تخيّم فوق منطقتنا العربية غيمة سوداء: حروب أهلية وحروب بالوكالة؛ ودمار وسفك للدماء ومآس وتهجير وحزن عنيف يهزنا عميقاً. الحروب تدمِّر الحضارات، هذا أمر متفق عليه ويستحيل تقبله في نفس الوقت. ومع فجيعة خسارة الأرواح وأحزان الناس، تقدم الحروب كوارث أخرى: اِنهيار البنى التحتية الاقتصادية، والصحة النفسية وجوانب الحياة الاجتماعية، وكذلك الثقافة المادية، وكلها جوانب أساسية في حياة الشعوب. تتناول المقالة المحور الأخير، والتداعيات طويلة الأمد لتدمير الآثار المادية، وكيف تهدد خسارتها وحدة المجتمعات وتماسك هوياتها. بحسب الأكاديمي بنديكت أندرسن، إنّ الثقافة المشتركة والذاكرة الجماعية يشكلان عنصرين أساسيين في ترسيخ الهوية الوطنية والقومية عند الشعوب. ويعدّ الماضي من أهم العناصر الهوياتية، حيث أن الاتفاق على سردية تاريخية تبني انتماء الشعوب لهويتها الوطنية. لا تقتصر تلك الهوية على الحدود الجغرافية، وبالأخص في عالمنا العربي إذ نعلم أن تلك الحدود فرضت علينا ولَم تحدد بحسب إرادة الشعوب أو تاريخ البلدان. في هذا الإطار، يصبح الحديث عن التراث والثقافة زمن الحرب، والحفاظ عليهما مهمة لابدّ منها.
سوريا وغنى ثقافتها المادية
يتفق العالم بأنّ سوريا هي من أغنى البلاد ثقافياً حيث أن تاريخها الحضاري يمتد آلاف السنين، وتعدّ العاصمة دمشق من أقدم المدن التي بقيت مأهولة بشكل مستمر. تعتبر سوريا مهداً للحضارة رغم التقلبات السياسية التي شهدتها ورغم الانقسامات السياسية والدينية والاقتصادية التي عرفها سكانها عبر السنين. فمن منا لم يسمع عن جمال أسواق دمشق القديمة، عاصمة الأمويين الأولى، وسوق حلب المقبية، أو عن حضارات تدمر وإيبلا وأوغاريت؟ لكنّ سوريا اليوم تشكل إحدى الحالات الأكثر تعقيداً في المنطقة حيث أن ثورتها قد بدأت مع موجة الربيع العربي وتحولت بعد ذلك إلى خليط حرب أهلية وحرب بالوكالة بين عدة دول في الشرق الأوسط والعالم. تشعبت المعارضة وأصبحت تضم فرقاً سياسية ذات برامج وولاءات خارجية متضاربة مع بعضها البعض. وظهر في خضم تلك التغيرات "البعبع" الكبير، داعش، وانتشر داخل سوريا وخارجها كسرطان مخيف. أدت الحرب القائمة في سوريا إلى تهجير الملايين من بيوتهم، وإلى خسارة أرواح وسفك دماء يصعب للمرء تخيله، وأدت إلى تدمير معالم البلاد التاريخية دون تمييز. تتناول المقالة هذا الواقع من خلال قصة قلعة الحصن: تاريخها المثير، وأهميتها، وواقعها اليوم ومستقبلها.أثرٌ للفن المعماري في القرون الوسطى
تقع قلعة الحصن على بعد 50 كم من حمص بالقرب من جبل الأنصارية وهو ممر استراتيجي يصل حمص بمدينة طرابلس شمال لبنان. يعدّ الحصن نموذجاً هاماً لتطور الفن المعماري العسكري خلال العصر الصليبي في الشرق الأوسط بين القرنين الـ11 والـ13. وشهرة القلعة تأتي من أهمية الموقع، حيث أنّه يعكس كيفية تطور أنظمة التحصين في الشرق الأوسط والتي اختلفت عن النماذج الأوروبية الضعيفة بالمقارنة، فالقلعة محاطة بسورين من الحجر يفرقهما خندقٌ.
تمزج القلعة ما بين حضارات الشرق والغرب وتمتد لمسافة 240 متراً (من الشمال إلى الجنوب) و170 متراً (من الشرق إلى الغرب). لم يتم بناء القلعة دفعة واحدة، بل جرى توسيعها على مراحل عدة، من قبل الصليبيين وكذلك على أيدي الحكام في العصر الإسلامي. بنيت القلعة من حجارة كلسية على شكل دوائر متحدة المركز، وكانت تتضمن ساحة داخلية، وساحة خارجية، وكنيسة وأبراجاً عالية، أما استراتيجياً، فهي تسيطر على معابر تؤدي إلى مصياف وقلعة الخوابي في الجبال الساحلية وعلى طريق طرابلس أيضاً.
