يُمكن القول إن بعض المناطق في جنوب العراق "الآمن" قد تخرج في أية لحظة عن سيطرة القوات الحكومية العراقية، مثلما خرجت سابقاً، وربما تسقط بيد العشائر المنتشرة هُنالك.
تشتد الصراعات بين عشائر جنوب العراق، فتارة تتصارع على قضية اجتماعية وطوراً على موضوع اقتصادي، أو بسبب أزمة المياه التي تضرب مُدنهم، كما يجري مؤخراً. ولا تتوقف هذه الصراعات عند مرحلة تبادل الاتهامات أو الاشتباك بالأيدي أو بالأسلحة البيضاء، بل كثيراً ما تتطور إلى استخدام الأسلحة الرشاشة والثقيلة.
في محافظة البصرة، أقصى جنوب العراق، أغلق أشخاص من عشيرة تميم في السنة الماضية متنزه الخورة وعلّقوا على بوابته يافطة كُتب عليها: "إلى جميع الإخوة المستثمرين، نعتذر لدخول المتنزه بسبب خلاف بين قبيلة بني تميم وإدارة المتنزه". وبعد انتشار الخبر، صرّحت مصادر في العشيرة بأن ما حدث "تصرف فردي" ناتج عن خلاف مالي بين أحد أبنائها وبين مستثمر المنتزه، معلنةً رفض مثل هذه التصرّفات.
إلا أن "التصرفات الفردية" تكثر، ما يدفع إلى الحديث عن مناخ عام. فقصة المتنزه هي واحدة من عشرات القصص التي تحدث في مناطق جنوب العراق أمام أعين السلطات الرسمية التي تبدو غير قادرة على تقويض سلطة العشيرة هنالك.
ماذا يحدث في جنوب العراق؟
في محافظة البصرة تنتشر الأسلحة بشكل كبير، وتشتد الصراعات العشائرية، وتظهر إلى العلن بأشكال عدّة كقطع حركة المرور أو منع أطفال إحدى العشائر من الوصول إلى المدارس. ليس هذا فحسب، فالأسلحة التي تُستخدم لا تقتصر على الأسلحة الخفيفة. ففي السنوات الأخيرة وصل الحال إلى استخدام الأسلحة المتوسطة. ويقول الخبير الأمني هشام الهاشمي لرصيف22 إن "بعض العشائر تمتلك مدافع وراجمات وصواريخ كاتيوشا". وأكّد رجل أمن في شرطة محافظة البصرة برتبة ملازم أول لرصيف22 أن "النزاعات العشائرية تعرقل عمل القوات الأمنية وتستنفد جهودها، وفي بعض الأحيان أو أغلبها، تصل المشاكل بين العشائر إلى مرحلة تفقد فيها القوات المحلية (الشرطة المحلية) السيطرة عليها".لا توفّر أية فرصة لإثبات سطوتها... بعض العشائر في جنوب العراق تمتلك مدافع وراجمات وصواريخ كاتيوشا
لا تتوقف الصراعات بين عشائر جنوب العراق عند تبادل الاتهامات أو الاشتباك بالأيدي... بل كثيراً ما تتطور إلى استخدام الأسلحة الرشاشة والثقيلةويُضيف أن "الأسلحة المُستخدمة في النزاعات العشائرية هي الكلاشينكوف والمسدسات بشكل قليل، فالـBKC والـRPG7 وأسلحة متوسطة أخرى هي الأكثر استخداماً". وعادةً ما تبدأ الصراعات بخلافات شخصية وتتطور لتصير عشائرية، إذ غالباً ما تكون أسبابها بسيطة، إما لخلاف بين شابين أو حادث سير أو علاقة متوترة بين زوجين، لكنها تحتد وتسفر عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. واللافت أن الشرطة أو أية قوة أمنية أخرى لا تتدخل في الاشتباكات، على اعتبار أن القضية عشائرية وشيوخ العشائر يتكفلون بحلها. ويقول حسنين المنشد، وهو ناشط مدني من محافظة ميسان التي تشهد نزاعات ضارية بين العشائر من حين إلى آخر إن "سطوة العشائر تكبر وتتسع في محافظة ميسان والمحافظات الجنوبية الأخرى، وفي أحيان كثيرة تكون قوات العشائر أقوى من القوات الأمنية العراقية". ويتحدث لرصيف22 عن استخدام مكثف للأسلحة المتوسطة في النزاعات التي تمتد لأيام في بعض المرات، وقد تُسهم، بحسب قوله، "بإحداث ارتباك وخلل أمني داخل المُدن". في محافظة ميسان هنالك قضاء اسمه المجر. يشهد هذا القضاء نزاعات ضارية بين العشائر، حتى أنه في مرة من المرات اضطرت الحكومة العراقية لإرسال قوات أمنية من بغداد للسيطرة على نزاع. وفي يناير الماضي، روى سُكان من المجر شهادات عن عملية اقتحام إحدى العشائر للقضاء لشن هجوم على منازل أفراد في عشيرة أخرى يبدو أن لها خلافات معها. وكانت القوة التي تمتلك أنواع سيارات مُشابهة لسيارات القوات الأمنية العراقية، بحسب شهود العيان، تحمل أسلحة رشاشة خفيفة ومتوسطة، بالإضافة إلى قاذفات RPG7، وتمكّنت من تنفيذ هجومها وفق ما يُعرف بـ"الدكة" (إطلاق أعيرة نارية على منازل الخصوم كرسالة مفادها: نستطيع الوصول إليكم) دون أن تواجه أية إجراءات أمنية لا أثناء الحادث ولا بعده.
الحكومة وسلطة العشائر
يبدو أن الحكومة العراقية غير قادرة حالياً على مواجهة العشائر أمنياً وعسكرياً، إذ صارت تمتلك من الأسلحة ما يفوق ما تمتلكه مراكز شرطة محلية في بعض الحالات. وليس هذا فحسب، فهي لا تتردد في التصادم عسكرياً مع القوات الأمنية العراقية. بحسب خبراء في الأمن، فإن قوة العشيرة يقابلها ضعف الدولة، وقوة الدولة يقابلها ضعف العشيرة، فلا يمكن لهما أن يقويا أو يضعفا معاً، وتستغل العشيرة تراجع الدولة في تأدية واجباتها وفي إنفاذ القانون، لتتمكن من فرض سطوتها. ويقول الخبير الأمني هشام الهاشمي لرصيف22 إن "الدولة العراقية لديها القدرة الكاملة للسيطرة على العشائر وحرمانها من الأسلحة المتوسطة والثقيلة، لكنها لا تمتلك الإرادة لفعل ذلك، والسبب سياسي". كانت الحكومات العراقية تتعذر في أوقات سابقة بالحرب ضد الإرهاب، لذا غضت النظر عن العشائر، أما الآن فلديها مصالح تتعلق بالانتخابات وكسب الأصوات، وهو ما يعرقل خطوات أي مسؤول حكومي في الحد من نفوذ العشائر، يضيف الهاشمي. ودفعت النزاعات الكبيرة التي تدور في محافظة البصرة منذ أسابيع الحكومة العراقية إلى إرسال قوات عسكرية من الشرطة الاتحادية والرد السريع للسيطرة على الأوضاع هنالك. لكن حتى الآن لم تظهر النتائج. وتحدث ضابط في استخبارات قوات الرد السريع، كان في مهمة استطلاع قبل أيام في البصرة، عن صعوبة السيطرة على الأوضاع بين العشائر هنالك. وقال إن القوات الأمنية أمامها أحد حلين: الحوار وتقويض حركتها أو الصدام العسكري، مفضلاً الأول حفاظاً على أرواح المدنيين. وأضاف الضابط لرصيف22 أن "الوضع في المحافظة غير مستقر، والعشائر لا تترك مساحة للحوار حول أي خلاف، وتستخدم السلاح دائماً في ما بينها كحل للمشاكل". ويشير تعزيز القوات العسكرية المُدججة بالآليات والمعدات الثقيلة مؤخراً إلى وجود نية لدى الحكومة العراقية لاستخدام القوة ضد العشائر المتنازعة. ويتوقع البعض أن تتكرر عملية "صولة الفرسان" التي قادها رئيس الحكومة السابقة نوري المالكي ضد جيش المهدي في محافظة البصرة عام 2007. وقبل أيام، تحدث قائد عمليات البصرة الفريق الركن جميل الشمري، عن احتمالية استخدام القوة ضد العشائر التي تستخدم السلاح في نزاعاتها في بعض مناطق المحافظة.العشيرة أقوى من الدولة؟
عمل الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين على تقوية دور العشيرة في تسعينيات القرن الماضي في خطوة لحماية نظامه. ورغم التغيير الذي حدث في أبريل 2003، لم يتراجع دور العشيرة بسبب ضعف الدولة العراقية، بل توسع نتيجة سعي أركان السلطة إلى إرضاء شيوخ العشائر من أجل كسب تأييدهم في الانتخابات. تضخم دور العشيرة بعد 2003، وصارت جزءاً من المنظومات التي تتحكم بالعملية الانتخابية، فتوصل مَن تتفق عليه إلى مجلس النواب، وفي بعض الأحيان ترشح عدد من شيوخ العشائر وحصلوا على مقاعد برلمانية، ما جعل رؤوساء الحكومات المتعاقبة يطلبون ودهم أو يتقرّبون منهم. ويقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة المستنصرية، علي طاهر لرصيف22 "إن العشيرة في التاريخ العراقي الحديث وحتى قبل اكتشاف النفط ومأسسة الدولة العراقية، كانت منافسة للدولة أو كانت هي الدولة بنفسها". ويضيف: "بعد انتهاء الملكية والاقطاعيات ومجيء العهد الجمهوري، تحوّلت العشيرة إلى تابع للدولة بل ذراع لها تستخدمها متى تشاء، وهذا ما حدث في تسعينيات القرن الماضي عندما كان صدام حسين يقوّي نظامه بها". ويتحدث طاهر عن دور العشيرة بعد عام 2003، ويرى أنه كان دوراً ملأ الفراغ الذي جاء بسبب غياب الدولة العراقية، ويؤكد أن الأخيرة، لو طورت آليات إنفاذ القانون، لتمكنت من إضعاف دور العشيرة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين