"أنا لمّا خلصت 'أهل الهوى' حسَّيت كأني راجعة من بلد، إجا على بالي قول لنفسي: الحمد لله على السلامة"، هذا الكلام جاء على لسان الروائية اللبنانية هدى بركات. بخلاف ما اعتاد عليه القرّاء في الروايات، لم تقدم بركات في كتابها "أهل الهوى" قصة العشق والغرام المصبوغة بطابع رومانسي إنما جسّدت عبر المقاربة النفسية وجوه الحب الممزوجة مع الرغبة التي تلامس حدود الموت، فقد تعرّت الكاتبة من أنوثتها وتخلّت عن صوتها لصالح البطل الرئيسي الذي تحدث بلسان قاتل يودع في مستشفى "الأمراض العقلية" في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية. أحداث القصة لا تتصاعد كما في سائر الروايات كونها تبدأ في الأصل من "الذروة" أي من الجريمة نفسها والصراعات النفسية التي يعاني منها البطل وسط ذكرياته المتضاربة. تعيد الكاتبة رسم مسار "أهل الهوى" الذين وصلوا إلى نقطة "اللاعودة"، وهو مسار يطال جميع الناس من دون أن يفرق بين العمر، أو الدين، أو الجنس أو اللون... فالحروب والأوضاع الاقتصادية الصعبة ألقت بثقلها على الشعوب العربية وحولت شريحة كبيرة منها إلى "نزلاء" في "العصفورية" أي مشفى الصحة النفسية. دخلت كلمة "العصفورية" صلب اللغة المحكية وأدرجت في قاموس المزاح والسخرية والتهكم، فإذا أراد أحدهم على سبيل المثال ممازحة آخر قال له: "شكلك جنّيت صار بدك عصفورية". فما هو مصدر كلمة "العصفورية" وكيف استخدمها أشهر الأدباء و"أهل الفن" في أعمالهم؟ وما هي أقدم وأهم مستشفيات الصحة النفسية في العالم العربي؟
من الأجساد "المسكونة بأرواح شريرة"، ومعالجة "الأمراض العقلية" إلى مفهوم الصحة النفسية
لايمكن الحديث عن الصحة النفسية دون ذكر ميشيل فوكو، المفكر الفرنسي الذي غيّر أبعاد مفاهيم كثيرة في ثقافتنا، من بينها دون شك "الأمراض العقلية". ففي كتابه الشهير Mental Illness and Psychology، أسس فوكو سيرة نقدية لـ"الجنون"، ودرس تطوره كمركب اجتماعي وثقافي، حلل من خلاله مفهومي "السلطة" و"العقاب"، ووجه انتقادات عنيفة لسطوة أفكار فرويد ومدرسته في التحليل النفسي. علاقة مجتمعاتنا مع من يوسمون بـ"الأمراض النفسية أو العقلية"، تفضح مساحة التصالح الذي حققناه مع أنفسنا، ومع ما نفرضه حين نتمسك بتصوّر لما هو "صحي" و"تام"، مقابل ما هو مهمش ومرفوض و"مجنون". قبل أن يصبح هدفنا تحقيق صحة نفسية، وهو التوجه الذي بات متبعاً في العقود الأخيرة، كان تعاملنا مع أشكال الاختلاف التي وصفت بـ"الجنون" متنوعاً وفي الغالب، عنيفاً، وللبشرية باعٌ طويلٌ في هذا المجال، حيث اعتبر الخروج عن المألوف الاجتماعي— بمفهومه الضيق— "مرضاً" يجب علاجه، وأقدم ما وصلنا في هذا المجال، هي ممارسة عرفها الجنس البشري في العصر الحجري، تعرف بـ"النقب". قام الباحث بول بروكا، ضمن أبحاثه الأركيولوجية، بدراسة عدد من الجماجم التي تم العثور عليها من تلك الحقبة، ولاحظ وجود ثقوبٍ فيها، استنتج أن سببها لم يكن تعرض أصحابها للعنف، وإنما هي جزء من عملية "النقب" التي سادت وقتها، حيث كان يتم معالجة "الجنون" بثقب جمجة الإنسان لفتح مجال لتخرج "الأرواح الشريرة" منه. مع أن كثيرين هلكوا أثناء هذه العملية، إلا أن القلة الذين عاشوا بعدها، اكتسبوا مكانة خاصة في مجتمعاتهم، حيث ساد الاعتقاد بأنهم يتمتعون بطاقات باطنية غامضة. لم تنته هذه الممارسة بنهاية العصور الحجرية، بل استمرت بشكل أو بآخر، وبمبررات مختلفة، حتى القرن الثامن عشر! وأما آخر طرق التعامل مع "الجنون" فكانت في القرن العشرين، من خلال نظرية "علمية" منح صاحبها أنطوان إيغاس مونيز جائزة نوبل للطب عام 1949، وكان مفادها ضرورة السيطرة على الجزء المسؤول عن المشاعر، والقيام بـ"عملية فصل فص المخ الجبهي" أو "لوبوتومي" (Lobotomy) كما تعرف بالإنكليزية. ينظر اليوم إلى هذا التاريخ في التعامل مع "الجنون"، على أنه همجي، وقمعي وخاطئ، اعتمد بالأساس مقاربة مغلوطة لمفهوم الصحة النفسية، كانت قائمة على صقل مسيس لما هو "طبيعي" و"صحي" في المجتمع.
العصفورية... مأوى بيروتي للعصافير؟
تطلق على مستشفيات الصحّة النفسية عدّة مصطلحات بحسب كل بلد: ففي سوريا التسمية التي ظهرت في العصور الوسطى أيّام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك "البيمارستان"، وهي كلمة فارسية لا تزال تستخدم حتى اليوم وتعني "مشفى"، تحورت وأصبحت "مورستان"، لتدل على مأوى "المجانين". وفي مصر كانت تستخدم عبارة "السرايا الصفر" في إشارة إلى مستشفى العباسية الذي أعيد ترميمه ودهنه باللون الأصفر، أما كلمة "الشماعية" فيطلقها الشعب العراقي على مشافي الصحة النفسية، نظراً لوصف المجانين بأنهم "شمّعوا الخيط" أو "مخهم مُشمع"، وبالرغم من هذه التسميات المختلفة إلا أن الكلمة الأكثر تداولاً وشعبية للمصح العقلي تبقى "العصفورية".دخلت كلمة "العصفورية" صلب اللغة المحكية وأدرجت في قاموس المزاح والسخرية والتهكم
ما هو مصدر كلمة "العصفورية" وكيف استخدمها أشهر الأدباء و"أهل الفن" في أعمالهم؟
بعض من أسماء المصح النفسي: "مورستان"، "السرايا الصفر"، "الشماعية"، "العصفورية"، "مشفى المجانين"يظن البعض أن كلمة "العصفورية" مرتبطة بفصيلة الطيور "التي تغرّد على ليلاها" وقد يكون هذا السبب الضمني في إطلاق اسم "العصفورية" على أول مستشفى للصحة النفسية في لبنان، غير أن التسمية الفعلية تعود لاسم منطقة لبنانية تقع بجوار "الحازمية"، عرفت بأشجارها الكثيرة وعصافيرها المتنوعة. على مساحة 130 ألف متر مربع وبعد الحصول على إذن من السلطنة العثمانية، قامت الإرساليات الأميركية في بيروت في نهاية عام 1890 بتشييد 46 مبنى كانت تشكل "ملاذاً للأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية"، فتحولت "العصفورية" إلى أكبر مستشفى للصحة النفسية في الشرق الأوسط. وبالرغم من أن العمل في هذا المستشفى قد توقف في عام 1972، إلا أنّ المشروع ساهم في ترسيخ هذا المصطلح الغريب في ذاكرة اللبنانيين لينسحب وقع الكلمة على العالم العربي بأسره، وهكذا بات من المتعارف عليه في العالم العربي أن "العصفورية" هي "عشٌّ للأمراض العقلية" وكلمة ترافق كل مصح نفسي.
بيت لحم: من أقدم المستشفيات النفسية في العالم العربي
ومن لبنان ننتقل إلى فلسطين حيث يعدّ مستشفى الدكتور محمد سعيد كمال في بيت لحم، من أقدم المستشفيات المختصة بـ"الأمراض النفسية" ليس في فلسطين فقط بل في المنطقة العربية بأسرها. ففي عام 1922، قام الإنتداب البريطاني بتحويل مبنى خاص لإيواء الأيتام إلى مستشفى للصحة النفسية خاص بالرجال. هناك نوعان من المرضى الذين يقصدون ذلك المصح: فئة تمكث لفترة قصيرة تتراوح مدتها بين أسبوعين وأربعة أسابيع من أجل الخضوع لمرحلة إعادة تأهيل، وفئة أخرى تطول فترة إقامتها (ما بين سنة و20 سنة). ويقدم المشفى خدمات عدة، من بينها: العلاج بالعقاقير الطبية وخدمات العلاج والإرشاد النفسي، والعلاج العائلي والعلاج الوظيفي. يحاول هذا المستشفى تطوير خدماته بشكل مستمر من أجل استقبال أكبر عدد ممكن من الحالات المرضية النفسية، وقد ساهم الاتحاد الأوروبي في دعم هذا المستشفى وتطوير أقسامه."مستشفى الشهار": الأول في السعودية
حتى عام 1950، لم يكن هناك أي مستشفى للصحة النفسية في المملكة العربية السعودية. وفي عام 1952 تم إنشاء مستشفى "الشهّار" في الطائف للصحة النفسية. اختيار مدينة الطائف مقراً لهذا المشفى لم تأت عن عبث، ففي البداية وقع الاختيار على منطقة الحويّة التي تقع إلى شمال الطائف وتبعد حوالي 20 كيلومتراً كمقر أولي، ثم انتقل إلى حيّ "قروى" وأخيراً إلى حي "شهار". وكما هو معلوم، فإن مدينة الطائف تتميز بالهدوء والسكينة، الأمر الذي ساهم بشكل فعال في علاج الكثير من الحالات النفسية "المزمنة". يستقبل المستشفى جميع الحالات النفسية، أبرزها حالات الانفصام والاكتئاب، ويضم المستشفى عشرات المتدربين من الأطباء والمتخصصين النفسيين والممرضين."إبداعات" أدبية وفنية منبعها "العصفورية"
بصوتها العذب وبنبرة فيها الكثير من "الغنج" و"الدلع" قدمت الفنانة اللبنانية الراحلة صباح أغنية "العصفورية" من كلمات عبد الجليل وهبي وألحان فيلمون وهبة، فشربت "الصبوحة" من كأس الحب حتى وصل بها الأمر إلى العصفورية: "عالعصفورية وصلني بإيدو وما طل عليي..."، كما تغني وتقول، في إشارة إلى أن العشق أوصلها إلى مرحلة "الجنون"، تلك الفكرة التي طالما ربطت بين درجات الحب وحالة الجنون. "الشحرورة" ليست الوحيدة التي ربطت ما بين العشق والعصفورية، فهي نوع من التزاوج الذي عرفناه في الفن والأدب، ولكن استخدام "العصفورية" بالتحديد، عاد من جديد مؤخراً مع المطرب السوري الشاب أذينة العلي الذي أطلق أغنية "عصفورية"، من كلمات "أكثم جويهرة" وألحان "يائل بشلاوي"، والتي جاء فيها: "العشق شُ سوّا فيّا شايف يا مجنني صار بدي عصفورية". ومن الغناء إلى الأدب، حيث أثار "عالم المجانين" الغامض اهتمام العديد من الأدباء والفنانين، فقد صدر عن الفنانة البصرية اللبنانية "شاغيك أرزومانيان" كتاباً مصوراً بعنوان On Fools and Lands (عن الأرض والمجانين) تتناول فيه تاريخ "العصفورية" في بيروت، وأرشيف هذا المكان ورموزه والتحديات التي واجهها على مر الزمان. من جانبه أصدر الروائي السعودي غازي عبد الرحمن القصيبي رواية جريئة بعنوان "العصفورية" احتلت المرتبة 35 ضمن أفضل 100 رواية عربية. بقالب سردي ساخر ومتهكم، ينقل القصيبي حواراً مطولاً بين مريض يدعى "البروفيسور" والطبيب الذي يعالجه في مستشفى للصحة النفسية، ومن خلال هذا الحوار يمرر الكاتب عدة رسائل سياسية واجتماعية فيها انتقاد للثقافة العربية وأشهر رموزها مثل أبو نواس والمتنبي، بأسلوب ساخر عن طريق إقحامهم في مواقف كوميدية من نسج الخيال. وبالتالي من خلال "العصفورية" أراد القصيبي أن يشير إلى أنّ مستشفى المجانين هي المكان الذي يستطيع أن يتكلم فيه العقلاء في هذا العالم، مؤكداً على المثل الشعبي القائل: "خذوا الحكمة من أفواه المجانين"، وأيضاً كما يقال في المعتقد الشعبي، كم من عاقل يقبع في "العصفورية" وكم من مجنون يغرّد خارج جدرانها!رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...