حصن الأكراد
ليس هناك اتفاق بين العلماء على أصول القلعة وبنائها، غير أنه من المتقف عليه أن تاريخ القلعة يصعب فصله عن تاريخ المدينة نفسها، فحمص مركز هام ومدينة قديمة، وثق وجودها أيّام السلوقيين الهلنسيتين، في القرن الرابع قبل الميلاد، كما أنها عاشت فترات ازدهار متفرقة في تاريخها الطويل، الذي يعتقد البعض بأنه يعود لأكثر من ألفي سنة قبل الميلاد.لأن الماضي من أهم العناصر الهوياتية والانتماء الوطني، لا بد من حماية آثار التاريخ المادية والثقافية
مدينة حمص السورية هي من أهم المراكز الحضارية في سوريا، حيث يعود تاريخها لألفي سنة قبل الميلادأما عن قلعة الحصن نفسها، فيتفق علماء التاريخ والآثار أنّها في عام 1031م كانت تحت سيطرة الدولة السلجوقية بإمرة أمير حمص المرداسي. فكانت تعرف آنذاك بـ"حصن الأكراد" بعدما منحها المرداسي لمجموعة من أكراد الموصل ليقيموا فيها مع عائلاتهم مقابل حماية الطريق الرئيسية التي تربط حمص بحماة وطرابلس من خطر الصليبيين.
في آوائل القرن الـ12، انتقل الحصن من أيدي كردية لأيدي صليبية وبالأخص إلى مجموعة فرسان القديس يوحنا المعروفين بالاستبارية، أو فرسان المشفى، ومنذ ذلك الحين عرفت القلعة بحصن الفرسان. بدأ الجزء الثاني من بناء وتطوير القلعة عام 1157 بسبب أضرار بليغة ألحقها زلزال ضرب المنطقة، فأضيف إلى الحصن كنيسة. لكن التغييرات لم تدم طويلاً، ففي العام 1202 حدث زلزالٌ ثالث مدمرّ، أدى إلى إضافة سور خارجي وجدار حماية ضخم للحصن.
عندما كانت قوة الفرنجة تتقلص بشكل ملحوظ وفي العام 1267، أعد جيش الملك الظاهر بيبرس حملة على فرسان الاستبالية فحاصرهم في القلعة حتى استسلموا تحت وطأة الحصار. وقام بيبرس بعد أن أصبحت القلعة تحت سلطته، بترميم ما تهدم من السور الخارجي والمدخل الرئيسي وسجّل إنجازاته في نص نقش على أحد الأبراج، كُتب فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، أُمِر بتجديد هذا الحصن المبارك في عهد دولة مولانا السلطان الملك الظاهر بيبرس العالم المجاهد المظفر ركن الدنيا والدين أبو الفتح بيبرس قصيم أمير المؤمنين وذلك نهار الثلاثاء 25 شعبان الموافق 669هـ”. وبهذا تحولت القلعة إلى مقرّ ملكي تحت سيطرة بيبرس، و أضيفت إليها حمامات تركية وقناة مياه.
في عام 1285، تم تسليم القلعة إلى الملك منصور قلاوون، أحد أشهر سلاطين المماليك البحرية، ومن ثم تحولت إلى ثكنة حتى الحقبة العثمانية.
من قلعة كردية وحصن صليبيّ ومقر ملكي إلى ساحة للحرب: قلعة الحصن السورية وتواريخها
بحسب الدكتور محمود درويش، بروفيسور في علم الآثار الإسلامية، أن الحصن قد أهمل بشكل كبير، حيث بني بداخله منازل وسكن أهل القرية بقرب القلعة لمدة قرنين حتى عام 1927. وبعدها، تحت رعاية الدولة الفرنسية التي كانت دولة الانتداب على سوريا وجبل لبنان وقتها، قام خبير الآثار، ومختص تاريخ الفن بول دوشامب (1888_1974)، الفرنسي الجنسية، بالعمل على ترميم قلعة الحصن، لأكثر من أربعين سنة متواصة.بعد اندلاع الحرب في 2011، أصبحت الكثير من المعالم التاريخية في سوريا ومنها قلعة الحصن مهددة بالدمار. استولت قوات المعارضة المسلحة على الحصن عام 2012، لمدة سنتين، ولكن قوات الجيش الحكومي استعادت السيطرة عليها في آذار/مارس 2014. تركت الحرب آثارها على القلعة، وأصبحت مقراً استخدمته الأطراف المتحاربة لموقعه الاستراتيجي. يقول الدكتور يوسف كنجو، مدير متحف حلب السابق وأستاذ علم الآثار أنّ “بعد اندلاع الحرب في سوريا، أصبحت القلعة مقرّاً عسكرياً من جديد. في الماضي، كانت الأسلاحة المستعملة بسيطة بالمقارنة مع ما نجده اليوم، فالرمح ليس كالقذائف والرشاشات. لقد دمّرت أجزاء معيّنة من قلعة الحصن كبعض الغرف ولكن ما زالت القلعة محافظة على شكلها الأساسي”.
