"خرجت الفضيلة من بيت الرذيلة"، شعار رسم على لافتات في تظاهرات جابت شوارع القاهرة عام 1948. لم يخرج المتظاهرون احتجاجاً على هزيمة الجيش المصري في فلسطين بل اعتراضاً على إرسال الملك فاروق إلى الملكة فريدة ورقة الطلاق.
ويحكي البعض أن هذا الطلاق وقع إثر تهديد فريدة لفاروق بفضح الفساد الجاري في القصر أمام عامة الشعب، ما زاد من هوة الخلاف الذي بدأ بسبب ضغط والدة الملك، الملكة نازلي، على ابنها لاتخاذ هذه الخطوة بسبب عدم إنجاب فريدة ولياً للعهد.
فريدة رسامة تشكيلية لم تستطع وهي ملكة مُحاربة الفساد طوال الأعوام الـ11 التي قضتها داخل السراي الملكي. وعقب طلاقها، عبّرت عن ذلك في لوحاتها، بحسب ما قالت لرصيف22 صديقة الملكة فريدة الكاتبة لوتس عبد الكريم.
ويذهب البعض إلى القول إن طلاق فريدة من الملك فاروق كان بمثابة شعلة أضاءت قلوب المصريين للتفكير في الإطاحة بفساد الملك، وتوهجت نيران الشعلة يوم 23 يوليو 1952 وتنازل فاروق عن العرش.
رحلت فريدة من القصر من دون أن تحصل على أي شيء من الهدايا الملكية، وكان ذلك بأمر الملك فاروق.
وبعد سقوط الملكية، حملت ريشتها ولوحاتها لبيعها في المعارض الفنية لمواجهة احتياجات الحياة، في ظل عدم مساندتها من الرؤساء سواء جمال عبد الناصر أو أنور السادات أو حسني مبارك الذي خصص لها 200 جنيه معاشاً وشقة في حي المعادي مساحتها 65 متراً.
باخرة الحب
[caption id="attachment_128890" align="alignnone" width="350"] الملكة فريدة في عمر العاشرة[/caption] بين أحضان أسرة أرستقراطية، ولدت صافيناز في حي "جانكليس" الراقي بالإسكندرية في 5 سبتمبر 1921. وعلى مقاعد مدرسة الراهبات "نوتردام دي سيون" جلست بين زملائها لتتلقى المواد العلمية ولتتعلم اللغة الفرنسية، حسبما روت فريدة للكاتب فاروق هاشم في كتابه "فريدة ملكة مصر تروي أسرار الحب والحكم". والدة ملكة مصر، زينب ذو الفقار كانت وصيفة للملكة نازلي، والدة الملك فاروق. ذات مرة، رافقت صافيناز والدتها، ولم تكن تتعدى الـ14 عاماً، إلى أروقة القصر الملكي عقب تتويج فاروق ملكاً لمصر والسودان عام 1936. أمام حمام سباحة في قصر عابدين، جلست صافيناز على أريكة تختلس نظرات إلى الفتيات الحسناوات المقبلات على الملك فاروق. وهذا لم يعجب فاروق الذي كان في أوج شبابه، فذهب إليها سائلاً عمّن تكون، فجاوبته زينب أنها ابنتها صافيناز فحياها بإيماءة من رأسه وانصرف. بناءً على طلب الملك فاروق، في 27 فبراير 1937، سافرت صافيناز برفقة والدتها على متن الباخرة "فايسروي أوف إنديا" إلى سويسرا مع الأسرة الملكية. هذه الرحلة جعلتها تقع في حبه، ومهدت لعلاقة حب متينة بين الطالبة والملك الشاب.زواج ملكي سعيد
في شهر أغسطس 1937، ذهب فاروق إلى يوسف ذو الفقار في الإسكندرية ليطلب يد ابنته، وأعلنت الخطبة رسمياً في أرجاء البلاد. "عقب ستة أشهر، في عام 1938، ارتدت الفتاة اليافعة فستاناً صنع في باريس وتوّجت ملكة على عرش مصر"، يقول الدكتور ياسر ثابت لرصيف22.أعلنت الملكة فريدة الحرب على والدة الملك فاروق نازلي وضرتها شويكار وكتيبة الفساد وراحت تحذّر زوجها من إضرار الفساد بصورته
"خرجت الفضيلة من بيت الرذيلة"، شعار رسم على لافتات في تظاهرات جابت شوارع القاهرة عام 1948. لم يخرج المتظاهرون احتجاجاً على هزيمة الجيش المصري في فلسطين بل اعتراضاً على إرسال الملك فاروق إلى الملكة فريدة ورقة الطلاق.تجلت مظاهر البهجة في شوارع مصر وبين كلمات الصحف التي تحدثت عن "الزواج الملكي السعيد". سميت صافيناز بالملكة فريدة بناءً على توصية من الملك فاروق تيمناً بالعرف المتواتر في عائلة الملك فؤاد بتسمية الأبناء بأسماء تبدأ بحرف الفاء. عُرفت فريدة، الزوجة الأولى لفاروق، بالشغف بالعلم. ظهر ذلك بقوة حينما أرغمت نفسها على تكملة مسيرتها العلمية وطلبت من والدها أن يجلب مدرسين لها في القصر الملكي لتعلم أصول اللغة العربية والفقه الإسلامي.
أطفال في القصر
مرّ العام الأول من الزواج وسط سعادة الطرفين، ولكن سرعان ما تبدّلت الأحوال نتيجة ما يحدث من فساد داخل القصر، وما تفعله والدة فاروق الملكة نازلي وضرتها "شويكار"، قالت المؤرخة د. لطيفة سالم لرصيف22. أواصر الحب راحت تنحدر شيئاً فشيئاً. أنجبت فريدة الطفلة الأولى فريال، ولكن السعادة لم تغمر وجدان الملك فاروق لأنه أراد ولياً للعهد. الولادة الثانية شكلت هماً أكبر حينما رُزقت بالطفلة فوزية. حاولت فريدة استمالة فاروق عقب ظهور ملامح الغضب على وجهه وقالت له: "إن شاء الله المرة الجاية ربنا يرزقنا بولي العهد". كان ذلك في 7 أبريل 1940. عقب حادثة 4 فبراير 1942، حين حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين وفرض السفير البريطاني السير مايلز لامبسون على الملك تعيين زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس رئيساً للحكومة والتعهد بترك حرية اختيار الوزراء له وإلا انتُزع العرش منه، لجأت فريدة إلى علي ماهر، ثعلب السياسة، للضغط على فاروق كي يلقي بياناً يقرّب الشعب منه. ولكن فاروق لم يفعل ذلك. بدأت هوة الخلاف تتسع عقب الولادة الثالثة، ولم يعد فاروق يهتم بالملكة وانشغل بحفلاته التي كانت تنظمها "شويكار".رعاية الفقراء
اهتمت فريدة بالفقراء المصريين. كانت تزور الملاجئ والجمعيات الخيرية لتقدّم المساعدة للفقراء. حين ضرب فيضان عام 1946 بعض الأقاليم، وزّعت آلاف الأغطية على المنكوبين وتبرعت بـ5 آلاف جنيه، يذكر كتاب "فريدة وأنا". نظمت حفلات خيرية خصص ريعها لمساعدة المحتاجين، ونظمت مسابقات للجميعات الخيرية للتسابق بينها على رعاية الفقراء للظفر بالجوائز، هذا بخلاف المنح السنوية التي كانت تقدمها للجمعيات.عيد الميلاد
حذّرت فريدة الملك فاروق من الفاسدين المحيطين به حتى لا يضع نفسه في دائرة الغضب ويثور عليه الشعب المصري، بحسب لوتس عبد الكريم، رغم أن كثيرين يرفضون نظرية الحاشية الفاسدة ويعتبرون أن هدفها تبرير أعمال الملك فاروق. حاولت فريدة أن تُعدّل في فقرات الحفلات التي كانت تنظمها شويكار لتبعد فاروق عن السمعة السيئة التي تقوّض عرشه، لكن هذا لم يمتد لفترة طويلة، فحين اشتكت شويكار لفاروق من أن فريدة تفسد برامج الحفلات، أصدر أمراً بعدم حضورها. في أحد أعياد ميلادها، انفطر قلب فريدة حزناً لعدم إرسال الملك فاروق باقة من الزهور لها، لانشغاله بعلاقته العاطفية مع الممثلة المصرية ليليان كوهين (كاميليا). أصرت فريدة على طلب الطلاق. ولكن لم يوافق زوجها على ذلك رغم إلحاحها عليه. [caption id="attachment_128888" align="alignnone" width="700"] كاميليا[/caption] أعلنت فريدة الحرب على شويكار ونازلي وراحت تخبر الملك فاروق بما يتم من فساد وبإضرار ذلك به. وحينما شعرت الملكة نازلي بالخطر، حاولت أن توسّع بؤرة الخلاف بين ابنها وزوجته وروّجت شائعات عن أن فريدة تنغمس في نزواتها العاطفية وتجالس وحيد يسري في السر، بينما قالت شويكار إن الرسام البريطاني سيمون إلويز يتنزه مع الملكة ويصطحبها معه إلى منزله. بعض المؤرخين يذهبون إلى أنه كان لفريدة علاقات عاطفية خارج مؤسسة الزواج، بدأت مع بدء التباعد العاطفي بينها وبين فاروق، ومنهم ياسر ثابت.طلاق وحب وفتوى شرعية
