رحل الزميل المصري الشاب رضا غنيم دون أن يبتعد. كانت قد أعجبته جملة: "غريب إن الموت أرحم من البعد، يمكن لأن الموت حاسم والبعد فيه احتمالات"ّ الواردة في إحدى حلقات مسلسل "ليلة". هذه الجملة التي سبق أن كتبها رضا على صفحته على فيسبوك، تحوّلت إلى اقتباس يحمل اسمه وصورته مرفقاً بكلمة: "وداعاً".
لم يعش رضا، أو "المشير" كما يلقبه أصدقاؤه، أكثر من 27 عاماً، ولكن ابن قرية ظهر التمساح بمحافظة البحيرة نجح في وضع بصمته على حيوات كثيرين من خلال كتاباته في صحيفة "المصري اليوم" ودوريات عربية ورصيف22.
مقالاته رأى فيها الخبراء في المهنة مؤشرات على موهبة قادمة ينتظرها مستقبل باهر، ولكن القدر تدخّل واختطفه.
لا توحي صورة رضا التي رافقت انتشار نبأ موته إثر إصابته بـ"غيبوبة سكّر" إلا بتفاؤل صاحبها وإقدامه على الحياة. ففلسفته العبثية كانت تقضي بألا يدخر جهداً للانبساط.
في كتاباته لم يكن يخاف الأنظمة، بل كان عن قصد يبحث عن مواضيع يبتعد عنها كثيرون لأنها جلّابة للمتاعب وكاسرة للتابوهات التي تحرّمها السلطة.
في المصري اليوم، الجريدة التي قضى فيها نحو ست سنوات، كانت لرضا صولات وجولات في ملاعب السياسة والتحقيقات الاجتماعية، أضاء فيها على قضايا كثيرة منها قضية المحبوسين من رابطة مشجعي نادي الزمالك.
وفي رصيف22، اكتشف حبه للتجوّل في ملاعب أخرى، ملاعب الأفكار التنويرية والثورية التي أفرزتها قراءاته لفؤاد زكريا ومراد وهبة.
أحب غنيم اقتناء الكتب مثلما أحب اقتناء السجائر "الزرقاء". كانت وسيلته للهروب من الواقع المحبط الذي هزم شباب جيله، وأداته للابتعاد عن تقاعس الأغلبية عن تقديم صحافة جادة تتناول القضايا الفكرية المؤثرة في مستقبل المصريين والعرب.
"عدو الصحافة التقليدية"
عاش غنيم سنواته الأولى في القاهرة في المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة حيث كان يدرس الإعلام. وخارجها تنقّل مع الأصدقاء بين بيوت عدّة في أحياء شعبية كفيصل والهرم وبولاق الدكرور. هذا ما يحكيه لرصيف22 أحمد عويس، صديق رضا منذ مرحلتي الدراسة والسكن. ويقول: "’اللي يحبه ربه يحبب فيه خلقه’. هذه المقوله تنطبق تماماً على رضا غنيم. تراه للمره الأولى فتشعر أنك تعرفه منذ سنوات. أعرفه منذ عام 2010 من خلال دراستي في كلية الإعلام بقسم الصحافة. عرفته شاباً هادئاً للغاية، قسمات وجهه لا تعرف إلا الابتسامة، حضوره طاغٍ، ويباغتك بوجهات نظر معتبرة في كل شيء، في السياسة والصحافة وكرة القدم. اختار طواعية أن ينضم إلى معتصمي كلية الإعلام في أعقاب الثورة بجامعة القاهرة. وكيف يغيب رضا المنحاز دوماً إلى جانب الناس والحق والبلد؟ ردد عشرات المرات على مدار ثلاثة أشهر هي مدة الاعتصام هتاف: ‘يا مشير خد قرارك من التحرير’، فصار يُعرف في وسط زملائه المقربين بلقب ‘رضا مشير’، وكان دوماً يقابل ذلك بضحكة صافية."رغم الانكسارات المتتالية التي أصابت الثورة، ظل عدد منا متمسكاً بالأمل رغم أن الكثيرين قد تخلوا عنه. وكان رضا من الحالمين الباقين"... وداعاً رضا غنيم
رحل زميلنا المصري الشاب رضا غنيم دون أن يبتعد، هو الذي كانت قد أعجبته جملة: "غريب إن الموت أرحم من البعد، يمكن لأن الموت حاسم والبعد فيه احتمالات"ّ... وداعاً رضاعرفته مثقفاً وعلى قدر كبير من الوعي والإدراك. أبحر في كتب لفؤاد زكريا ومراد وهبة وآخرين، وكان دوماً يطمح إلى صحافة جديدة مغايرة للسائد. كان أكثر المتهكمين على الصحافة التقليدية وعناوينها مثل ‘فلان يفتح النار وعلان يكشف مفاجأة مدوية’. امتلك دوماً وجهة نظر، دون تعالٍ أو غطرسة. اتضح للجميع دون شك أنه موهبة حقيقية كانت تنتظر فرصة حقيقية للظهور. ملفات نوعية وتقارير سياسية وإنسانية صاغها رضا على أكمل وجه. انحياز دائم للمهمشين والفئات المضطهدة، ويمكنك قياس مدى تقدير ورصيد رضا عند مَن يعرفونه ومَن لم يعرفوه من خلال ردود الأفعال على موته. جسّد رضا مقولة ‘الموت يختار من يحب’".
"رائحة في أسلوبه"
نادراً ما تلقى صحافياً تعرفه الناس من أدواته البلاغية. كان قراء رضا يعرفونه حتى في مقالات لا تحمل اسمه، كما يروي لرصيف22 الصحافي محمد نبيل حلمي الذي عمل مع رضا في أحد المواقع المصرية. ويقول: "في ركن قصي، عند مدخل صالة الديسك في موقع إخباري، حيث كان رضا يفضّل الجلوس، تعرّفت عليه للمرة الأولى قبل أربع سنوات. كنت أنتهي من ساعات ‘الشيفت’ اللعينة مع منتصف الليل تقريباً، بينما كان يبدأ هو عمله في نفس التوقيت. بقبعة يضعها فوق شعر طويل نسبياً، وسيجارة لا تفارق يده على الأغلب، تبيّنتُ ملامحه للمرة الأولى، وبمرور الوقت ومع ما تيسر من ساعات مشتركة في العمل، تبينت أنه اختار توقيتاً يناسب شخصيته، فقد كان يتجنّب الدخول في جدالات حول كل صغيرة وكبيرة مع بعض المحررين عديمي الموهبة والتأهيل، فضلاً عن رغبته في أن ينعم بقراءة لا يقطعها أي مصدر إزعاج. لم تدم زمالتنا طويلاً إذ غادرت المكان بعد شهور معدودة، غير أن صداقتنا ظلت ممتدة، وعززتها رغبة دائمة من جانبي في متابعة ما ينتجه رضا المعجون بالموهبة، حتى أنني ولحسن الحظ قرأت موضوعات مختلفة نشرها باسم مستعار على موقع إلكتروني، فأعربت له في رسالة إلكترونية عن إعجابي الشديد بما كتب، وبعد أن رد المشير بمزاح، سألني: ‘مَن قال لك؟’، فأجبت: ‘ولا حتى سألت... شميت ريحتك’. كنت متقيناً من صدق حسي، فالموضوعات كانت تعج بذائقة أدبية رفيعة، ورصد إنساني بالغ الرهافة لمشاعر مصادره الذين لم يكونوا إلا ضحايا حاول رفع الظلم عنهم. عزائي بعد رحيل رضا أنني أثنيت على ما أنتجه من قصص مميزة، وأخبرته بذلك ‘على حياة عينه’، ولم أنتظر وفاته لأرثيه"."صوت المهمشين"
