شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
نصائح للشخص الأعزل: كيف تنشئ من هذا الحطام حياة

نصائح للشخص الأعزل: كيف تنشئ من هذا الحطام حياة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 17 فبراير 201811:00 ص

كيف تنسى أصدقاءك الموتى

لا تمرّ في الشوارع التي يتم فيها تعليق صور الشهداء واللافتات المرحبة/ بالمعزّون /الكرام وبأخطاء إملائية فاضحة، ابتعدْ عن تلك الشوارع العريضة التي يتم نصب خيام العزاء فيها، اتخذ سبيلا آخر، جرّب الأزقّة الضيقة والشوارع الفرعية، اقتن سيارة مثلا وسرْ بسرعة. أطرق في الأرض ولا ترفع رأسك حتى تصل وجهتك النهائية، أو ببساطة ضعْ نظارات سوداء لا تسمح للأخرين برؤية عينيك وبالتالي لا يستطيعون تبيان عينيك الدامعتين إذا ما لمحت صورة لرجل كنت معه على مقعد دراسة واحد واليوم أصبح شاهدة قبر فقط، أو إذا قرأت اسما لرفيق آخر على ورقة على الجدار. لكن تلك النظارات للأسف لن تخفي رجفان قلبك وبكاء روحك، لذا ابتعد، تشاغل بالتدخين، بترنيمة شعبية، بمطر وهمي ينزل على رأسك في تموز، ضع يديك على رأسك كمن يتقي وابلا حجريا واركض.

كيف تستعيد قميصا كنت قد أعرته لشهيد

انتظرْ في العتمة، على زاوية الزقاق الذي يفضي إلى البيت، حتى يؤوب الحزانى إلى نومهم المتعثر، ويغلق الوالد باب الخيمة بكرسي مقلوب، لا تنتظر كثيرا بعدها، ذلك أنهم سينامون سريعا من القهر لا من التعب. تقدّمْ ببطء صوب البيت، داعب بيدك الحبق المزروع في علبة سمنة فارغة، افرك أوراقها كما لو كانت شعر ابنتك الصغيرة، ثم ادفع الباب الخشبي المطعّم بصفائح التنك، وادخلْ الباحة الاسمنتية بهدوء، انتبه لئلا توقظ ثمرات شجرة الاكي دنيا الوحيدة، اختر الغرفة الأكثر إضاءة أو ذات النافذة المكسوة بستارة خفيفة. هذه ستكون غرفته دون ريب، ذلك أن رائحته ما تزال تضيء جوف الغرفة، وروحا حرّة مثل روحه لا تحتاج لستائر كثيفة، ادفع الباب وادلفْ بحذر، ستجد خزانة متداعية بمرآة بحجم طولي كبير على واجهتها، لونها غريب بعض الشيء، بنية داكنة بدهان متقشّر وسحجات متعددة، هذا هو هدفك. لكنك للأسف لن تجد قميصك المشجّر الذي أعرته له منذ شهر ليذهب به إلى موعد غرامي، ذلك أنّ والدته وضعته على وسادتها وغفت، حالمة بالجنّة التي يسكن ابنها الآن. 
"كيف تكف عن كتابة المراثي"، و"كيف تنشئ من هذا الحطام حياة": نصائح لشخص أعزل

كيف تكف عن كتابة المراثي

لا تتابع الأخبار اليومية، اختر يوما في الاسبوع وليكن يوم الجمعة مثلاً، لقراءة الموجز القصير لما حدث خلال الأيام الستة الماضية، ابتعدْ عن كتب السياسة والجرائد اليومية ونشرات الأخبار. اخترْ كتبا مسلية وأنصح هنا بروايات عبير أو مغامرات اللص الظريف، اخترْ كتبا تتحدث عن أنواع الورود في جبال منسية في تنزانيا مثلا، أو عن أعلى الشلالات، أو عن أنواع السلاحف البحرية، كتابا علميا أو كتابا سخيفا يتحدث عن أي شيء إلا الموت المجاني. وعندما تبدأ بالكتابة، جرّب الابتعاد عن صيغة الماضي، إنّ لكلمة /كان/ فعلا قاتلا في القلب، قل يكون أو سيكون، لا تقل مثلا لقد تناول كأس عصيره الأخير ثم صعد إلى المحرس وأتته الرصاصة، قل سيتناول كأس شرابه بمتعة وانتشاء، وسيرى ابنته الوليدة غدا في الإجازة، دعك من هذا ... اكتبْ عن فراشات ذات أجنحة خشبية تغيّر طعم الهواء اذا رفرفت، عن عصافير تغرد بلغات منسية، عن جبال تحترق بصمت وقرى ترتعش .....يبدو أنك لن تكفّ عن ذلك، حسنا اكتب قليلا من المراثي ولتبدأ بمرثية نفسك التي تنقص وتتضاءل كلما وصل جثمان من هناك، كلما صرخت روح. 

