يمزج الراوئي اليمني "الغربي عمران" في روايته "الثائر" الماضي بالحاضر، ليستنطق هذا الماضي ويقرأ نتائجه في ما يجري اليوم. يشرّح المجتمع اليمني، ويكشف عن الزيف الذي يغلفه، ويختار بطلاً للرواية "خنثى". يثبت هذا الاسم الفرعي للرواية "خنثى" في الغلاف الداخلي، مفضّلاً (هو أو الناشر) حذفه من الغلاف الخارجي، تحسباً – ربما – مما قد يجرّه هذا الاسم من متاعب.
"الملثم"، "شيزان"، و"قمر" أسماءٌ يستخدمها الكاتب للدلالة على شخصيته الرئيسة في الرواية التي تبدأ بلحظة هروبه من إحدى المقابر قبل تنفيذ حكم الإعدام به، فينطلق باحثاً عن "ممسى" ليستقر به المقام في "سمسرة وردة"، ومن هناك ستقوده نار الانتقام ليثأر من كل من آذاه، سواء في سجنه أو قبل ذلك، فيتنكر بزي امرأة كل ليلة، ويخرج لقتلٍ جديد، مختاراً الخنق بواسطة "خيط بيادة" حذائه.
"انتظر غروب الشمس بشوق، مشط شعره الطويل، اكتحل كحلاً كثيفاً، دعك وجنتيه بحمرة، لفّ طرف شاله على وجهه، (...) سحب خيط حذائه، أدخل كفه برفق تحت رأس المسوري، طوى الخيط حول عنقه، داهمته نوبة رجفان شديدة، تماسك، جذب أطراف الخيط بقوة".
يدين الكاتب في روايته العنف والظلم اللذين يكون الجشع والطمع سببهما، كما يدين النفاق وادعاء الفضيلة والتقوى من قبل الأقوياء وأصحاب السلطة، بينما يبقى الإنسان العادي مستضعفاً، مقموعاً، مهضوم الحق، بل وحتى متهماً ومشرداً أو معتقلاً. ففي السمسرة التي يعيش فيها بعد هربه، سيبوح "شيزان" بقصته كاملة لـ"وردة" الفتاة التي تعمل هناك وتتعلق به، فيروي لها كيف وشى شيخ القرية وأبناؤه بوالده فاقتاده العسكر إلى السجن، ثم اتهموا والدته بالزنى وأحرقوا منزلها، لتهرب بعيداً عن بطشهم وأطماعهم. كل ما فعلوه كان هدفه الاستيلاء على الأرض التي ورثها الأب عن أجداده.
يسرد أيضاً كيف بدأت رحلته إلى "صنعاء" للبحث عن أمه، وكيف تبناه "الشيخ الأعشى" وضمّه إلى مدرسة داخلية ليتعلم فيها الدين وأصول الفقه. هناك اكتشف عالماً كاملاً من الرياء والفساد، والدعارة الجنسية التي سيكون واحداً من ضحاياها، إذ يتحرش الشيخ الأعشى به، وحين يواجهه بالرفض ويهدده بفضح أسرار الدار وما يجري فيها، يتم تدبير تهمة له وزجّه في السجن. "يُفرض عليّ صوته: يجب أن تعرف عقاب من يتجرأ على تشويه سمعة المدرسة العلمية، بطلبتها ممن يقرؤون كتاب الله ويتعلمون سنة نبيّه، لن يسمح لأحد بترديد ما قلته، سيأكلون لحمك نيئاً، ولذلك أنصحك بأن لا تعرّض نفسك للهلاك، انسَ ما قلته".
يتناول "محمد الغربي عمران" فترة هامة من تاريخ اليمن، هي الفترة التي قامت فيها الثورة ضدّ الإمامة، فيسرد الصراعات العنيفة والقتالات الدموية وكيف سعت الثورة للقضاء على النظام الملكي وتأسيس الجمهورية، ليقوم الثوار أنفسهم بعد نجاح ثورتهم، بإعادة إنتاج الاستبداد والتسلط من خلال أنظمة عسكرية قمعية تسعى إلى البقاء في الحكم.
ورغم أن اللعب في ملعب التاريخ مغامرة خطرة في الكتابة الإبداعية الروائية، إلا أن الكاتب استطاع ببراعة القفز فوق أفخاخها، فلا وقع في فخ التوثيق ولا انجرف إلى فخ التأريخ والتدوين، بل نسج خيوط روايته من مادة الخيال، وزيّنها بين الحين والآخر بخيوط من الأساطير المتخيّلة التي ضمّنها أفكاراً فلسفية. لعل أجمل تلك الفصول هو ذاك الذي يصف توهان "شيزان" في الصحراء، ثم اتباعه لفتاة تقوده إلى مجتمع كامل من أناس لا عيون لهم، لكنهم مبصرون يعيشون في عالم لا يخافون فيه شيئاً ولا يخشون.
"ذاك الذي يرعانا لا توجد له ذرية، ضمّني وأمسيت من جماعته، لم تمض أشهر حتى زوّجني لكائن من كائنات الريح، لأزفّ دون عينين في اليوم التالي كعروس لكائن الريح (...) هنا لن تجد ما يخيفك أو يحبسك (...) هي فرصة أن تختار طريقاً لا عذاب فيه، لا ندم".
تلقي الرواية الضوء أيضاً على وضع المرأة في اليمن، ومدى الظلم الذي تتعرض له من خلال عدد من الحكايات التي يوظفّها الكاتب في حبكة روايته، فـ "العظمي" الذي يكون نديماً للملثم في جلسات "مضغ القات" يحكي له عن نساء "الشكلة" وقصصهن التي عرفها، وتكون "شكلة النساء" هذه وجهة شيزان التالية للبحث فيها عن أمه.
إذاً، تكون الرواية رحلة بحث يبحث فيها "الملثم" عن أمه، عن ذاته، عن جنسه الحقيقي، عن العدالة، عن الحقيقة. تبقى دندنات أمه للأغنية التي يحبها ترافقه في رحلته هذه: "يا قمر قُميرة، قُميرة، يا سراج الليلة، الليلة، طر بنا سرب الحمام، سرب الحمام، يا قمر صنعاء ويا أحلى قمر، يا ضياء القلب ويا نور البصر".
محمد الغربي عمران، قاص وروائي يمني، من مواليد مدينة ذمار 1958، حاصل على درجة الماجستير في التاريخ، عضو الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، رئيس نادي القصة (صنعاء)، ورئيس مركز الحوار لثقافة حقوق الإنسان. له خمس مجموعات قصصية: "الشراشف"، "الظل العاري"، "حريم أعزكم الله"، "ختان بلقيس"، "منارة سوداء"، وقد ترجمت بعض قصصه إلى الإنكليزية والإيطالية. له ثلاث روايات هي: "مصحف أحمر"، "ظلمة يائيل" التي فازت بالمرتبة الأولى في جائزة الطيب صالح 2012، و"الثائر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...