أسدلت الأيام الأخيرة من عام 2017 الستار على مسيرة الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح الطويلة، في مفاجأة غير متوقعة لشخص هيمن على اليمن شمالاً وجنوباً لعقود من الزمن، فكان حاكمه وسلطانه، حتى بعد خروجه من السلطة.
ولد صالح لأسرة فقيرة في قرية بيت الأحمر في مدينة سنحان بالقرب من صنعاء عام 1942، وتوفي والده باكراً، قبل أن يلتحق شاباً بالجيش عام 1960، ويُقال إنه لم يكن يستوفي الشروط المطلوبة ولعبت وساطات قبلية دوراً في التحاقه بالمؤسسة العسكرية.
من شباب ثورة 1962
حينما اندلعت "ثورة" 26 سبتمبر 1962 (الحرب الأهلية في شمال اليمن بين المملكة المتوكلية المدعومة من السعودية وبين المطالبين بالجمهورية)، كان صالح من شباب المؤسسة العسكرية الذين التحقوا بالثورة. وبعد انتهاء تلك الحرب واعتراف العالم بجمهورية اليمن الجديدة الواقعة إلى جانب جمهورية ثانية في الجنوب، بدأت حرب باردة في اليمن الشمالي حول شكل الحكم، ما بين تيار إسلامي ذي نزعة قبائلية موالٍ للخليج عموماً والسعودية خصوصاً، وآخر ماركسي يرى اليمن حليفاً للاتحاد السوفييتي. سعت السعودية وحلفاؤها إلى تنصيب رؤساء وحكومات قادرين على كبح التمدد الماركسي في اليمن الشمالي، والنفوذ السوفييتي في اليمن الجنوبي حتى لا يصل المد الشيوعي إلى جنوب السعودية. ولم تحسم الرياض هذا الأمر إلا بانقلاب 1977 بقيادة العقيد أحمد حسن الغشمي، إثر اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي الذي يُقال إن علي عبد الله صالح اغتاله. ولكن الغشمي اغتيل قبل أقل من عام على توليه رئاسة "الجمهورية العربية اليمنية" ليصل صالح إلى سدة الرئاسة بعد أقل من شهر على ذلك.صالح رئيساً لليمن الشمالي
مع كل انقلاب في اليمن خلال سبعينيات القرن الماضي، كان صالح يترقى داخل المؤسسة العسكرية. ومع صعود الغشمي لمع نجمه ونال استحسان شرائح واسعة من القبائل والنخب وعامة الشعب بالإضافة إلى الرياض، وعُيّن نائباً للرئيس في مرحلة انتقالية قصيرة تلت اغتيال الغشمي قبل أن يؤدي اليمين رئيساً في 18 يوليو 1978 بدعم من السعودية وآل الأحمر زعماء الإخوان المسلمين في اليمن. ولم تكن أمريكا التي تريد لجم النفوذ السوفييتي في الخليج العربي بعيدة عن الخطوة السعودية. [caption id="attachment_129375" align="alignnone" width="700"] صالح مع الشيخ عبدالله الأحمر، رئيس مجلس النواب، في العاصمة صنعاء[/caption] استلم السلطة بدعم سعودي – إخواني لمناوءة المد الماركسي شمالاً والنفوذ السوفييتي جنوباً: بهذه المعادلة الصعبة، كرّس صالح وجوده في اليمن منذ عام 1978 وحتى اغتياله. كان صائغ المعادلات المستحيلة العابرة للإيدولوجيات والطوائف و"الانتهازية" كما يراها كثيرون. في مطلع الثمانينيات، خاض صالح بالتحالف مع ميلشيات الإخوان القبائلية مواجهات عسكرية ضارية ضد المعارضة الماركسية المسلحة، وحقق نجاحاً ملموساً أسهم في إنقاذ النظام الحاكم الذي كان يعاني حالة ضعف شديدة آنذاك. [caption id="attachment_129373" align="alignnone" width="350"] صالح في 1988[/caption] وفي نفس العقد، كان حاضراً باليمن الشمالي في مجلس التعاون العربي الذي جمع مصر والعراق والأردن، في رد عملي من صنعاء على استبعادها عن عضوية مجلس التعاون الخليجي.علي عبد الله صالح... الرجل الذي وضع يده سابقاً بيد آل سعود وضعها بيد الملالي، ومَن قاد ميلشيات الإخوان واستفاد من الأفغان العرب تحالف مع ميلشيات "أنصار الله"
تنقّل علي عبد الله صالح بين كافة المعسكرات المحلية والإقليمية التي تتلاعب باليمن، إلى أن ظهر في فيديو يصوّره جثة قنصها الحوثيون
صانع وحدة اليمن
