قد يكون الحفاظ على التراث المادي من المسؤوليات الجديدة التي تتبناها الهيئات العالمية، والحكومات والمنظمات غير الحكومية.
ولكن الثقافة الشعبية لها أدواتها الخاصة والمتجددة في "الحفاظ" على موادها وأخلاقيات الشعوب وقصصهم. تتبع المقالة القصص التي نسجت حول الأمثال والقيم التي تناولتها عبر العصور.
قصص متعددة ومثل واحد
من المؤكد أن الأمثال والحكم، هي في حقيقتها جزء لا يتجزأ من الثقافة الجمعية للشعوب، ذلك أن المثل يعبر–رغم قصره–عن حكمة مختزنة وعن عصارة لتجارب شتى وخبرات لمواقف متعددة، ولكنه دون شك من مجال الخيال والإبداع، وليس من قسمة التاريخ والبحث في أحداثه. العديد من الأمثال العربية التي عُرفت واشتهرت وذاعت على الألسن قديماً وحديثاً، تموضع نفسها بشكل مباشر أو غير مباشر في قالب من مواقف وأحداث تاريخية أو أساطير وروايات مشهورة. يستعرض هذا المقال سبعة أمثال شهيرة صيغت على أساس خلفية تاريخية، بحيث اختزنت في كلماتها ذكريات وأحداث لا تُنسى على مدار الزمن.جزاؤه جزاء سمنار: المهندس الرومي الذي قتله ملك الحيرة
هذا المثال يعتبر واحد من أهم الأمثلة العربية، التي ذاعت واشتهرت بين الناس، ويشاع بأنها، في الأصل، مبنية على واقعة "تاريخية". فبحسب ما يذكره أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري المعروف بالميداني (تـ. 518هـ)، في كتابه مجمع الأمثال، فإن سمنار هذا كان مهندساً معمارياً رومياً معروفاً بكفاءته وخبرته، ولما وصل صيته لجزيرة العرب، استدعاه الملك النعمان بن امرؤ القيس ملك الحيرة، وطلب منه أن يشيد له قصراً عظيماً يليق بملكه. وبعد أن شيّد المهندس الرومي ذلك القصر، والذي عُرف فيما بعد باسم "الخورنق"، خشي الملك النعمان من قيام سمنار بتشييد قصر أخر أعظم من قصره، فما كان منه إلا أن اصطحب المهندس الرومي إلى الطابق الأعلى من القصر ثم رمى به على الأرض فسقط ميتاً. بقيت القصة متداولة، ولكن المثل أصبح يُضرب في ظروف متعددة، للإشارة إلى من يقابل الجميل والإحسان بالنكران والجحود.عند جهينة الخبر اليقين: عندما طمأن القاتل أهل القتيل
بحسب ما يذكره أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي (تـ. 619هـ)، في كتابه شرح مقامات الحريري، فإن قصة ذلك المثل تعود في أصولها لإثنين من السارقين الذين تعاهدا مع بعضهما البعض على سرقة ونهب المسافرين. وكان واحد من الإثنين من قبيلة جهينة، وبعد فترة من مصاحبتهما لبعضهما البعض، فإن الجهني غدر بصاحبه، فقتله وسلب متاعه ثم رجع إلى أهله في قبيلة جهينة. وكان للسارق المقتول، أخت، تتقصى أخباره وتسأل عنه الناس، وتتجول ما بين القبائل لتبحث عنه، ولم يكن أحد يستطيع أن يعطيها معلومة مفيدة عن مكان أخيها، فلما تصادف أن قابلها الجهني، أنشدها قائلاً: وعند جُهَيْنةَ الخبَرُ اليَقِينُ فمَنْ يَكُ سائلاً عنه فعـندي لسائِلِهِ الحديثُ المستَبِينُ وكان يقصد بذلك أنه أدرى الناس بمصير أخو المرأة، وذلك لأنه هو الذي قتله ووارى جثمانه التراب، وقد صارت تلك الجملة فيما بعد مثلاً ذائعاً، يُضرب عند الوصول لإجابة قاطعة تريح السائل وترشده لما سأل عنه واحتار في أمره.سارقان اتفقا ثم غدر أحدهما بالآخر، كيف تعاملت مع قصتهما الأمثال الشعبية؟
كيف قاومت الثقافة الشعبية السلطة وتجبرها في أمثال وقصص نسجتها حول أصولها
أشأم من البسوس ولا ناقة لي فيها ولا جمل: الحرب الثأرية التي خلدتها الأمثال
