شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
في عُرف المجتمع المصري: السجن يصنع الرجال ويوصم النساء

في عُرف المجتمع المصري: السجن يصنع الرجال ويوصم النساء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 3 أبريل 201806:23 م
"أنا رميت نفسي في النار عشان خاطر جوزي، وهو راح اتجوز وعاش حياته"، بمرارة لا يعرفها إلا من ذاق طعم السجن المغموس بالذل والوصمة تحكي فاطمة (اسم مستعار) قصتها. وقّعت إيصالات أمانة بقيمة 13 ألف جنيه لمساعدة زوجها في تجاوز عثرة مالية، وسُجنت لعجزها عن السداد. حينذاك، كان الزوج أول من تبرأ منها، بحسب قولها. بمساعدة جمعية رعاية أطفال السجينات، سُددت ديون فاطمة وخرجت من السجن، لكنها تقول: "خرجت ومعرفتش أروح فين"، فالزوج رفض أن يُدخلها المنزل. وساعدتها الجمعية مرة ثانية في استئجار شقة، وألحقتها بعمل في ورشة تدريب وتشغيل تابعة لها بحي الهرم في محافظة الجيزة التي تبعد من بيتها القديم في محافظة المنيا نحو 230 كيلومتراً، بعيدة من أطفالها الذين حرمها الزوج من العيش معهم، ورؤيتهم إلا في زيارات قصيرة بين الحين والآخر. على الرغم من قصة فاطمة المحزنة، إلا أن حظها أفضل من حظوظ آلاف السجينات السابقات اللاتي خرجن من سجن صغير إلى سجن أكبر هو "سجن الوصمة"، وفق ما تقول نوال مصطفى رئيسة جمعية رعاية أطفال السجينات لرصيف22. "المجتمع لا يرحم السجينة السابقة فهناك من يتبرأ الأهل منها، وينكرها الأبناء ومن يلفظها الزوج ومن تفقد مصدر رزقها ويرفض أصحاب العمل توظيفها، ما يدفع بنساء كثيرات إلى العودة إلى السجن مرة ثانية". [caption id="attachment_139212" align="alignnone" width="700"] جلسة تدريب في القناطر[/caption] تحاول الجمعية مساعدة السجينات السابقات قدر المستطاع من خلال توفير فرص عمل لهن لتمكينهن اقتصاياً وتأهيلهن نفسياً على الاندماج في المجتمع مرة أخرى، وهناك 220 سجينة سابقة توفر لهن الجمعية فرص عمل ورواتب شهرية في الوقت الحالي. لكن إعادة دمج السجينات السابقات في المجتمع تتطلب أكثر من توفير وظيفة ومسكن، وتستلزم بالضرورة تغيير النظرة المجتمعية الواصمة لهن. لذلك، نظمت الجمعية، بالتعاون مع مشروع بصي (هو مشروع فني يهدف إلى خلق مساحة حرة للسيدات والرجال في مصر للتكلم عن التجارب الشخصية المسكوت عنها في المجتمع) عرضاً فنياً استمر لثلاثة أشهر، عنوانه المكان ده، يحكي قصص 11 سجينة سابقة من خلفيات متنوعة.

المكان ده

لم تكن هناك خشبة مسرح ليُقدم من خلالها عرض مسرحية "المكان ده" في شهر فبراير، والتي نظمتها جمعية رعاية أطفال السجينات، لذلك استأجرت شقة في منطقة وسط القاهرة، طليت غرفها باللون الأسود. تدخلون من باب أسود ضخم لممر ضيق يغطيه السواد تتفرع منه تسع غرف صغيرة باللون نفسه، الإضاءة فيه صفراء تحاكي محتوياتها غرف السجون الحقيقية. داخل إحداها زي السجينات الأبيض معلقاً على الحائط، وفي أخرى جردل معدنى للتبول، وفي أعلى الحائط كتبت إحدى السجينات جملة: "هافضل طول عمرى شايله عار إنى كنت مسجونة". كانت هذه هي الطريقة التي اختارتها مخرجة العرض التفاعلي سندس شبايك لجعل الحضور يعايش الحياة الحقيقية لسجينات داخل السجون. وعبر أجهزة Mp4، استمع الزوار إلى قصص رويت على ألسنة حكاءات تدربن على حكي القصص. INSIDE_EgyptWomenPrisoners4 INSIDE_MakanDah3

