنكليزي. كان ذلك إشارة إلى بدء تنفيذ عمليات تخريبية في مصر...
كان النقيب المصري حسن المناوي يمرّ بالصدفة في شارع فؤاد بالإسكندرية، مساء 23 يوليو 1954، فشاهد شخصاً يندفع خارج سينما ريو والنار تلتهم سرواله. إنه فيليب ناتانسون، أول من ألقي القبض عليه في خلية عملية لافونكان من المخطط له في ذلك النهار وضع متفجرات في محطة القطارات ومسرح ريفولي في القاهرة، وسينما مترو وسينما ريو في الإسكندرية. داهمت قوة أمنية منزل فيليب، وعثرت فيه على صورة فوتوغرافية كُتب على ظهرها "فيكتور، روبير، فيليب: أصدقاء إلى الأبد"، وعلى أفلام فوتوغرافية تشرح طرق صناعة القنابل وشفرة اللاسلكي. صدرت تعليمات بالقبض علي الصديقين. حين دخل روبير داسا إلى منزله، تفاجأ بأيادٍ قوية تمتد إليه وبفوهة سلاح موجّهة صوبه. كان قد وضع قنبلة حارقة في حقيبة في مخزن أمانات سكة حديد القاهرة. ويروي عادل لرصيف22 أن الأصدقاء الثلاثة أصروا أمام سلطات التحقيق على أنهم أشعلوا الحرائق لإرغام الإنكليز على الرحيل. أثبت تقرير المعمل الجنائي أن أغلفة النظارات مُلئت بمادة كلورات البوتاسيوم وزنك معدني وأكسيد الحديد ومسحوق معدن الألومنيوم. رافق فيكتور ليفي ضباط مباحث إلى مقر الشبكة في الإسكندرية للبحث عن الجهاز اللاسلكي ولكن لم يعثروا عليه. اعترف فيكتور على صموئيل عازار واتهمه بسرقة الجهاز. ظل رجال الأمن قابعين في المكان حتى قبض على الأخير ليلة 27 يوليو، بحسب كتاب "عملية سوزانا". وأوقع صموئيل بالشخص الخامس، حين اعترف أن أموال الشبكة في الإسكندرية بيد مائير صمويل ميوحاس الذي اشترى محتويات صنع القنابل الحارقة بـ500 جنيه. من خلال اعترافات ميوحاس، تمكّن الأمن المصري من القبض على الطبيب موسى مرزوق، مؤسس الشبكة في القاهرة. بدأ يتساقط معظم الأعضاء: مارسيل وماكس بينيت وإيلي جاكوب ومائير زعفران ويوسف كوهين. ولكن لم يُقبض على أخطر عضوين في الشبكة، جون دارلينغ، ضابط بالجيش الإسرائيلي، وإيفري جلعاد، إذ تمكنا من الهرب. كانت الفتاة اليافعة مارسيل حلقة الوصل بين التنظيم في مصر والقيادة العليا في باريس وبلغت جملة ما تلقّته ألف جنيه، يقول إيربش فولات في كتابه "عمليات الوحدات السرية الإسرائيلية". قبل المحاكمة، فتح السجان أحمد ظاهر باب زنزانة ماكس بينيت، بعدما سمع أنيناً خافتاً، ليلة 21 ديسمبر 1954، فوجد المتهم يلفظ أنفاسه والدماء تنزف من يده. زار ماكس مصر ثلاث مرات، آخرها عام 1953، مرسخاً علاقات مع قيادات في الجيش المصري بحجة جلب الأطراف الصناعية من ألمانيا لعلاج مشوهي الحرب، حسبما قال ريتشارد ديكون في كتابه "الخدمة السرية الإسرائيلية".
صفقة تبادل
يدحض موشي شاريت ما زعمته الدعاية الصهيونية عن تعذيب أعضاء الشبكة في يومياته ويقول: لا يمكننا أن ننكر أن مواطنينا المعتقلين لاقوا معاملة إنسانية. وبحسب الكاتب البريطاني ديفيد هيرست في كتاب "البندقية وغصن الزيتون"، استُقبل أعضاء الشبكة (ما عدا مرزوق وعازار اللذين أُعدما في 31 يناير 1955) في إسرائيل كالأبطال، بعد عملية تبادل أسرى بين مصر والدولة العبرية عام 1968. وفي حفل زفاف مارسيل، حضر وزير الدفاع موشي ديان وقال للعروس: حققت حرب الأيام الستة نجاحاً كافياً إذ أدت إلى إطلاق سراحك. عام 1955، استُدعي إيفري جلعاد على عجل للإدلاء بشهادته حول القضية، فقال إن عبء العمليات الفاشلة يقع على كاهل أعضاء الخلية في مصر. وفي مذكراته بعنوان "انحطاط الشرف"، برّر شهادته الكاذبة بالتزامه بأوامر موشي ديان لإنقاذ صورة إسرائيل، مدعياً أن الموساد سعى إلى كشف شبكة عملاء "مودعين" في مصر لإلحاق الخزي والعار بجهاز استخبارات الجيش ولسحب السيطرة التي كان يتمتع بها. وكتب السكرتير العسكري لبن غوريون، الجنرال نحميا أرغوف، في 18 أكتوبر 1954، حسب وثيقة سرية رُفعت السرية عنها مؤخراً، "أنشأنا وحدة للتخريب تعمل كوحدة كوماندوز خلف خطوط العدو". وقال إن لافون أوعز لهذه الوحدة بأن تعمل ضد الأهداف البريطانية في مصر "لخلق الانطباع بأن إسلاميين هم مَن نفّذوا تلك العمليات، ما يؤثر بالسلب على العلاقات بين الدولتين". وكانت الصحافة الإسرائيلية قد فتحت أوراق القضية بعد سنوات طويلة، مؤكدة أن العملية تمت عن طريق تزوير موشي ديان لتوقيع لافون. في أواخر السبعينيات، ظهرت مارسيل ومائير زعفران وداسا على التلفاز وهاجموا دولتهم واتهموها بأنها لم تبذل جهداً كافياً لإطلاق سراحهم، يوضح مؤسس مجموعة 73 مؤرخين. ويحكي موشي شاريت في يومياته عن الصراع بين القيادات العسكرية ويقول: لم أتخيل أن نصل إلى هذه الحالة المريعة من العلاقات المسمومة. أما في مصر، فقد سرّعت "قضية لافون" عملية إنشاء جهاز المخابرات العامة، عام 1955، تحت إشراف زكريا محيي الدين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 21 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...