يعتبر هذين المثالين من أشهر الأمثلة العربية التي نسجت حولها أخبارٌ لأحداث تاريخية ترجع للعصر الجاهلي. فبحسب ما ذكره الأديب الأندلسي ابن عبد ربه (تـ. 328هـ)، في كتابه العقد الذي يعرف بالعقد الفريد، فإنه في أواخر القرن الخامس الميلادي، قام كليب بن ربيعة التغلبي بذبح ناقة لامرأة تُدعى بالبسوس، وذلك لما رأى الناقة تأكل الكلأ في مراعيه دون أن يأذن لصاحبتها بذلك. تلك الحادثة البسيطة، نتج عنها أحداث عظيمة ومهمة ظلت عالقة بالتراث العربي على مدار السنين المتعاقبة، ذلك أنه وبحسب ما ورد في المصادر العربية القديمة، فإن جساس بن مرة الشيباني قد قام بقتل كليب ثأراً لما اعتبره إهانة في حق خالته البسوس. وأشعلت تلك الحادثة الحرب ما بين قبائل تغلب وحلفائها من جهة وقبائل شيبان وبني بكر وأحلافهما من جهة أخرى، وبقيت تلك الحرب قائمة على مدار ما يقارب أربعين عاماً كاملة. تلك الحرب الطاحنة كانت سبباً في ظهور العديد من القصص والأمثلة، ومنها مثال "أشأم من البسوس" والذي يُضرب به المثل في الشؤم والتطير وسوء الطالع، نظراً لأن البسوس وجدت نفسها وسط قصة ابتدأت تلك المذبحة التي راح ضحيتها الألاف من العرب. وأيضاً كانت تلك الحرب سبباً في اشتهار مقولة "لا ناقة لي فيها ولا جمل"، وهي مقولة للحارث بن عباد، الذي رفض الاشتراك في القتال، وكان يبرر موقفه، بعدم وجود مصلحة حقيقية له تجبره على خوض تلك الحرب، وصارت جملته فيما بعد مثلاً يُضرب فيمن يختار البعد عن المهالك، ويستجيب لمصالحه، ويؤثر السلامة.سيف المعز أو ذهبه: المثال الذي خلد سلطة الدولة وشوكتها
عام 358هـ، استطاع الفاطميون أن يفتحوا مصر، وأن ينهوا حكم الدولة الإخشيدية وذلك بعد محاولات عديدة آلت جميعها إلى الفشل الذريع. اعتقد الفاطميون الذين أسسوا دولة عظيمة في ذلك الوقت، أنه من المناسب أن يُحولوا مركز حكمهم إلى مصر، فقدم الخليفة المعز لدين الله الفاطمي من تونس إلى القاهرة، وبدأ يعمل في فرض سطوته وهيمنته. بحسب ما يذكر ابن كثير الدمشقي (تـ. 774هـ)، في كتابه الموسوعي البداية والنهاية، فإن بعض العلماء السنة المتواجدين في مصر في ذلك الوقت، قد شككوا في حقيقة انتساب الفاطميين إلى علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء. فلما وصلت أخبار ذلك التشكيك إلى مسامع الخليفة، قام بجمعهم وألقى أمامهم كومة كبيرة من الذهب، وقال "هذا نسبي"، ثم شدّ سيفه من غمده وأشار إليه وقال: "وهذا حسبي". وأمام ذلك التصرف، اختار الحضور أن يوافقوا المعز لدين الله، على صحة انتسابه لآل البيت، وذلك إما رغبةً في نيل الاعطيات والهدايا، وإما خوفاً ورهبةً من عقاب الخليفة وبأسه. ورغم أن المثل منسوب لتلك الحادثة، التي قد وقعت منذ ما يزيد عن ألف عام، إلا أنها صارت مثلاً معبراً عن الطرق التي تستطيع السلطة بواسطتها فرض قراراتها بصرامة وحزم.أكذب من مسيلمة: مدعي النبوة الذي لم يبق منه إلا مثلٌ خلّده