على عكس ما هو شائع في الأوساط الصحافية المصرية من أن بطاقة عضوية نقابة الصحافيين هي الأمل، لم يكن رضا يراها كذلك، لأن أحلامه تخطت هذه الأرضية، كما يؤكد لرصيف22 رئيس قسم التحقيقات في صحيفة الدستور أحمد عاطف رمضان، الذي عرفه في شهوره الأخيرة. ويقول: "لم أكن أعلم أن أسبوعاً واحداً قضيناه سوياً في الغرفة رقم 335 في أحد الفنادق الشهيرة في عمان، ستكون فاصلة ورابطاً ليوم الدين بيني وبينه. اسمه رضا وكان راضياً بما رزقه الله به من مرض السكّري. لا زالت كلماته ترن في أذني: ‘أنا بكتب عن المهمشين والمسجونين والمختفين قسرياً والأولتراس وكل واحد ليه حق’. قالها لي عندما سألته عن سبب اختياره لهذا النوع من الكتابة ومازحته بقولي له إننا ‘هنتسجن كلنا بس يا ريت حد يكتب عنّا’. كان حالماً إلى أبعد الحدود، كاتباً من طراز فريد. لم أره إلا مبتسماً متمرداً، حتى نغمة منبه هاتفه التي كنا نستيقظ عليها كل صباح كانت حالمة مثله وهي مقطع من أغنية ‘حبيبي يا عاشق’: ‘الحلم دا حلمنا والحب من حقنا مين اللي يمنع طير أنه يطير في السما تعالَ نحلم سوا الله على الأحلام’. عندما سألته عن شعوره حيال دخول النقابة، قال لي ضاحكاً: ‘مش فارق كتير. كده صحفي وكده صحفي، هو يعني لما هدخل النقابة هبقى صحفي بشرطة؟ أنا بكتب كل اللي بحبه ومش محتاج إذن لده، مش هيكون ليها أثر إلا بالشعور بالقليل من الاستقرار’. لم أكن أعلم أنني سأبكيه بكل جوارحي. رحل وقطع جزءاً من قلبي معه، لكنّي وعدته من أمام قبره بأن أكمل تحقيقه الذي جلسنا سوياً نضع خطته قبل وفاته. سننشره باسمه لتظل أحلامه باقية دون أن تنطفىء"."أنهكته الثورة"
كأبناء جيله، حلم رضا بأن تنقل ثورة 25 يناير مصر إلى دولة مدنية حديثة، وهو الحلم الذي ظل يطارده حتى توقف عن الركض فجأة دون أن يبلغه. يرى زميله في الدراسة إبراهيم محمود أن انكسارات الثورة أنهكته من الداخل، ويقول لرصيف22: "كانت بداية معرفتي الحقيقية به في 2011، بعد مدة قصيرة من قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، عندما بدأ المؤمنون بالثورة بالاندماج في جماعات كل حسب موقعه، فكان تجمع 25 يناير في إعلام القاهرة هو صاحب الفضل علي في الاقتراب من رضا غنيم. لم أكن في بدايات الثورة ذا خلفية واسعة بالأمور السياسية، ولكن كنت أؤمن بوجود ظلم لا بد من وضع نهاية له، أما مَن بدأ في تعليمي الأمور السياسية فكان رضا وبعض زملائه. بدأنا نتشارك في كل شيء، القراءة، جلسات النقاش، المشاركة في فعاليات الثورة ما بعد 25 يناير، وحتى الطعام والشراب... وكانت هذه الأيام هي أجمل أيام حياتي. وككل المشاركين والمناصرين للثورة، ومع التغيرات الكبيرة والمتسارعة التي كانت تحدث، بدأ وعينا الجماعي في التشكل والتغيّر. ورغم الانكسارات المتتالية التي أصابت الثورة، ظل عدد منا متمسكاً بالأمل رغم أن الكثيرين قد تخلوا عنه. وكان رضا من الحالمين الباقين. ولكن أظن أنه، رغم تمسكه بالأمل، كان وجعه أكبر من أن يُحتمل، وأظن الآن أن رضا كان يُظهر عكس ما كان يخفيه، فقد كان يظهر الأمل، رغم أن انكسارات الثورة أنهكته من الداخل كما أنهكتنا جميعاً، ولكنه لجماله كان يرفض أن يكون مثلنا متشائماً، وظل يحارب في صراع داخلي لم يرد لنا أن تعرف عنه شيئاً، حتى جاءت اللحظة الحاسمة التي طغى فيها الألم داخله على الأمل، فرحل إلى جوار الرحيم حتى يجد ما كان يصبو إليه".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين