في المصعد، في المناسبات الاجتماعية، في صالات الانتظار، عند الطبيب أو في المطار، غالباً ما نواجه مواقف تحتّم علينا الدردشة مع الغرباء، فننخرط معهم في أحاديث سطحية قد تكون بلا معنى، لكن هدفها الوحيد كسر لحظات الصمت الحرجة.
وإذا تعمّقنا في ما نذكره من عبارات لاكتشفنا أننا نتفوّه في معظم الأحيان بكلمات لا نفكر في معانيها، حتى أننا نطرح الأسئلة ولا ننتظر الإجابات عليها. هذا الأمر ينطبق على ما يعرف بالـSmall Talks، حيث الأحاديث في الغالب فارغة من أي مضمون.
فما تأثير هذه الكلمات التي تبدو سطحية على العلاقات الاجتماعية؟ via GIPHY
الطقس غائم جزئياً
تخيّلوا أنفسكم جالسين في صالة مغلقة وإلى جانبكم شخص غريب، لا تعرفون عنه شيئاً. في البداية ستحاولون تفادي الكلام عن طريق التفرّغ للموبايل. قد ينجح المخطط وتمضي الدقائق الأولى بلا كلام، إلا أن لحظات الصمت قد تكون قاتلة، فتقررون حينها كسر الجليد والشروع بالدردشة. ولكن ما أول موضوع يخطر على البال طرحه مع شخص مجهول لا تعرفونه؟ بالطبع لن تدخلوا معه في أحاديث سياسية، كما أنكم لن تحاولوا حلّ قضية الشرق الأوسط، وحكماً لن تفصحوا أمامه عن أسراركم الشخصية. جلّ ما ستحاولون طرحه موضوع "لايت" لا يثير الحساسيات والنعرات. يوضح موقع "ويرد" أن غالبية المحادثات القصيرة تدور في العادة حول السفر، الإصلاحات المنزلية، والطقس. وتفيد دراسة أجرتها عالمة الأنثروبولوجيا كيت فوكس عام 2010 في بريطانيا، بأن تسعة من أصل عشرة أشخاص تناولوا في أحاديثهم خلال الساعات الست السابقة على طرح السؤال عليهم حالة الطقس، وكشفت أن 38% منهم خاضوا في الموضوع خلال الساعة الأخيرة منها. يعتبر الطقس من المواضيع السهلة للناس، ونلاحظ أن الغرباء حين يجتمعون في مكان واحد، يتحولون فوراً إلى خبراء أرصاد جوية، يطلقون توقعاتهم ويقيسون نسبة الأمطار المتساقطة خلال السنة الحالية ويقارنونها بنسب السنوات السابقة. صحيح أن الأحوال الجوية قد لا تعنيهم إلى هذا الحدّ، ويدركون جيداً أن هذه الأحاديث بلا فائدة، إلا أنهم يحاولون قدر الإمكان إيجاد قاسم مشترك للدردشة من دون إطلاق الأحكام والغوص في الخصوصيات. ويوضح الموقع أن أحداً لن يخاطر بنفسه اجتماعياً في هكذا مواقف، ويطلق العنان للبوح بأسراره والتحدث عن مشاكله الشخصية أمام أيٍّ كان. لذا تكون الأحاديث السطحية القصيرة البديل الوحيد.تغيير قواعد الدردشات
حاول الباحثان دان إيرلي وكريستين بيرمان تغيير قواعد اللعبة من خلال تنظيم حفل عشاء وفرض قواعد صارمة فيه، أهمّها حظر الدردشات الجانبية القصيرة وتحديد موعد وصول الضيوف. طلب الباحثان من الحضور الوصول فقط بين السابعة والنصف والثامنة مساءً، كما منعا الدردشات السطحية بشكل تام. التزم الضيوف بهذه القواعد الصارمة، وبعد وصولهم إلى الحفل في الوقت المحدد لم يخوضوا في دردشات جانبية، بل لجأوا إلى طرح قضايا عميقة كمسألة التبرع بالأعضاء، الانتحار، ومحاسبة المسؤولين الحكوميين. via GIPHY شعر المدعوون أن القواعد الصارمة التي اتّبعوها لم تقيّد حريتهم، بل على العكس جعلتهم أكثر انفتاحاً ومنحتهم حرية مناقشة المواضيع التي يرغبون في تناولها. واللافت أن هذه المواضيع الجدّية ساهمت في توثيق علاقاتهم بزملائهم.وسيلة تفاوض
بالرغم من نتائج هذه التجربة، يشدد البعض على أن الدردشات القصيرة ذات قيمة حقيقية لأنها تشجع على تبادل الأفكار والتفاعل مع الآخرين. ففي كتابها Small Talk، تناولت الدكتورة جوستين كوبلاند، الخبيرة في مجال علم اللغة الاجتماعية، التأثير القوي والإيجابي للدردشات القصيرة على التفاعل الاجتماعي ورأت أنه "لا يمكن اعتبار الأحاديث القصيرة هامشية أو ثانوية، بل هي وسيلة يمكن من خلالها التفاوض على العلاقات الشخصية". أما نيكولاس إيبلي، أستاذ العلوم السلوكية في جامعة شيكاغو، فقد ذهب أبعد من ذلك، إذ انطلق من نظرية أرسطو بأن "الإنسان بطبيعته حيوان اجتماعي"، معتبراً أن شعور الفرد بالارتباط الاجتماعي يزيده سعادة وصحة: "يمكن للناس أن يحسّنوا رفاهيتهم ورفاهية الآخرين بمجرد أن يكونوا اجتماعيين أكثر مع الغرباء".قواعد بسيطة
لإتقان لعبة الـSmall Talk لا بدّ من اتّباع بعض القواعد البسيطة مثل: via GIPHY - تكرار اسم الشخص الذي تخاطبونه عند تجاذب أطراف الحديث معه، ما يعطيه انطباعاً بأنكم منتبهون لأدق التفاصيل، كما أنه يكسر الجليد بينكم. - الانتباه إلى لغة الجسد عند الانخراط في أحاديث قصيرة. لا بدّ من الانتباه إلى لغة الجسد وخصوصاً حركات اليدين، إذ إن إبقاءهما مفتوحتين يعدّ من علامات الصدق والرغبة في تبادل الثقة. - تلازم اتصال العيون والابتسامة. - طرح أسئلة مفتوحة. - الإيماء بالرأس لتحفيز الطرف الآخر على متابعة حديثه. - إعادة صياغة كلام الطرف الثاني وتلخيصه كدليل على الانتباه وفهم وجهة نظره. الدردشة القصيرة تجعلنا ننخرط في اللحظة الراهنة مع الآخرين، إذ إن تلك الدقائق الأولى من التواصل قد تشكل انطباعاً أولياً إيجابياً يؤجج الرغبة في معرفة المزيد عن الطرف الآخر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...