قبل عدة أشهر، أصبحت ألاحظ بعض الأشياء التي تحدث في حياتي من دون أن أدرك كيف ولماذا. ولكني أودّ أن تحدث.
أحياناً، يأمر الجسدُ عقلك بالاستسلام التام لمشاعرك إذا كان هذا الاستسلام يشعره بالسلام النفسي. حينذاك، يستجيب العقل فوراً ولا يحاول التفكير في أسباب أو عواقب أفعالك، لأن غايته أن يراك مطمئناً.
أصبحتُ أقبل دعوة هذا الزميل الذي يكبرني بأربعين سنة لنلتقي أسبوعياً في مقهى ونتحدث، رغم أننا التقينا مرتين في السابق، ورغم أنني لم أكن يوماً من رواد المقاهي.
صرت اقتطع بعضاً من وقت عملي ومشاريعي وأفضل مجالسته على مجالسة أصدقائي المقربين لأستمع إلى حديثه الممل أحياناً حول أمور قد لا تعنيني. ولكني أفعل ذلك بحب، وكأنه يحدثني عن قضايا مصيرية في حياة البشرية، ويطرح حلولاً عبقرية لها.
وبتّ أرافق تلك الفتاة التي تعرف أني لم أبادلها قط مشاعر حب رومانسية، ولكني أستمتع بتناول العشاء معها غير مكترث لما أصبح يتهيأ لكثير من الناس بأنها مواعدة عاطفية.
هنا بدأ العقل يدرك جيداً أن هناك أنشطة جديدة وغريبة طرأت على حياتي ورغم ذلك لم يسقطها تماماً من حساباته.
قرر فقط أن يتجاهلها خشية أن تداولها ومعرفة أسبابها وربما إدراك عواقبها قد تدفع الجسد للتوقف عن فعلها، وحينها سوف أفقد حالة السلام النفسي التي أعيشها.
أعي تماماً أن جميع أجزاء الجسد تعمل من أجل راحتي.
بعد شهور على فعل هذه الأشياء الغريبة والممتعة في الوقت نفسه، قرر العقل أن يكون جريئاً لا متشائماً، ويفكر في أسباب ودوافع ما يحدث من أنشطة غير منطقية.
فحين لاحظ أن الجسد قد اعتاد هذه الجرعة المحددة من السعادة وأصبحت لا تكفيه، لأنها قليلة مقارنةً بما كان يشعر به قبل بضع سنوات، كان عليه أن يتحرك من دون إبداء أي اعتبار لما يريده القلب هذه المرة.
تحرك لأنه يريد أن يدرك السبب، لعله يقدر على زيادة تلك الجرعة وليس بالضرورة التوقف عنها.
اكتشف العقل أن هذا الزميل يشبه أبي كثيراً، بعينيه الصغيرتين وحديثه المتزن وحسه الفكاهي العفوي، بغض النظر عن أهمية ما يطرحه من قضايا.
أما تلك الفتاة فتحمل براءة وتسامح روح أبي النادرة، خاصة وهي تحدثني بعقل مهندس الديكور المبدع، الذي يملك أيضاً روح طفل تحب كل الناس وتخاف كثيراً على مشاعرهم.
ثمة حقيقة ثابتة: نحن لا نستطيع استبدال من نحبهم بأشخاص آخرين. لكننا قد نجد من يشبهونهم من دون أن ندري.
من خلال مجالستهم برغبة قهرية تتولد من صميم مشاعر صادقة لا يمكننا التحكم فيها ومقاومتها، نساعد قلوبنا الجريحة، ولو مؤقتاً. قلوبنا التي تتمنى لو يعود الزمن للوراء لتستعيد وهجها وتنبض مجدداً على إيقاع اللهفة والبهجة كما كانت تفعل عندما كنّا نلتقي أولئك الذين عشقنا استنشاق أنفاسهم الدافئة.
ولأن قلوبنا باتت تدرك أنها لم تعد تستطيع أن تحظى بتلك اللحظة المثالية ولو لمرة واحدة، فذاك البديل هو ربما دواء علتها الوحيد كي تبقى متماسكة، أو ربما تتظاهر بذلك.
إن قلوبنا تحتال علينا بدهاء وتتحكم في سلوكنا وتحركنا قسراً بصياغة متقنة من دون أن ندرك لماذا تفعل ذلك، حتى نستطيع أن نصنع الحب مجدداً ولو بدرجات أقل.
لن يساوي أحدٌ من الناس أحباءنا الحقيقيين، ولكن القلوب تفعل ذلك حتى نستمر وتبقى حياتنا نابضة.
فإلى ذلك الزميل وتلك الفتاة، إني أحبكما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...