حينما اقتربت الحرب الباردة من نهايتها، وأصبح اليمن الجنوبي عارياً من الدعم الدولي إثر ترنّح السوفييت، اقتنص صالح الفرصة واتفق مع قادة الجنوب على أسرع وحدة في التاريخ المعاصر. هكذا، صنع صالح بمعادلة جديدة الوحدة التي حلم بها البعض لأربعة قرون من الزمن. كان الدمج ليس بين دولتين بقدر ما هو بين حزب المؤتمر الشعبي بزعامة صالح في الشمال والحزب الاشتراكي بزعامة رئيس الجنوب علي سالم البيض. راح صالح يمدّ نفوذه العشائري والحزبي على اليمن الجنوبي بعد الشمالي، ما أثار حنق شركائه الجنوبيين في عملية الوحدة واندلعت حرب عام 1994 بين الشمال والجنوب، وحسم صالح وحدة اليمن بالسلاح في نفس العام. ورغم استقرار اليمن عقب حرب 1994، إلا أن الدولة النفطية الفقيرة لم تشهد نهضة اقتصادية تذكر. راح جيران اليمن الخليجيون يشهدون نهضة ضخمة فيما بقي اليمن، رغم مكانته الجغرافية الفريدة على باب مضيق باب المندب وخليج عدن، متخلفاً عن ركب التنمية. عودة اليمن في سنوات الوحدة إلى الأضواء أتت على ضوء تنامي الإرهاب، فقد أنتجت الحاضنة السلفية القبائلية في اليمن العديد من قادة تنظيمات الإرهاب العالمي منذ حرب أفغانستان. وبعد استخدام صالح لهؤلاء في حرب فرض الوحدة القصيرة ضد الجنوب، عاداهم بعدما راحوا يستهدفون المصالح الأمريكية والغربية في اليمن.صالح والحرب على الإرهاب
أدرك صالح بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 أن الموجة العالمية للحرب ضد الإرهاب ستكون عاتية. في بادئ الأمر تعاون مع السلطات الأمريكية دون شروط، قبل أن يفتح أجواء اليمن للتدخل العسكري الأمريكي المباشر بداية من عام 2009، حينما اتفق مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على شن الطيران الأمريكي غارات داخل اليمن ضد معاقل تنظيم القاعدة. قبل ذلك، استضاف الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش قمة الثمانية الكبار في مدينة سي آيلاند بولاية جورجيا في يونيو 2004، القمة التي تبنّت مبادرة الشراكة للتقدم، النسخة الرسمية مما سُمّي بمبادرة الشرق الأوسط الجديد. حضر صالح إلى جانب حلفاء أميركا الجدد في الشرق الأوسط، بعد حربي العراق وأفغانستان، الرئيس الأفغاني حميد كرزاي والعراقي غازي الياور، ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بينما غابت مصر وتونس والسعودية الخائفة من المشروع الجديد. طرحت المبادرة الأميركية-الغربية أفكار الديمقراطية والإصلاحات السياسية والاقتصادية، ما أثار حفيظة الأنظمة لعربية الغائبة عن القمة التي تكاتفت وراء ورقة مضادة قدّمها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وانتقدت فرض الديمقراطية من الخارج. ولكن صالح، الحاضر في قمة مجموعة الثمانية، لم يذهب بعيداً وسرعان ما عرف أن موقعه يجب أن يكون بجانب رافضي الإصلاحات. استفاد من عض النظر الأمريكي عن وضع الحريات في بلاده مقابل حربه على الإرهاب ونظم عام 2006 مؤتمراً عن الديمقراطية والإصلاح السياسي وحرية التعبير اعتبر فيه أن الديمقراطية لا تُفرض من الخارج وخاطب العالم الغربي بقوله: "درّسونا الديمقراطية، لكن في الآن نفسه أطعمونا". عرف صالح كيف يوظّف الاهتمام الأمريكي بالحرب على الإرهاب لصالحه داخل اليمن. فكّ عام 2001 تحالفه مع تنظيم الإخوان وحزب التجمع الوطني للإصلاح، واجهة آل الأحمر السياسية.صالح والتوريث
في نهاية القرن العشرين، أصبحت مشاريع توريث السلطة في الأنظمة الجمهورية العربية حديث الساعة: جمال مبارك في مصر، وبشار الأسد في سوريا، وتنافس أبناء القذافي على خلافة والدهم في ليبيا، كذا أبناء صدام حسين في العراق. [caption id="" align="alignnone" width="700"] صالح مع ابنه أحمد في 1984[/caption] كان صالح حاضراً بابنه أحمد، قائد الحرس الجمهوري، الشاب الذي أُخرج عام 2012، عقب الثورة، من الخدمة العسكرية برتبة عميد، وعُيّن سفيراً في الإمارات بين عامي 2013 و2015، لينسج من حكام أبوظبي علاقة متينة تركت اسمه مطروحاً في عالم السياسة اليمنية.صالح والربيع العربي
خرجت الاحتجاجات في اليمن مطلع عام 2011، بالتزامن مع حركات الربيع العربي. تماسك صالح أمام الجموع الثائرة واستمر طيلة عام كامل يلقي خطاباً أسبوعياً متحدياً فيه الجميع ومشيراً إلى أسماء دول كبرى وإقليمية بالاسم باعتبارها متآمرة على اليمن. إلا أن تشابك مصالح الحوثيين مع الحراك الجنوبي الساعي لانفصال الجنوب من جهة، بجانب رغبة قطر وتركيا في تحريك الإخوان في اليمن لتولي السلطة، وقناعة السعودية بأن تبديل صالح بقيادة أخرى سيخفف من الاحتقان، وقابلية إدارة أوباما لرؤية تغيير سياسي، غيّرت المشهد. في يوليو 2011، تعرّض صالح لمحاولة اغتيال، وظنّ البعض أن رحلة علاجه في الخارج ستكون مخرجه المشرّف من السلطة، إلا أن تشبثه الاستثنائي بالحكم أعاده مرّة أخرى إلى صدارة المشهد، قبل أن تجبره المبادرة الخليجية على تسليم سلطته لنائبه الضعيف عبد ربّه منصور هادي. ورغم خسارته رئاسة اليمن، إلا أن استمراره في رئاسة حزب المؤتمر الشعبي سمحت له بالإبقاء على نفوذه حاضراً، في معادلة مستحيلة جديدة: الثورة تنتصر بل وتحكم والرئيس المخلوع يبقى حاضراً بكامل نفوذه، معادلة لم تحدث في أيّ من دول الربيع العربي.صالح والحوثيون
حينما دقت ساعة الانقلاب الحوثي في اليمن عام 2014، تفاجأ العالم بأن صالح الذي تولى السلطة يوماً بدعم الإسلام السياسي السني ممثلاً في الإخوان المسلمين وآل الأحمر، وإقليمياً عبر السعودية، عاد إلى المشهد بقوة بدعم من الإسلام السياسي الشيعي ممثلاً في التيار الحوثي وإقليمياً عبر إيران. الرجل الذي وضع يده سابقاً بيد آل سعود وضعها بيد الملالي، ومَن قاد ميلشيات الإخوان واستفاد من الأفغان العرب تحالف مع ميلشيات "أنصار الله". هكذا، بعد ست حروب بين نظام صالح والحوثيين، قُتل في إحداها زعيمهم حسين بدر الدين الحوثي، شقيق عبد الملك الحوثي، وبعد أن كرس الفصل الأخير من رئاسته في اتهام إيران بدعم الإرهاب بالمال والسلاح داخل اليمن، انتقل صالح إلى المحور الإيراني، وتقاسم السلطة مع الحوثين من خلال رجاله الذين أدخلهم إلى المجالس الرئاسية التي حكمت صنعاء ومناطق واسعة في اليمن. هكذا رد صالح الصفعة للسعودية التي تخلت عنه، وللثوار ورفقائه القدامى في الجيش والحزب الذين انحازوا للرئيس هادي، بل وأحيا مشروع توريث السلطة لنجله مرة أخرى. وفي إحدى خطاباته عقب اشهار التحالف مع الحوثيين أعلن أن اسمه هو "علي عبد الله صالح ابن علي عباس عفاش"، ليسمّيه اليمنيون مذّاك "عفاش"، كتعبير عن استغرابهم لهذا اللقب الذي أخفاه طويلاً. وتساءل كثيرون عن سرّ إعلان اللقب المغيّب، ورأى البعض أنه تحدٍّ للقبائل التي تفتخر بنسبها في مجتمع طبقي - عشائري، فيما رأى آخرون أنه أحبّ إعلان أسماء علي وعباس في زمن الصحوة الشيعية. التحالف الحذر الذي أداره صالح بعناية لمدة ثلاث سنوات مع أعداء الماضي القريب انتهى في 2 ديسمبر 2017، حين انقلب على إيران والتيار الحوثي وغازل "دول الجوار" قاصداً السعودية والإمارات. من الصعب التكهن بكواليس ما جرى في الأيام القليلة الماضية، ولكن صالح لا يتحرك دون ضمانات، والأرجح أنه أعطي ضوءاً أخضر للقيام بتحركه مقابل مكاسب إضافية يجنيها، خاصة أن الإمارات ظلت تحتفظ بخط اتصال معه عبر نجله المقيم فيها. تنقّل صالح بين كافة المعسكرات المحلية والإقليمية التي تتلاعب باليمن، إلى أن ظهر في 4 ديسمبر 2017 في فيديو يصوّره جثة قنصها الحوثيون، ليُسدل الستار على على مسيرته السياسية التي استمرت نحو أربعة عقود كان فيها دائماً "الرجل القوي".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...