في 17 نوفمبر 1948، قرر فاروق أن يطلق فريدة عقب إلحاحها المستمر على ذلك. يقول الكاتب فاروق هاشم في كتابه "فريدة ملكة مصر تروي أسرار الحب والحكم" إنها قالت: "طلبت الطلاق من فاروق لأني أحبه". قبل أن يتخذ ذلك القرار، فكر فاروق كثيراً خوفاً من غضب الشعب الذي أحب الملكة، لذلك استغل توقيت هزيمة الجيش المصري في فلسطين وصفقة الأسلحة الفاسدة وأرسل إليها ورقة الطلاق. أجمع المؤرخون على أن التوقيت كان خاطئاً. خرجت التظاهرات واعتبرها الشعب المصري بطلة قومية لأنها أول مَن كشف فساد فاروق. وهتف متظاهرون: "حذاء فريدة فوق رأس فاروق". في ذلك الوقت، دخل فاروق إحدى حجرات القصر وبكي مثل طفل صغير ندماً على قراره، حسبما قال في مذكرات كتبها في سلسلة مقالات نشرت في صحيفة "ذا صنداي هيرالد". رحلت فريدة من القصر الملكي ورحلت معها الطفلة فادية ذات السبعة أعوام إلى قصر الطاهرة.رسمت مصر
فاروق هو أول شاب سكن قلب الملكة فريدة وظلت مخلصة في حبها له وانزعجت بشدة عندما تنازل عن العرش. تمنّت أن تكون برفقته لترغمه على عدم التنازل والتقرب للشعب من جديد. بكت كثيراً وهي تسمع عبر أثير المذياع أن باخرة الملك فاروق وبناته تبحر إلى روما، حسبما ذكر كتاب "فريدة وأنا". قام مجلس قيادة الثورة بمصادرة قصر الطاهرة وكل ما تملكه من أموال. تركت وحيدة في مصر واتهمت من قبل عائلتها بأنها أيقونة الثورة على فاروق. وطلب منها عضو مجلس قيادة الثورة جمال سالم الزواج ولكنها رفضت. عشقت الفن التشكيلي على يد خالها الفنان محمود سعيد. رسمت أجواء الريف ونهر النيل والأهرامات. كانت لا تحب الأشياء الصاخبة، فاتسمت لوحاتها بالبساطة والعفوية.الرمق الأخير
أرسلت برقية إلى عبد الناصر لتخبره فيها بأنها تريد أن تسافر إلى فرنسا لتعرض لوحاتها في المعارض الفنية بالخارج. ولكن لوتس عبد الحميد تقدّم رواية خاصة بها إذ تقول إن ذلك كان السبب الظاهر أمام العامة، لكنها ذهبت إلى فاروق في روما وتزوجت منه مرة أخرى عام 1963 وجلست مع بناتها اللواتي تلقت منهن معاملة عفوية جافة في البداية. كانت في فرنسا عندما جاءها خبر وفاة فاروق في 18 مارس 1965. حضرت جنازته وشاهد السائرون فيها كيف كانت تنتحب. عادت صافيناز إلى القاهرة مرة أخرى عقب رحلة أوروبية عربية. كتبت مذكراتها وسجلت لحظات حياتها السعيدة والبائسة مع الملك فاروق. أصيبت بمرض اللوكيميا وصارعته حتى الرمق الأخير. الإصفرار والإرهاق ظهرا بجلاء على وجهها وتوفيت في 16 أكتوبر 1988 عن عمر 67 عاماً. حضرت بناتها جنازتها. وفي رواية أنهنّ سرعان ما ذهبن إلى بيتها وحرقن مذكراتها وجميع أوراقها خوفاً من فضح أسرارهن وأسرار أبيهن. وفي رواية ثانية أنهن أحرقن بعضها وانتقل جزء منها إلى روسيا مع إحدى بناتها. وفي رواية ثالثة أنها وضعت مذكرات ووثائق في خزنة في سويسرا ولكن لا أحد يعرف أين هي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...