"يا أهلي: إنني أعلن توبتي"، هكذا افتتح الضابط في جهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة الفلسطينية بيانه المطوّل في العاشر من الشهر الحالي للاعتذار عما "ألحقه بأبناء شعبه من ضرر جسيم".
أما سبب "التوبة" فكان ما كشفه الضابط، بالصور والأسماء والوثائق، عن حجم التجسس الذي تمارسه السلطة على الفلسطينيين، فضلاً عن تفاصيل التنسيق مع الاحتلال ومع الأمريكيين الذين دفعوا آلاف الدولارات لقاء المشروع.
لم تكن قد هدأت حملات التنديد بما تضمنته اعترافات "التائب" بعد، حتى انتشرت قبل يومين وثيقة مسرّبة منسوبة لجهاز الأمن الوقائي تتضمن أسماء مواطنين فلسطينيين تزعم السلطة أنهم حرّضوا على قوات الأمن الوطني، خلال الاحتجاجات التي شهدتها مدينة رام الله العام الماضي خلال محاكمة باسل الأعرج ورفاقه.
تراوحت الردود على التقرير، الذي لم تعمد السلطة إلى نفيه أو التعقيب عليه، بين الاستنكار والسخرية، فيما تكهن البعض أن التسريب مدبّر خدمة للاحتلال، مستحضرين مسألة التنسيق القائم بين الأخير والسلطة الفلسطينية.
33 صفحة كشفت كواليس "دائرة المتابعة الإلكترونية"
في الحادي عشر من مارس الماضي، كانت قوات الأمن الفلسطينية تقمع عدداً من المتظاهرين أمام مجمع المحاكم في مدينة رام الله احتجاجاً على محاكمة باسل الأعرج وخمسة من رفاقه كانوا يقبعون في سجون العدو بتهمة حيازة سلاح غير قانوني. أثناء تلك المحاكمة، كان قد مضى على قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي للأعرج حوالي الأسبوع، لتقضي المحكمة لاحقاً بانتهاء محاكمته الأعرج وفقاً للقانون الذي ينص على "انتهاء القضية بموت المتهم"، كما أجلت محاكمة رفاقه الخمسة. بعد يوم من تلك المحاكمة وقمع قوات الأمن للمحتجين، كانت غرفة العمليات المركزية في "دائرة المتابعة الإلكترونية" داخل الأمن الوقائي تعد لوائح بأسماء أمناء عامين لأحزاب فلسطينية وصحافيين ونشطاء، رأت أنهم أصحاب أجندات تحريضية. واعتبرت صفحة "الدهيشة الحدث"، التي نشرت التقرير، أن التسريب مدبّر، بحيث يعطي الأمن الوقائي للاحتلال الضوء الأخضر كي يفعل ما لم يستطع فعله هو من اعتقال وقمع.التنسيق كمصطلح "أوفيميزمي"
لم يكن التنسيق، الذي تُتهم السلطة باستخدامه كمصطلح "أوفيميزمي" (Euphemism: علم العبارات الملطفة) بينما يعني حقيقة التجسس على الشعب لصالح الإسرائيليين، يوماً أمراً محسوماً بين طرفي الاحتلال والسلطة، وبين الأخيرة وباقي الأطراف الفلسطينية. يمكن القول إنه كان أكثر مجالات عمل السلطة مثاراً للجدل منذ نشأتها، إذ انقسمت المواقف بين اعتباره ضرورة للحكم الذاتي وممراً ضرورياً نحو بناء الدولة وبين من رأى فيه عامل قسمة للساحة السياسية وضرباً لمشروع التحرر. في أعقاب اتفاق أوسلو، ومع بدء السلطة الفلسطينية استلامها التدريجي لمناطق الضفة وقطاع غزة، ربط الإسرائيليون "توسيع الرقعة الجغرافية لعمل السلطة الفلسطينية بأداء السلطة الأمني، ومدى قدرتها على ضبط الأمن لصالح إسرائيل". وفي العام 1995، نصت اتفاقية طابا على مسؤولية السلطة الفلسطينية "منع الإرهاب والإرهابيين واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم"، فضلاً عن "امتناعها عن ملاحقة من عملوا مع إسرائيل لسنوات وعدم الإضرار بمصالحهم الشخصية".يوم السبت الماضي، قالت رئيسة حزب "ميرتس" اليساري الإسرائيلي زهافا غلؤون إن محمود عباس هاتفها معزياً بوالدها، مؤكداً على أن "السلطة الفلسطينية مستمرة في التعاون والتنسيق الأمني مع إسرائيل على الرغم من عدم إيفاء الأخيرة بالتزاماتها"
التنسيق الأمني مع إسرائيل ليس من رواسب اتفاقية أوسلو بل أحد أهم أركانها، وبالتالي فإن وجوده من وجود السلطة الفلسطينية والعكس صحيحاستمرت إسرائيل بالاستفادة من تعثر المفاوضات لفرض ما تريده كأمر واقع، بينما استمر الجدل في الداخل الفلسطيني بشأن موقف السلطة من التنسيق المفتقر للندية، وسط حرص الاحتلال على لعب السلطة دوراً وظيفياً بحتاً. بعد اندلاع الانتفاضة في العام 2000، ومباركة الرئيس ياسر عرفات لها، تراجعت الاعتقالات التي كانت تنفذها السلطة وكذلك التعاون مع الاحتلال، فكانت النتيجة أن قررت إسرائيل ضرب الأجهزة الأمنية والعمل على عزل الرئاسة الفلسطينية، من خلال خطة خريطة الطريق في أبريل العام 2003. ولكن تولي محمود عباس قيادة السلطة الفلسطينية أعاد التنسيق الأمني بوصفه التزاماً مبرماً. كان الرئيس يردّ على المطالبين بوقفه محاولاً إقناعهم أنه "مصلحة فلسطينية"، لكن موقفه فُسّر حينها أنه حرص على إنجازه في إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس مقبولة إسرائيلياً ودولياً، سمحت له بأن يثبت مصداقيته كشريك حريص على تحقيق السلام مع إسرائيل. في العام 2015، لوّحت القيادة الفلسطينية بوقف التنسيق، كخيار أخير، بعد تعثر المفاوضات واستنفاد جميع البدائل في ظل رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قيام الدولة الفلسطينية وحجبه أموال الضرائب المستحقة للسلطة، كعقاب للأخيرة على توجهها إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن بحثاً عن الاعتراف الدولي. واستمر التنسيق.
