لسنوات، شعرت أن الوقوف في طوابير بلدي أمر مستهجن، من شأنه أن يحدّ من قيمتي "كمواطنة محترمة".
إن حصل ووجدت نفسي أمام طابور ما في دائرة حكومية في سوريا أو ما شابه ذلك، أتجاوزه بهدوء واتزان، لا بل أنظر إليه نظرة تعالٍ واستهزاء- وكأنه خُلق، ولكن ليس لأجلنا نحن.
هو للآخرين.
ككثير من الأشياء في سوريا: للآخرين.
نحن من لم يُخلق الطابور لنا، نصل إلى الموظف، وبابتسامة الواثق من نفسه وعبارة "صباح الخير" ونضع بيده بعض ما يجعل نهاره سعيداً بالفعل.
هكذا كنا نتجاوز عقبات الطابور، تلاحقنا لعنات وشتائم من هم أقل حظاً، أو أكثر انضباطاً، وهم يقفون في خط طويل، يقتحمه أمثالنا.
قد تصلنا الشتائم، فنعاملها بلا مبالاة، وتزيد شعورنا بأننا "مواطنون مدعومون"، أو قد يحجبها بعدنا عن الواقفين، فلا نسمعه.
علاقة الشعوب بطوابيرها، ووقوفهم فيها هي امتداد لعلاقتهم بالمكان والمدينة والدولة ونظامها.
وسواء كنا مع النظام السوري علناً أم نعاديه سراً في حياتنا، فإن مصالحنا ومصالح حياتنا وإدارة شؤوننا في الأمور اليومية، كانت شأناً آخر نتجاوز فيه معارضتنا للنظام والحكومة، ونضطر أن نتناسى أهدافنا ومبادئنا ونقوم بكل ما يقوم به أي مواطن قوي أو "حربوق"، كما كنا نقول، للنجاة.
نستطرد بالمقولة الشهيرة: "بدنا نعيش".
والعيش، أو النجاة، في بلد كسوريا كان يتطلب في الكثير من الأحيان تجاوز القانون أو التحايل عليه.
قد تصل هذه الازدواجية لنفوس بعضنا، فنوهم أنفسنا – وخصوصاً نحن النساء –بأن الوقوف في الطابور يعرضنا للتحرش ويضعنا في موضع استباحة من رجال لا يترددون في إزعاجنا.
فوقوف المرأة في الطابور يعني ابتسام الشباب لها، وتقرب الكبار بالسن تحت مظلة الأبوة، كلها أشكال مختلفة للتحرش.
وأخيراَ والحق يُقال إنه في تلك المرات التي كنا نضطر فيها للوقوف في الطابور في سوريا، كنا نلتفت حولنا خشية أن نقابل أحداً من معارفنا وخجلاً، فالوقوف في الطابور من شأنه أن ينتقص من مكانتنا وقيمتنا.
طابور فرنسا
تركت سوريا، وانتقلت للعيش في فرنسا، وبدأت علاقة جديدة مع تلك الخطوط الطويلة من البشر المنتظرين.
اكتشفت معنى الطوابير في هذه البلد.
هنا، في باريس، اتمام أي عملية، بسيطة أم معقدة، بيروقراطية أم حيايتية، يتطلب الانتظار في طابور لا مفر منه.
إذا أردت شراء زجاجة ماء أو قطعة خبز، فعليك الوقوف في الطابور. ناهيك بالطابور الذي عليك تحمله لدقائق ربما تطول لتشعرك وكأنها دهر كامل عندما تريد أن تستخدم المراحيض العمومية.
ولن أتكلم هنا عن ذلك الوقوف في الطابور أمام مطعم مشهور في باريس حيث لا حجز مسبق فيه لكثرة زبائنه.
الجميع هنا سواسية إلى حد ما، يجمعهم طابور واحد، لا احتيال عليه.
وكذلك القانون في البلد، يسري على الجميع. المواطن الفرنسي لا يشعر بأي عقدة نقص إن وقف في الطابور، لا بل وقوفه هذا يزيد من شعوره بأهميته وبمواطنيته. لذلك لا يتحايل ليتجاوز غيره، ليس لأن لديه الوقت الكافي للانتظار، وهو غير ملاحق بواجبات وأعمال، وإنما لأن هناك علاقة صحيحة بينه وبين مجتمعه: علاقة تقوم على الاحترام المتبادل والالتزام بالواجبات والحقوق.
قد يحدث أحياناً أن يأتي أحدهم ليتجاوز من يقف أمامه، فيُقابل بكل صرخات الغضب والاستنكار والكل ينظر إليه شذراَ حتى يشعر بالخجل ويتراجع ليقف في نهاية الطابور وهو يقدم اعتذاراته وتوضيحاته لفعلته الشنيعة هذه.
طابور القسوة
يأتي الحديث عن الوقوف في طابور آخر في فرنسا، طابور طالبي اللجوء سواء أمام جمعيات استقبال اللاجئين أو عند استكمال أوراقهم الرسمية عند الشرطة أو البلدية.
يختلف الطابور هنا بنوعه وطوله والزمن المعتمد فيه وحتى سلوكياته ولغته عن الطابور العادي.
طابور اللاجئين قد يمتد على مسافة كيلومتر أو حتى اثنين، لا تتفاجأوا، فالعدالة والمساواة والسلام وحرية التعبير تعمُ أرجاء الكون.
يتجاوز زمن الانتظار فيه ساعات طويلة قد تبدأ عند الثالثة فجراً وتنتهي الثانية عشرة ظهراً (موعد إغلاق جمعية استقبال اللاجئين ليتسنى للموظف الفرنسي أن يتناول غداءه ويشرب قهوته وسيكارته).
هنا لا يهم إن كان الواقفون يتقنون لغة واحدة لأن المناقشة تأخذ طابعاً طريفاً، فلا حاجة لقواعد لغة أو مفردات أو تركيب جمل للفهم والتواصل، ما يلزم فقط هو بعض المهارات اليدوية للإشارات وبعض الكلمات المتفرقة ليأخذ التعارف مجراه بسلاسة وسهولة.
يظهر في الطابور تعاطف بين الواقفين، وكأن نكباتهم قد جمعت فيما بينهم.
هنا التسامح يأخذ مكانة كبيرة مما يجعلك تُقابل بضحكة أو ابتسامة إذا ما تجاوزت دورك. هنا لا داعي للغش والتحايل فمن يقف أولاً قد يعطي دوره بكل لطف لامرأة تقف مع طفل صغير، وكأت الإحساس بالغير يتفاقم عند اللاجىء.
هنا في قسوة اللجوء وطوابيره، تظهر رأفة طالبيه.
أستمر في الوقوف في طوابير فرنسا، بعد عمر قضيته أقفز فوق الطوابير في سوريا. أرسم بمخيلتي حياة كل من يقف أمامي أو خلفي بحسب عمره ومظهره، وأعطيه دوراً وهدفاً وسبباً لحياته.
أتصور ماضيه وحاضره ومستقبله حتى أنني أعطيه اسماً يناسبه.
في بعض الأحيان، كنت أتعاطف مع من أعجبتني سيرة الحياة التي رسمتها له، وأحياناَ أخرى أنفر منه لأن خطوط حياته التي رسمتها له لم تعجبني. وكم حدث أن أنسى وصولي لدوري وأنا غارقة في تأملاتي أخط مسيرة حياة شخص ما ورائي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...