كيف تصبح سعيداً في حرب أهلية

لأكون صريحا معك، لن تصبح سعيدا أبدا إلا إذا كنت ميتا، لكنك طالما أنت هنا، في جحيم هذه الحرب، وتتابعها ساعة بساعة وجثة بجثة وقذيفة تلو الأخرى، فلن تسعد أبدا، تستطيع أن تلتقط نتفا من الفرح سريع الذوبان، كأنه ندف ثلج ما أن تحاول القبض عليه حتى يختفي، مخلفا أثرا خفيفا من البلل والبرودة، مثلا: أن تحظى بمقعد فارغ في السرفيس في يوم شديد المطر، أن تتناول فنجان قهوة ساخن من بائع مقابل مبنى البلدية الجديد الأشبه بوحوش كاميرون، أو أن تشتري قطعة كرواسان بالشوكولا ساخنة من الحاج أبو حمزة في زاوية الشيخ ضاهر وأن يعطيك معها منديلا ورقيا، فتمسح بالتالي النثار المقرمش من على شفتيك. أو ربما قبلة سريعة من صديقتك في مقهى منزو في حي المشاحير، أو ملامسة ركبتها العارية عرضا وأنت تتصنّع الانحناء لالتقاط شيء ما أوحيتَ بأنه سقط. ربما المبالغة بالانتشاء في سهرة مرتجلة، في مطعم على طريق دمسرخو، والغناء بصوت شجي /خلاص مسافر/ ثم الارتماء في أحضان جارتك خالطا رغبتك في تقبيلها بحاجتك لإخفاء دموعك، وهكذا وهكذا تلملم قطعا صغيرة من الفرح المنضبط يمكّنك في نهاية اليوم أن تقول : حصلتُ على نصف غرام من الفرح في ذاكرتي مقابل أطنان الحزن التي تختزنها، أكثر من ذلك لا تفكر أبداً في السعادة.

كيف تنشئ من هذا الحطام حياة

عندما تستيقظ في الصباح لا تفكر في ليلتك السابقة، لا تذكر كم أنّبت نفسك لوجودك حيا في مدن تتداعى. تفقد يديك وأقدامك وأعضاءك الأخرى، تأكدْ من وجودها في أماكنها. لا تغتسلْ أو تأخذ حماما سريعا، ما من ماء أصلا يكفي لغسل كوابيسك، اكتف برشقات باردة لتمسح النعاس عن أجفانك، اصنعْ قهوتك بهدوء، اخترْ فنجانك المفضل، حتى لو كان مثلوما، حتى لو لم يبق منه غير نصفه. اسكبْ قهوتك أو ما يشبه قهوتك، وتناولها برشفات سريعة كمن لديه عملا لا يمكن تأجيله، لا بأس بسيجارة أو اثنتين من هذا التبغ الردئ، ارتد ملابسك القديمة نفسها، لقد حال لونها قليلا لكنها مازالت صالحة لستر خوفك، جواربك المرتية بخيوط مختلفة الألوان، حذائك المهترئ، وانزل الدرج المتآكل إلى الشارع. لا تقف أمام صور الشبان بلباس الجيش، لا تقف لقراءة النعوات الجديدة، لا تنظر إلى الحفر التي خلفتها قذائف البارحة، اخترْ أبعد مقبرة يمكن أن تصل إليها، واجلس في ظل شجرة هناك، وغنّي بأقل صوت ممكن، بحيث لا يسمعك غير الموتى الراقدين تحت الأرض: أنتو الأحبة وألكن الصدارة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image