ولكن ما حال التنسيق بعد إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل؟
قبل البحث عن إجابة لهذا السؤال، تقتضي الإشارة إلى أن من ضمن ما كرسه التنسيق كان ظهور أجهزة أمنية فلسطينية كالأمن الرئاسي والأمن الوطني والأمن الوقائي والاستخبارات وغيرها، وتسليح السلطة الفلسطينية بمعايير إسرائيلية وربطها بالمال الإسرائيلي والأمريكي، فضلاً عن ملاحقة "الإرهابيين" (لضرب كل أشكال المقاومة) ونشر المخبرين وتسيير الدوريات وتنفيذ الاعتقالات. كل ذلك، جعل وقف التنسيق الأمني محل اتفاق بين الأطياف الفلسطينية المختلفة من الجبهة الشعبية إلى حماس فالجهاد الإسلامي مع اختلاف في التفسير، كما وضعه بمواجهة رفض شعبي يتضاعف في ظروف ومناسبات محددة تنشط فيها الاعتقالات والملاحقات. في منتصف يوليو العام الماضي، أعلنت السلطة تجميد التنسيق على خلفية تركيب الاحتلال بوابات إلكترونية في المسجد الأقصى. اعتُبر القرار مناورة لا أكثر، لا سيما وأن السلطة أعلنت نيتها العودة عن القرار بعد مرور أسبوع فقط، وقال حينها عباس إن قرار وقف جميع أنواع التنسيق مع الاحتلال "ليس سهلاً إطلاقاً". بعد أشهر قليلة، أعلن قائد الشرطة حازم عطالله عودة الأمور إلى مجاريها، علماً أن أجهزة الأمن قد واصلت خلال فترة التجميد ملاحقة النشطاء واعتقالهم. وبعد إعلان قرار ترامب حول القدس بـ40 يوماً، اجتمع المجلس المركزي الفلسطيني بحضور عباس معلناً رفضه للقرار وملوحاً بـ"وقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله". لكن يبدو أن الصورة لم تتغير عن سابقاتها. يوم السبت الماضي، قالت رئيسة حزب "ميرتس" اليساري الإسرائيلي زهافا غلؤون إن عباس هاتفها معزياً بوالدها، مؤكداً على أن "السلطة الفلسطينية مستمرة في التعاون والتنسيق الأمني مع إسرائيل على الرغم من عدم إيفاء الأخيرة بالتزاماتها". ونقلت "هآرتس" عن "ضابط إسرائيلي رفيع" في جيش الاحتلال قوله إن التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية "لا زال بخير". وعلّق الضابط، خلال حديث أثناء كشف حقل ألغام فجرته أجهزة أمن السلطة في طولكرم، أن "التنسيق الأمني مهم لرئيس السلطة محمود عباس كأهميته لإسرائيل". في المقابل، تحرص مصادر أمنية فلسطينية على القول إن التنسيق قد انخفض، وانحصر بالتعاون الميداني الملح، بحجة أن التنسيق ضرورة وليس خياراً. ولكن لماذا قد يكون التنسيق ضرورة للسلطة؟ لأنه يشكل صلب الاتفاقات الفلسطينية - الإسرائيلية المتعددة التي تربط وجود سلطة الحكم الذاتي بقدرتها على أداء وظائفها الأمنية. من هنا، فإن إخلال السلطة بمهامها يعني انتفاء المبرّر لاستمرارها. وفي ظل ما يُحكى اليوم عن مخاطر خفض المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية على التنسيق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، لا يبدو أن خيار وقفه التام مطروحاً في الأفق، فالأخير ليس من رواسب اتفاقية أوسلو بل أحد أهم أركانها، وبالتالي فإن وجوده من وجود السلطة والعكس صحيح.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين