أدّت سلسلة فضائح التحرش الجنسي في الوسط الفني الأمريكي - لعل أشهرها الاتهامات الموجهة للمنتج الأمريكي هارفي واينستين - إلى فتح ملف التحرش الجنسي بالممثلات تحديداً، بعدما أدلت كثيرات منهن بشهادات عما تعرضن له من تحرشات متنوعة.
وشهدت هوليوود تظاهرة نددت بالتحرش الجنسي، وتحول الأمر لحملة عالمية كسرت فيها نساء كثيرات صمتهن وحكين ما تعرضن له من انتهاكات.
تحدثن أيضاً عن سيطرة الرجال على هذه الصناعة وإدارتها بذكورية فجة، فالرجل هو المسيطر في تلك الأفلام التي تركز على رغباته وإرضائه، وتظهر المرأة بصورة الخاضعة والمعنفة والمقهورة، كما تركز على مشاهد الاغتصاب والإذلال.
كل ما كشفته الممثلات هو ما يحدث خلف الكواليس ولا تقل بشاعته عما يحدث أمام الكاميرات، حيث يتم ابتزازهن بالغرامات المالية الكبيرة والشروط الجزائية لإرغامهن على مشاهد لا يردن تمثيلها، أو مشاهد تم تدبيرها مع الممثلين من دون علمهن، أو أخرى لم تكن ضمن ما تم الاتفاق عليه.
تجاهل المهاجمون على هؤلاء الممثلات أمر "إرادة المرأة"، بحجة أن جسداً تم التناوب عليه عشرات المرات من عشرات الرجال لا يضيره مرة أخرى أو رجل جديد، من دون الاهتمام بخيار المرأة بين أن تقبل شيئاً وترفض آخر، أو أن تقبل شخصاً وترفض آخر.
المرأة من هذا المنظور جسد إذا تم وطئه ولو مرة واحدة في علاقة يجري الإرغام عليها، أصبح حقاً مكتسباً لكل الرجال الذين يطلبونه ولا يحق لصاحبته أن ترفض.
هذا المبدأ قد يُطبق على أي فتاة على علاقة غرامية بأحدهم، وإن لم تشتمل علاقتهما على ممارسات جنسية.
ما يجب الانتباه له هنا هو أن الأفلام الإباحية صناعة ضخمة ممنهجة تُدار في مؤسسات، والمؤسسة تضم لوائح وموظفين يقومون بمهام متنوعة.
ما يحدث في مؤسسات كهذه فيما يتعلق بخضوع المرأة للإدارة لا يختلف كثيراً عما قد يحدث داخل مؤسسات أخرى في مختلف المجالات والتخصصات، ويظل العامل المشترك بينها جميعاً هو أن المرأة تُجبر على تنميط عملها بما يُرضى ذكورية أصحاب السلطة أو القرار داخل المؤسسة، أو أن تعمل في بيئة تتعرض فيها للتحرش أو المساومة في أحيان أخرى، في الوقت الذي لا يقدم لها المجتمع حلاً سوى إما أن تبقى وتقدم التنازلات أو أن تترك عملها.
قد لا يتم التعاطف مع هؤلاء الممثلات اللواتي ارتضين دخول هذا العالم الظلامي. ولكن الخطورة الكبيرة لهذه الصناعة العالمية تتمثل في كونها منبراً مؤثراً في تشكيل الوعي الجنسي والنظر للجنس الآخر بشكل ينعكس على الحياة الواقعية والتعاملات بين الجنسين في مختلف أطر العلاقات، خاصة أن تلك الأفلام قولبت الممارسة الجنسية عن طريق تثبيت بعض الممارسات وتكرارها وتقديمها كأساسيات، مما يفرض علينا التعاطي مع تصريحات هؤلاء الممثلات الإباحيات بجدية أكبر، لأن تداعياتها تنعكس على حياة النساء في مختلف أنحاء العالم، خاصة أنها تشجع على الاغتصاب والاعتداء على القاصرات وجعل الإذلال سمة ممارسة جنسية يستمتع بها الرجال.
في هذا السياق، كان من اللافت متابعة تصريحات ممثلات أفلام إباحية، ليس لما روينه من مواقف ولكن لردود الأفعال والآراء العربية في تعاطيهم مع الأمر، إذ أثار ذلك سخرية كثيرين تلخصت آراؤهم بعدم الاعتراف بحق هؤلاء في التعبير عن استيائهن من الاعتداءات الجنسية، إذ كيف لمن تمتهن الدعارة أن تشكو من التحرش.
كانت الممثلات الإباحيات قدتشترك الأفلام الإباحية وأوجه كثيرة من الخطاب الديني في التحريض على تعنيف المرأة جنسياً، وأصبح الخطاب الديني مشاركاً فعالاً في سلب المرأة سلطتها على جسدهاالمشهد التمثيلي الذي يقوم به مأجوران لا دخل لهما باختيار ما يقومان به، وغالباً ما يفعلانه بإخفاء مشاعر الاشمئزاز والرفض، يعتبره كثير من الرجال نموذجاً اعتيادياً ممتعاً يطمحون إليه ويسعون لتحقيقه مع زوجاتهم. ولهذا أثر كبير على الأسر لأنه أحد أهم الأسباب الكامنة وراء اضطراب العلاقة بين الزوجين، وإن لم تكن مُعلنة بشكل واضح نظراً لتحفظ مجتمعاتنا، إلا أن العالم الافتراضي يعج بهذه المشكلات، مثل شكاوى زوجات يعانين من معاملة أزواجهن لهن خلال العلاقة الجنسية ومن طلبات ورغبات تحط من كرامتهن الإنسانية، كما يعانين من محاولات إجبارهن على الرضوخ لهذه الرغبات. المستغرب أن الذين يهاجمون أولئك الممثلات يطالبون بضرورة استجابة الزوجات لرغبات أزواجهن، أي تقليد الممثلات الإباحيات. ولكن الأغرب أن يكون ذلك من منطلق ديني ممثلاً بضرورة طاعة الزوج وإرضائه جنسياً، مما يجعل الخطاب الديني من أكبر وسائل الضغط التي تشجع النساء على القبول بتعنيفهن جنسياً. تعنيف الزوجة جنسياً يبدأ بقبول تعنيفها بشكل عام ممثلاً بحق الرجل في ضرب زوجته، ويؤكد كثير من رجال الدين على ذلك بعرض روايات وآراء تتكرر باستمرار. ومنها ما قاله الشيخ مازن السرساوي عن ضرب المرأة: "إذا أرابك شيء اضربها، اضرب على طول كسر دماغها، وأولئك هم الرجال". وما قاله الشيخ محمد العريفي: "المرأة تحصل على ما تريد من الرجل بالبكاء، والرجل يؤدب زوجته بالضرب ويحصل على ما يريد منها بصراخه". وأضاف مشبهاً المرأة بالحيوان: "أنت عندما تضرب دابة المقصود أن تؤلمها لكي تطيعك. هل تقول لها يا ناقة بالله عليكي امشي؟ ما تفهم إلا بالضرب مثل الحمار ما يفهم إلا بالضرب". آخرون فضلوا نقل روايات عن ضرب المرأة عند الصحابة، مثل ما رواه "ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك، قال: وعتب عليها وضرتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضرباً شديداً، وكانت الضرة أحسن اتقاء – أي للضرب – وكانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر، فشكت إلى أبيها فقال لها: أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ولعله يكون زوجك في الجنة". وفضّل شيوخ آخرون حصر حق الرجل في ضرب زوجته في حالة تمنعها عنه في الفراش، كالشيخ سعد عرفات الذي يرى أن الله كرم المرأة المسلمة بعقوبة الضرب وذلك لأنه لم يسمح فيه بتكسير العظام وفقء العين، وأن الحالة الوحيدة التي تستوجب أن تضرب من أجلها الزوجة هي عند امتناعها عن فراشه، ويتساءل أين يذهب الرجل إذا امتنعت عنه زوجته. وقد استند في هذا الرأي إلى الآية القرآنية (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا). لكن السؤال يفرض نفسه: كيف يعاقب الزوج زوجته بعدم معاشرتها جنسياً "الهجر في المضجع" في حين أنها هي التي تتمنع عنه، وهذا سبب الخلاف من البداية. لا يعتبر بعض رجال الدين معاشرة الزوج زوجته بالإكراه اغتصاباً لأن ذلك حقه وما يستوجبه "العقد" بينهما. أحدهم علق على سؤال بهذا الشأن قائلاً بغضب: "الزوجة هي القائمة على بيت الرجل وإذا طلبها تماماً كالطعام والشراب يجب عليها الطاعة. فكيف اعتبر أن الرجل عندما يقوم بالاستمتاع بامرأته وإن كانت كارهة اغتصاب"! ناهيكم بعدم الاعتراف بحقها في الامتناع عن العلاقة ولو مرة واحدة استناداً لأحاديث مثل "أيما امرأة دعاها زوجها فأبت باتت تلعنها الملائكة"، و"إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور"، والتي بصرف النظر عن صحتها نجدها تتكرر على ألسنة رجال الدين باستمرار. وقد سألت امرأة الشيخ سعود الغنفيسان عن حكم امتناعها عن بعض أوضاع الجماع التي يطلبها زوجها، خاصة أن زوجها مغرم بمشاهدة المقاطع الإباحية وتريد الطلاق. وكان رده "أن الهيئات التي يطلبها والصور ويراها في المقاطع ويريد تطبيقها على زوجته، فالأصل فيها الحِل إلا ما حرم الله وهو الإتيان في الدبر أو وقت الحيض، وما عداه جائز ولا يجوز لها أن تمتنع إن طلب منها أي هيئة أو وجه من وجوه الجماع". تشترك الأفلام الإباحية والخطاب الديني في التحريض على تعنيف المرأة جنسياً، وأصبح الخطاب الديني مشاركاً فعالاً في سلب المرأة سلطتها على جسدها، كما أن الأعراف والتقاليد تجعل هذا الأمر من البداهة بمكان، فيتم الحكم على تصرف المرأة الجنسي وفق عوامل عدة ليس من بينها رضاها. فالمرأة التي تخوض علاقات غير شرعية يتم مباركة الاعتداء عليها واغتصابها، والزوجة التي تخوض علاقة شرعية تتم أيضاً مباركة الاعتداء عليها واغتصابها. وتتجسد بشاعة هذا الأمر في بعض القوانين التي تعفي المغتصب من العقاب إذا تزوج ضحيته، ولا يؤخذ في الحسبان رضاها. ليس منصفاً التعامل مع جسد المرأة بمنأى عن إرادتها وفق ما يرتضيه الرجال الذين جعلوا الدين والقانون والعرف مطية إلى النساء نازعين عنهن حق التصرف بأجسادهن، ومن تحاول فجزاؤها الوصم والهجوم والتخلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...