لم يعش السنّة بعد عام 2003 في العراق كجزء من مجتمع ترعاه الدولة ويقبل بسلطتها، بل شعروا بمحاولات لإبعادهم عن الشراكة في إدارة المؤسسات الرسمية، وكان هناك نفور كبير بينهم من الوضع الجديد، حتى عند الذين لا يتطرّفون بآرائهم ومواقفهم.
كانت هناك فئة متشنجة دائماً في مواقفها من كل ما حدث في التاسع من نيسان 2003 وما تلاه، وتعتقد أن النظام السياسي العراقي الحالي همّش السنّة وأقصاهم وارتكب انتهاكات كبيرة بحقّهم.
في الفترة التي حكم خلالها نوري المالكي (2006 – 2014)، شهدت المناطق السنّية احتجاجات عديدة، أتت بمعظمها نتيجة عمليات الاعتقال التي مورست في مناطقهم، والتي أسفرت عن زجّ عشرات الآلاف من المدنيين في السجون دون تقديمهم للمحاكمة أو توجيه تُهم إليهم، كما تشير الإحصاءات التي صدرت عن مجلس القضاء الأعلى.
شعر السنّة طيلة السنوات الماضية بأنّهم ليسوا جزءاً من الدولة، سواء أكان ذلك بسبب أفعال مورست بحقهم من قبل الحكومات المتعاقبة، أو لمجرد أنّهم شعروا بذلك بسبب "ضياع" الحُكم منهم، كما يرى البعض.
اليوم، وبعد معركة تحرير الموصل ومناطق أخرى من داعش، ونزوح خمسة ملايين ونصف المليون مدني، غالبيتهم من السنّة، تزداد المخاوف. وبالرغم مما يُشير إلى وجود تعاطٍ إيجابي من حكومة حيدر العبادي تجاه المجتمع السنّي، إلا أن هذا لا يعني انتهاء مرحلة القلق واللاثقة.
السنّة والخروج من "مرحلة داعش"
يبدو أن مرحلة الخلاص من تنظيم داعش وتركته النفسية والصحية على سُكان المناطق التي خضعت لسيطرته لم تنته. فالسنّة الذين عادوا إلى مناطقهم وجدوا نسبة الدمار تفوق الـ70%، ووجدوا ارتفاعاً في نسبة الفقر زاد عما كان عليه من قبل (50%)، حسب إحصاءات وزارة التخطيط العراقية، ووجدوا أيضاً أن البُنى التحتية المتهالكة التي عوّلوا سابقاً على إصلاحها، لم تعد موجودة. صار السنّة نتيجة سيطرة داعش على مدنهم وما تلاها من أزمات، غير قادرين على النظر إلى حقوقهم، فلم يعودوا متمكنين حتى من إبداء رأيهم في كثير من القضايا، ليس لأنّهم لا يريدون ذلك، بل لأن تشتتهم يمنعهم عنه. وتقول النائبة عن محافظة الأنبار، لقاء وردي لرصيف22: "للأسف، لم يرَ السنّة تعاملاً إيجابياً لا من حكومتي نوري المالكي ولا حتى من حكومة حيدر العبادي الحالية، ومعاناتهم ستستمر إذا ما بقيت التصرفات والسلوكيات التي مورست سابقاً تجاههم سارية التطبيق". يعتقد يحيى الكُبيسي، وهو مستشار المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية، أنه ليس من السهل أن يخرج المجتمع السنّي من أزمة داعش بسهولة، فالأخير كما يرى، ما زال موجوداً ويُشكل خطراً حقيقياً عليهم.عراقيون يرون أنه ليس هناك من مُعالجات حقيقية للأسباب التي أنتجت ظاهرة داعش بوصفها نتاجاً للمشكلة السنّية في العراق ما بعد نيسان 2003
سنّة العراق بعد هزيمة داعش... باحث عراقي: الفاعل السياسي الشيعي ليست لديه الإرادة لإعادة صياغة العلاقة بين المكوّنات العراقية وتحويلها من علاقة مُنتصر ومهزوم إلى علاقة دولة ومواطنويقول لرصيف22 إن "تداعيات حرب 2014 – 2017 ما زالت حاضرة سواء في نتائجها المباشرة أو في انتشار الحشد الشعبي وهيمنته على المناطق التي استُعيدت من داعش". ويُضيف: "ليس ثمة مؤشرات على أن الحكومة العراقية لديها خطة استراتيجية حقيقية لاستعادة ثقة الجمهور السنّي في هذه المناطق، وبالتالي ما زلنا بعيدين تماماً عن أية إمكانية للخروج من الأزمة".