بحسب تقارير عديدة، فإنّ القلعة قد شهدت دماراً ملحوظاً نتيجة القصف. ناشدت اليونسكو الحكومة السوريا بالحفاظ على تراثها وتاريخها لكنّ محاولاتهم بائت بالفشل، فالحرب ما زالت تدمر وتأخذ ما تريده من أرواح ومباني وآمال. فما هي التداعيات المستقبلية لدمار موقع كقلعة الحصن؟ عند السؤال إن كان هناك أي منظمة أو جمعية تُشرف على إعادة إعمار القلعة اليوم، أجاب الدكتور كنجو أنّه لا يوجد أي مشروع على الأرض، ولكنه أضاف في حديثه مع رصيف22 "لقد قامت المديريّة العامّة للآثار في سوريا بتوثيق الدمار الذي شهدته القلعة لكنّها لم تباشر بأي مشروع (بعد). هناك مؤسسات وجمعيّات دولية يهمّها أمر ترميم قلعة الحصن لكنّها متردّدة للمباشرة بأي خطط نظراً للوضع الحالي في سوريا". دمار الثقافة المادية مأساوي لأسباب كثيرة. أولها، شعورنا بالحسرة والعجز أمام تاريخ كلفنا بحمياته، لكننا لم نستطع الحفاظ عليه. ثانياً، خطر ضياع هذا التاريخ، فماذا عن الأجيال القادمة التي لن تعرف شكل سوريا وآثارها، إلا ما تنقله كتب التاريخ؟ فالمواقع المدمرة لن تعود كما كانت حتّى ولو رممت. ثالثاً، أخطر آثارها، هو حالة الضياع الهوياتي، فإذ حاولنا البحث عن ماض مشترك، أو مواقع تراثية تذكرنا بثراء ثقافتنا وتوحدنا، سنجدها ممحية مدمرة، ومع الوقت ستصبح منسية.
أضافت منظمة اليونسكو قلعة الحصن إلى قائمة التراث العالمي، مع قلعة صلاح الدين، كما يتم إنشاء نموذج رقمي يعيد إعمار الحصن وبالأخص الأجزاء المدمرة منه، فهل يكون ذلك خطوة في طريق حمايتها مستقبلاً؟ إنّ التدمير التي تعرضت له قلعة الحصن اليوم لا يرتبط فقط بالحرب الدائرة حالياً، ولكنّه يرتبط أيضاً بمفاهيم النّاس عن كيفيّة التعامل مع كل ما هو تاريخيّ بشكل عام. عن ذلك يقول الدكتور كنجو أنّ “هناك لامبالاة من قبل الحكومات والشعوب في ما يخصّ التراث الثقافي والآثار. حيث يعتقد غالبية الشعب أنّ الحكومة هي الهيئة الإدارية الوحيدة المعنيّة بالآثار والحفاظ عنها”. ولكن ما هي الحلول المتاحة عندما يتفكك الجسم الإداري وتتفتت الدولة إثر الحروب وتداعياتها؟ وعن هذا يعلق كنجو أنّ على الشعب التمسك بأهميّة ثقافاتهم المادية والتاريخيّة لكي يساهموا بحمايتها، وليمنعوا تدميرها. ويتابع قائلاً: "لا يكفي القول أنّ قلعة الحصن موقع تاريخي مهم، بل علينا تفسير لماذا تعتبر كذلك. تعتمد هويّتنا العربيّة على تاريخنا وثقافتنا حيث أنّ التراث جزءٌ لا يتجزأ من حياتنا وهويتنا، لذا على الشعب والدولة والمؤسسات العمل سويّاً للحفاظ على تاريخهم". من قلعة كردية وحصن صليبي ومقر ملكي، إلى موقع سياحي وساحة حرب شرسة، يبدو كأنّ تواريخ قلعة الحصن دارت دورة كاملة، فما الذي يخبئه لها المستقبل؟ من الصعب إيجاد جواب بسيط، لكنّ جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على عاتقنا، فعلينا أن نكتب عن حاضرنا، وعن تاريخنا، وأن نوثقه بصور ومقالات وأعمال فنية ونماذج رقمية لكي يتذكر الجيل الذي سيخلفنا ثقافة وتراثاً، نحن وحدنا قادرون على حمايتها من خطر الزوال.
المراجع: مقالة "قلقة الحصن" في بي بي سي؛ معرض "مواقع خالدة" (Eternal Sites)؛ تهديد التراث السو (2013)، شيخموس علي؛ العناصر المعمارية في قلعة الحصن بحمص-سوريا_دراسة تحليلية (2016)، محمود أحمد درويش.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.