وأنا محبوسة محدش كان بيجيلي

كلمات قليلة أخذت من قصص السجينات، عبّرت عن أثقال هائلة تطبق على صدورهن نتيجة الوصم المجتمعي حتى من أقرب الأقارب. "وأنا محبوسة محدش كان بيجيلي". براءة! أعمل أي بيها بعد ما خسرت بيتي وحياتي وسمعتي". "إخواتي فتحولي الباب وقالولي مش هتخشي، ملكيش حاجة هنا". "لقيت ابني بيقولي أنتي جيتي هنا ليه الناس؟ عارفة إنك كنتي محبوسة". https://soundcloud.com/user-828512809/ro3clqtod4bb تقول شبايك لرصيف22 أن العرض هو نتاج ورشة حكي لمدة ثلاثة شهور نظمتها "بصي" لمجموعة سجينات سابقات. وتعتمد فكرة العرض على محاكاة الحضور تجربة السجن من خلال المكان، لذلك حرصت على نقل روحه تماماً، فوضعت ملابس كتلك التي تصنعها السجينات داخل ورشة السجن، وأواني إعداد طعام متهالكة، ومروحة قديمة، و تفاصيل صغيرة كثيرة. INSIDE_MakanDah2

سجينات في مصر

لا يوجد إحصاء رسمي عن أعداد المسجونين في مصر، وقد ذكر تقرير لمؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان، نشره موقع اليوم السابع، أن أعداد السجناء في مصر تتراوح بين 50 و70 ألف سجين، موزعين على 45 سجناً في محافظات الجمهورية المختلفة، ولم يحدد نسبة النساء بينهن، وذلك عام 2012. في حين قدر المركز الدولي لدراسات السجون، في تقرير له عام 2016 عدد السجناء في مصر 62 ألفاً لتحل بذلك في المرتبة الـ26 بين الدول من حيث عدد السجناء. أما سجينات الفقر في مصر أو (الغارمات) بحسب ما يطلق عليهن فيمثلن نحو 25% من إجمالي الغارمين في السجون وفق وزارة التضامن الاجتماعي، إلا أن مصطفى تشكّك في صحة هذه النسبة وترى أن أعدادهن تتجاوز الـ40%. وقدرت من خلال مشاهداتها في سجن القناطر عدد سجينات الفقر بأكثر من نصف السجينات، لافتة إلى أن هناك 8 سجون فقط في مصر مخصصة للنساء. ويعد سجن القناطر أول السجون المخصص للنساء وأشهرها، أنشئ عام 1957، ويقع في مدينة القناطر الخيرية بمحافظة القليوبية على بعد 25 كيلومتراً من العاصمة القاهرة، ويحتوي على 10 عنابر كبيرة مقسمة حسب الجريمة. وهناك سجن دمنهور الذي يغطي الإسكندرية ومرسى مطروح والبحيرة. وسجن المنيا الذي يستقبل سجينات محافظات الصعيد، إضافة إلى سجون صغيرة تابعة بعض المحافظات. وتقول مصطفى أن القانون بحاجة إلى تعديلات لدرء الشر عن النساء الفقيرات المعرضات للسجن وحماية أسرهن من التشرد، لافتة إلى أنها أسست حديثاً "التحالف الوطني لحماية المرأة بالقانون" الذي يعمل حالياً على صوغ مشروع قانون لإلغاء العقوبة الجنائية لعدم سداد إيصالات الأمانة وإبدالها بعقوبات أخرى كالخدمة المدنية والتسديد من طريق الجمعيات الأهلية وعدم انتظار دخول المرأة السجن. وأشارت إلى أن هناك مقترحات أخرى بصدد العمل عليها، لكن الأولوية لهذا المشروع ومنها تأجيل تنفيذ الحكم في المرأة الحامل حتى تلد وتنتهي من رضاعة طفلها.

المرأة وثقافة العار

ترى شبايك أن المجتمع ربما يتسامح مع الرجل إذا أخطأ ودخل السجن، في حين أن المرأة إذا دخلت السجن حتى وإن كانت مظلومة توصم، وينكرها أهلها وأبناؤها. وأرجعت ذلك إلى طبيعة المجتمع المصري المحافظ، والذي لا يتسامح مع أي شيء يمس شرف المرأة وسمعتها بخلاف الرجل. وترى أن معاناة السجينة مع الوصمة تبدأ من داخل السجن، حيث تضطر للعمل لتوفير حاجاتها لنفسها بعد أن يتخلى عنها الجميع، وهو ما عبرت عنه إحدى السجينات بقولها: "جوه السجن محدش بيسندك إلا نفسك".