هل تعود التنظيمات الجهادية؟
منذ سقوط نظام صدام حسين وحتى دخول تنظيم داعش إلى العراق، كانت المناطق السنّية، بحسب خبراء، بيئة خصبة للتنظيمات الجهادية التي كانت تستهدف القوات الأمريكية بصفتها محتلة أو تلك التي تشن هجمات مستمرة على القوات الأمنية العراقية وتُكفّر المنتمين إليها. وكانت أبرز الفصائل السنّية التي ظهرت في العراق بعد نيسان 2003، هي: كتائب ثورة العشرين، والجيش الإسلامي في العراق، وجيش الراشدين، وأنصار الإسلام، وجيش محمد. لكن السؤال يبقى: هل يمكن أن تعود هذه التنظيمات من جديد أو يظهر تنظيم داعش مرة أخرى؟ الخبير في شؤون الجماعات المسلّحة هشام الهاشمي يرى أن إمكانية وجود حركات مسلحة إيديولوجية سنّية طائفية في المناطق ذات الغالبية السنّية، لم تنقطع، لكن الظروف غير مناسبة كي تعود الحركات القومية، أما تلك ذات البعد الإسلامي فلا تزال متواجدة، بحسب رأيه. ويقول الهاشمي لرصيف22: "هُناك وجود لتنظيم القاعدة وأنصار الإسلام والجيش الإسلامي وجيش المجاهدين، بالإضافة إلى تنظيم داعش الذي لم يُهزم سوى عسكرياً". ويُضيف: "ليس بعيداً أن يكون هناك صدام بين فصائل سنّية مسلحة والأحزاب السياسية السنّية، على اعتبار أن الأولى ترى في الديمقراطيات والأحزاب والدستور بدعة جاءت بما لم ينزل من عند الله، وترى أن السلاح قد يكون حلاً لمشاكلها". ربما يسبب وجود الحشد الشعبي في المناطق المحررة، ظهور جماعات سنّية بعيدة أو قريبة من داعش أو من الجماعات الجهاديّة، "فالسلاح متوفر هُناك، والبيئة خصبة، والتعبئة القومية والمذهبية يُمكن أن تنتج حراكاً جديداً، مسلحاً أو سلمياً، والأول أكثر ترجيحاً".هل للسنّة وجهة خارجية جديدة؟
توجّه السنّة بعد عام 2003 نحو العرب أو البلدان الإسلامية السنّية، وعوّلوا كثيراً عليهم للخلاص من وضعهم أو على الأقل لمساعدتهم في أن يكونوا "شركاء لا مشاركين" في الدولة، لكن يبدو أنهم صُدموا. حصلت الأحزاب السنّية على دعم وتمويل كبيرين من دول عربية، خليجية لمزيد من التحديد، لكنها بالنتيجة لم تُحقق ما طمح إليه المموّلون ولا ما يريده منها جمهورها السنّي، لذا هل يُغيّر المموّلون وجهاتهم وكذلك الأحزاب بعد أن وجدوا أنفسهم غير قادرين على تلبية ما يُريدون؟ يقول الكاتب في الشأن السنّي عمر الشاهر "إن السعودية امتنعت عن استقبال أي سياسي سنّي منذ عامين، والسبب مرتبط بانقسام المجموعات السنّية التي تتحرك بشكل مستقل عن الرياض وأبوظبي، لذا فإن الدوائر المعنية بملف العراق في العاصمتين الخليجيتين بدأتا بفقدان الثقة بالأحزاب السنّية العراقية". يبدو أنّ هُناك اتفاق بين السعودية والإمارات على عدم التعاون مع المجموعات السياسية السنّية الصغيرة. قد تبقى علاقات مع بعضها، لكن على مستوى الدعم لا يوجد شيء، لأن البديل الآن صار حيدر العبادي لاقتناع السعودية به، ويُمكن أن يكون شريكاً يحافظ على حقوق السنّة، كما يقول الشاهر. وبحسب الشاهر، فإن إيران تحاول تجميل صورتها بالتعاون مع بعض السنّة، لكن أن يكونوا جزءاً منها، فهذا ما لا يتوقعه على اعتبار أنّهم اليوم أخف ثقلاً في العملية السياسية العراقية. ويتحدث مراقبون عن وجود تقارب بين قيادات سنّية تابعة للحزب الإسلامي العراقي، وعلى ارتباط وثيق بإيران، مثل رئيس مجلس النواب سليم الجبوري والأمين العام للحزب إياد السامرّائي اللذين أصبحا جزءاً من منظومة علاقات إيرانية بعيدة عن السعودية. ثمة تشتت سنّي داخلي يؤثّر سلباً على قوة موقفهم السياسي، فتعدد الارتباطات وغياب المرجعية السياسية لهما أثر كبير على تراجع التعاون معهم إقليمياً وداخلياً، إذ لم يعودوا لاعبين أساسيين. تقول النائبة عن محافظة نينوى، جميلة العبيدي لرصيف22: "يبدو أن الحكومة العراقية ليس لديها أية خطط أو آليات عمل لمساعدة الناس على الخلاص من الدمار الذي يعيشونه، فالمناطق السنّية تُعاني الآن من خراب البنى التحتية وارتفاع نسبة الفقر وغياب مقومات العيش".اتساع رقعة الأزمات
بحسب يحيى الكُبيسي، ليس هناك من مُعالجات حقيقية للأسباب التي أنتجت ظاهرة داعش بوصفها نتاجاً للمشكلة السنّية في العراق ما بعد نيسان 2003، بل أن المسار السياسي منذ 15 سنة أضاف ثلاث مشكلات حاسمة: النزوح والتدمير، الميليشيات، ومحاولات فرض الواقع بالقوة على المجتمع السنّي. ويقول مستشار المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية إن الوضع الحالي لا يمكنه أن ينتج استقراراً من جهة، ولا أن يعيد ثقة المواطن السنّي بالدولة، لأن الفاعل السياسي الشيعي ليست لديه الإرادة لإعادة صياغة العلاقة بين المكوّنات العراقية وتحويلها من علاقة مُنتصر ومهزوم إلى علاقة دولة ومواطن، بل يحرص دائماً على تأكيد العلاقة الأولى.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...