من المعروف أنه في حياة الرسول، ظهر عدد من مدعي النبوة في أماكن متفرقة من الجزيرة العربية. وبعد وفاة الرسول في العام الحادي عشر من الهجرة، قامت العديد من القبائل العربية بالارتداد عن الإسلام، كما أن بعض القبائل قد أعلن اتباعه لمدعي النبوة. أهم مدعي النبوة الذين ظهروا في ذلك الوقت، كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، الذي ظهر في قبائل بني حنيفة، واستطاع أن يحشد الألاف من الرجال الأشداء في صفه. عن طريق سجعه الذي حاول أن يضاهي به الآيات القرآنية من جهة وبعض الحيل والألعاب التي يذكر الجاحظ في كتابه "الحيوان" أن مسيلمة قد تعلمها من اختلاطه بأسواق العرب الكبرى من جهة أخرى. استطاع نبي بني حنيفة أن يُحدث فتنة حقيقية في جزيرة العرب، وبقي أمره يشتد ويقوى شيئاً فشيئاً، حتى قُتل في نهاية الأمر في معركة اليمامة (12هـ). ورغم أن معظم أثار وأقوال مسيلمة قد اندثرت مع مقتله، إلا أن العقل الشعبي الإسلامي قد منحه لقباً ظل دائماً ملاصقاً لاسمه، حيث عُرف في جميع المصادر التاريخية بـ"مسيلمة الكذّاب"، وصار يُضرب به المثل في القدرة على الكذب وخداع الناس.أبطأ من فند: أحد أكثر الأمثال إثارة للفكاهة والسخرية
يرجع أصل هذا المثل، لقصة تاريخية تحيطها الكثير من مظاهر الطرافة والعجب والسخرية. في كتابه جمهرة الأمثال، يذكر أبو هلال العسكري (تـ. 395هـ)، قصة ذلك المثل المشهور، فيقول إن فنداً هذا كان مولى لعائشة بنت الصحابي الشهير سعد بن أبي وقاص. وفي إحدى الليالي الباردة انطفأت النار الموجودة في الدار، فأمرت عائشة مولاها بأن يقتبس ناراً من جيرانهم. وعندما خرج فند ليبحث عن جذوة النار وجد قافلة قد عزمت على السفر إلى مصر، فطلب أن يرافقهم في رحلتهم فوافقوا على طلبه، واصطحبوه معهم، حتى وصلوا إلى مصر ومكثوا فيها عاماً كاملاً ثم رجعوا عائدين إلى وطنهم. فلما حطوا رحالهم في المدينة تذكر فند ما طلبته منه مولاته منذ عام كامل، فاقتبس ناراً وجرى لمنزل عائشة بنت سعد، فلم يدخل من الباب حتى تعثر ووقع وانطفأت النار، فقال فند ساخطاً "بئست العجلة". وقد ظل فند دائماً بعد تلك الحادثة مضرباً للأمثال التي تعبر عن البطء والتأني.آخر خدمة الغُز علقة: عندما عبر المصريون عن ظلمهم في أمثلتهم الشعبية
إذا كانت جميع الأمثال السابقة، هي في حقيقتها من الأمثال التي نسبت لسياقات وحوادث تاريخية معروفة ومحددة، فإن هناك أمثال أخرى قد ظهرت إلى النور في ظل أحداث تاريخية عامة، لا يمكن التعرف على تفاصيلها الدقيقة بشكل مؤكد. من تلك النوعية، مقولة "آخر خدمة الغُز علقة"، وهي جملة شهيرة من الشائع استخدامها حتى الأن في مصر على وجه الخصوص. الغُز، هم في الأصل قبائل تركية، واسمها الحقيقي هو قبائل الأوغوز، وكان صلاح الدين الأيوبي هو أول من استقدمهم للعمل في خدمته، حيث شكلوا جزءاً كبيراً من الجيش المحارب وقتها. في نهايات الدولة الأيوبية، استطاع الأوغوز أن يتمكنوا من السيطرة على مقاليد السلطة في البلاد، ولم يمر الكثير من الوقت حتى تم تأسيس الدولة المملوكية، والتي كان الأتراك أحد أهم المكونات الفاعلة في حكمها وإدارتها. المجتمع المصري، الذي كانت الأغلبية المطلقة منه تعمل في الفلاحة والزراعة، عانى الأمرين من جراء تسلط الغُز. ومن هنا، قامت الثقافة الشعبية المصرية الجمعية، بتخليد ذكرى تلك الأحداث في صورة مثل، فاشتهرت مقولة " آخر خدمة الغز علقة" والتي تشير إلى أن كل الخدمة التي قدمها أبناء القرى للأتراك، لم تمنعهم في النهاية من البطش والتنكيل بهم. وقد بقي ذلك المثل يُضرب في الشخص الذي يُنكر الجميل، ولا يمنعه الإحسان والتعامل الطيب من التجبر، فهل عبّرت الأمثال عن قدرة الثقافة الشعبية على الحفاظ على معايير الخير، عن طريق شجب الظلم رغم الاعتراف به كحقيقة من حقائق الحياة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...