"سجن جردل"

أظهرت الورقة البحثية التي أصدرتها مؤسسة نظرة للدراسات النسوية عنوانها "للعنف سجون كثيرة: نظرة على تجارب النساء داخل السجون وأماكن الاحتجاز في مصر"، أن السجون المخصصة للنساء في مصر لا تتعدى الخمسة وتقع في محافظات رئيسية، ومنها ما هو غير مؤهل بالمرة لاستقبال السجينات. فمثلاً، العنابر، بحسب الورقة، في سجن طنطا لا توجد فيها حمامات، وإنما تقضي السجينات حاجتهن في جرادل لذلك يطلقن عليه "سجن جردل" حسب رواية (م. م). هذا إضافة إلى تكدس السجون وتحملها أضعاف طاقتها. فبحسب شهادة إحدى المشاركات في الدراسة، طاقة سجن دمنهور الاستيعابية 450 سجينة بحسب اللائحة، ولكن عدد السجينات يتعدى الـ1000. تقول الدكتورة فوزية عبدالستار، الأستاذة في القانون الجنائي في جامعة القاهرة، أن المساحة المخصصة للشخص في السجون لا تتعدى الـ50 إلى 70سم، في حين تحتل كل نزيلة في سجون النساء 30 سم فقط، الأمر الذي يؤدي إلى تناوب المسجونات على النوم بجوار الجرادل التي يتبولن فيها؛ نظراً إلى عدم وجود دورات مياه في الزنازين، مع العلم أن وزير الداخلية أصدر قراراً عام 1998، يقضي بتخصيص سرير ومرتبة وبطانية لكل سجين إلا أن القرار لم ينفذ. "كنت عشان أتقلب وأنا نايمة علشان أعدل نفسي لازم الصف كله يتقلب معايا، كنا لازقين في بعض زي الفراخ. ومرة واحدة قامت تعمل حمام اتكعبلت في واحدة نايمة فوقع الجردل اللي بنعمل فيه حمام على الأرض وغرقنا كلنا واحنا نايمين"، تقول إحدى المشاركات في التقرير.

خارج السجن كداخله؟

ذكرت الورقة أن وضع النساء في السجون وأماكن الاحتجاز في مصر لا يختلف كثيراً عن أوضاعهن خارجها، من حيث التعرض للعنف والتمييز والاستغلال في ظل مجتمع يحكمه المنطق الذكوري. وقد نقلت عن تقرير للمجلس القومي لحقوق الإنسان عام 2013، أن السجينات بمعظمهن دخلن السجن في تهم سرقة وحيازة مخدرات وقضايا أموال عامة وآداب، إضافة إلى جرائم قتل. تطرقت الورقة إلى معاناة السجينات من الوصمة المجتمعية داخل السجن وخارجه حتى من قبل أسرهن. وتقول مزن حسن، مديرة مؤسسة نظرة للدراسات النسوية لرصيف22، أن هناك سجينات كثيرات يتحملن عقوبة السجن لحماية عائلاتهن، وعلى الرغم من ذلك يتبرأ الأهل من السجينات لأنهن يجلبن لها العار بدخولهن السجن وتمتنع عن زيارتهن في أغلب الأحيان. وأشارت إلى أن السجينات السياسيات المنتميات إلى الطبقة المتوسطة أفضل حالاً من المنتميات إلى طبقات أقل تمكيناً من حيث الزيارات والوصم المجتمعي، إذ يجدن الدعم والزيارات المنتظمة من الأسر والأصدقاء والمحامين. وأضافت أن السجن يتسبب في تدمير حياة المرأة في أغلب الأحيان، من طلاق كثيرات إلى حرمان أمهات من رؤية أبنائهن، على عكس ما يحدث للرجل إذا سُجن، حيث يغلب العُرف الذي يقول أن "السجن يصنع الرجال" و "السجن للجدعان". وتتفق مزن مع مطلب جمعية رعاية السجينات باستبدال العقوبات الجنائية في قضايا الغارمات بإجراءات غير احتجازية، مع الأخذ في الاعتبار ما نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 11 بشأن عدم جواز سجن أي إنسان لمجرد عجزه في المادة عن الوفاء بالتزام تعاقدي.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image