شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
صلاح الدين في عيون الغرب:

صلاح الدين في عيون الغرب: "أمير عادل وحازم وحكيم ومتدين وفقاً لتقاليد بني جنسه"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 6 مارس 201804:07 م
شخصية القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي، كانت واحدة من أهم الشخصيات المؤثرة على مسرح العلاقات الإسلامية-الغربية في العصور الوسطى. القائد الذي استنقذ بيت المقدس من أيدي الصليبيين في 583هـ/ 1187م، حيكت حوله الكثير من القصص والأخبار في الثقافة الغربية، بحيث نُظر إليه على كونه نموذجاً مميزاً جمع سمات الشهامة والشجاعة والبطولة. وتواترت تلك الحكايات التي تميل للمبالغة والغلو في أدبيات الشعراء والمفكرين الأوروبيين وملاحمهم.

في كتب التاريخ: ما بين روايات وليام الصوري والمؤلفين المجهولين

بدأ صلاح الدين يجد لنفسه مكاناً مهماً في تواريخ الحروب الصليبية عند الغربيين، في مرحلة مبكرة جداً من تلك الفترة التاريخية. فبحسب ما تذكر المؤرخة البريطانية كارول هيلينبراند في بحثها الموسوم بـ“تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب"، فإن وليام الصوري، الذي يُعد أشهر مؤرخي الحروب الصليبية، قد ذكر بطل حطين في كتابه، حيث وصفه في أحد المواضع بقوله: "رجل حاد الذهن، نشط في الحرب، وسخيّ دونما حد". وفي موضع أخر يصفه قائلاً "أمير عادل وحازم وحكيم ومتدين وفقاً لتقاليد بني جنسه". أما أرنولد سائس الفارس باليان أبلين، والذي كان الفارس المكلف بالدفاع عن القدس بعد هزيمة الصليبيين في حطين، فكان شاهد عيان على دخول صلاح الدين لبيت المقدس. كما أنه أشاد مراراً بسلوك السلطان المسلم بعد فتح المدينة، فأظهر في كتابه، شفقته على المسيحيين الذين هزمهم، وكيف أنه كان شهماً جداً مع زوجات وبنات المقاتلين الصليبيين. [caption id="attachment_128222" align="alignnone" width="700"]INSIDE_Saladin_HatinINSIDE_Saladin_Hatin معركة حطين بين الصليبيين والمسلمين[/caption] وإذا كانت الشهادات الغربية المعاصرة لصلاح الدين قد أعطته حقه، فإن الصورة التي رسمتها له المصادر اللاحقة، قد استبدلت الحقائق التاريخية المرتبطة به، بمجموعة من المتخيلات التي حاولت أن تسلبه من جذوره الإسلامية وأن تلحقه بالعالم المسيحي. ففي كتاب "تاريخ ما وراء البحار، وأصل صلاح الدين"، الذي دونه مؤلف مجهول من القرن الثالث عشر، يأتي ذكر صلاح الدين على كونه ابناً لأسرة مسيحية فرنسية نبيلة، وأنه ظل يميل للمسيحية طوال حياته. حتى أنه وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قد قام بتقسيم مملكته إلى ثلاثة أجزاء، وكان الجزء الأكبر والأفضل للمسيحيين، بينما وزع القسمين الأخرين على كلّ من المسلمين واليهود. وفي كتاب آخر يعود لنفس الفترة الزمنية، وعنوانه هو "أغنيات المطرب الجوال من مدينة ريمس"، نُسجت قصة غريبة عن العلاقة العاطفية التي ربطت ما بين الملكة الفرنسية إليانور وصلاح الدين، وكيف أن مدينة صور الشامية قد جمعت ما بين المحبين. وتناسى المؤلف المجهول للكتاب أن الواقع التاريخي يؤكد على زيف تلك القصة، لأن الوقت الذي شهد تربع إليانور على عرش فرنسا، كان صلاح الدين فيه لا يزال طفلاً يلهو في شوارع دمشق وأزقتها. ومن الملاحظ أن جميع الكتابات التي تناولت صلاح الدين في القرن الثالث عشر، زعمت إجادة السلطان المسلم التامة للغة اللاتينية، وذلك رغم عدم ذكر تلك المعلومة في أي مصدر تاريخي متقدم. [caption id="attachment_128223" align="alignnone" width="700"]INSIDE_Saladin_TyreINSIDE_Saladin_Tyre حصار صور من قبل الجيش الأيوبي سنة 1187[/caption] وقد بقيت الصورة المشرقة لصلاح الدين في جميع تواريخ العصور الوسطى وعصر النهضة، ولما تطورت النزعة الإستشراقية الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، استمرت الإشادة بصلاح الدين، حيث تكلم عنه العديد من مؤرخي تلك المرحلة بشكل إيجابي، رغم نقدهم في الكثير من الأوقات لبعض رموز الإسلام. فعلى سبيل المثال، وصفه الفرنسي تشارلز روزبولت، في كتابه "صلاح الدين أمير الشهامة"، بقوله:"بطل متجذر في أسمى مبادئ الفروسية، وفارس لجميع الأزمنة". أما المؤرخ الإنجليزي هاميلتون جب، فقد وصفه في كتابه "حياة صلاح الدين"، فقال: "نراه قائداً يجاهد في سبيل مثالياته، تجلت بطولته، ليس فقط في انتصاراته، وإنما بالأنموذج الذي يقدمه، وهو أنموذج لإنسان تملكته الآمال والرؤى وأعجزه الزمن عن تحقيقها".

في الأدب: كيف شارك صلاح في أهم الملاحم الأوروبية

رغم الحضور القوي لصلاح الدين في الكتابات التاريخية الغربية، إلا أن تأثيرات تلك الشخصية الفريدة في الثقافة الأوروبية، قد تأكدت وترسخت، باستدعائها مراراً وتكراراً في عدد من أهم الأدبيات والملاحم الغربية التي تم نسجها عبر القرون. ففي بدايات القرن الرابع عشر، ومن خلال عمله الخالد الكوميديا الإلهية، كان الشاعر الإيطالي دانتي، من أوائل المبدعين الغربيين الذين استدعوا رمزية شخصية صلاح الدين في أعمالهم الإبداعية. ظهر صلاح الدين في الكوميديا الإلهية لدانتي، التي تمثل رحلة في العالم الآخر، كواحد من مجموعة لم يُدخلها الشاعر الإيطالي في الجنة أو في النار، حيث حظي القائد المسلم بفرصة لمصاحبة الشاعر هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، والفيلسوف اليوناني أفلاطون، والقائد الروماني العظيم يوليوس قيصر. وفي منتصف القرن نفسه تقريباً، عاد اسم صلاح الدين لواجهة الأدب الإيطالي مرة أخرى، عندما قام بوكاتشيو باستخدامه في قصصه المشهورة المعروفة باسم ديكاميرون، والتي كانت تقترب جداً في طريقة سردها من قصص ألف ليلة وليلة المعروفة في المشرق الإسلامي.
حاولت بعض المصادر الأوروبية منح صلاح الدين هوية مسيحية، فقدمته على أنه ابن لأسرة مسيحية فرنسية نبيلة، وأنه ظل يميل للمسيحية طوال حياته
من بين كل التواريخ الإسلامية، تواترت الحكايات عن صلاح الدين بشكل خاص، في أدبيات الشعراء والمفكرين الأوروبيين وملاحمهم
ظهر صلاح الدين في بعض تلك القصص، حيث صور على كونه بطلاً نبيلاً متسامحاً مع أعدائه، وفي الوقت ذاته يتنكر مع بعض رفاقه ليتفقد حال رعيته وليلبي لهم حاجاتهم وطلباتهم. ولم يقتصر ظهور صلاح الدين على أدبيات الفرنسيين والطليان، بل أن ذلك الظهور قد امتد كذلك ليتسرب لبعض الأعمال الأدبية في البلاد التي لم تشارك في الحملات الصليبية على الشام، بل شهدت شكلاً مختلفاً من مواجهة الحكم الإسلامي. فبحسب ما يذكره الدكتور أحمد درويش في كتابه "صورة صلاح الدين في أدب الفرنجة"، أن الأديب الإسباني جون مانويل قد كتب قصة في منتصف القرن الرابع عشر، ظهر فيها صلاح الدين في صورة المحب العاشق الذي يُعجب بامرأة مصرية بالغة الجمال. وأنها قد سألته عن أفضل الخصال التي يجب أن يتحلى بها الرجل، فلما لم يجد صلاح الدين إجابة، سافر لإيطاليا وفرنسا بحثاً عن الجواب، ثم وصل لإسبانيا متنكراً في هيئة شاعر جوال، وهناك وجد إجابة سؤاله عند أحد الحكماء. أما في 1779م، فقد ظهر صلاح الدين في الأدب الألماني، وذلك من خلال مسرحية "ناثان الحكيم"، التي ألفها جوتهولد افرايم ليسنج، والتي صارت واحدة من أهم مسرحيات الأدب الألماني عبر تاريخه. دارت أحداث المسرحية في القدس، إبان فترة الحروب الصليبية، وكان أبطالها الثلاثة الرئيسيون هم ناثان اليهودي الثري الحكيم، وأحد فرسان الصليبيين، وصلاح الدين. وحاولت المسرحية أن تشرح وتبيّن قيم التسامح التي ينبغي أن تجمع ما بين أتباع الديانات الثلاث، وهي تصور صلاح الدين في صورة ممتازة، فهو يتقبل آراء المخالفين له، ويحترمهم، ويحاول أن ينصحهم ويهدأ من ثورة غضبهم كذلك. [caption id="attachment_128220" align="alignnone" width="700"]INSIDE_Saladin3INSIDE_Saladin3 رسم "صلاح الدين ملك مصر"، من مخطوطة تعود للقرن الخامس عشر[/caption] وقد صورت المسرحية حواراً فلسفياً عميقاً ما بين صلاح الدين وناثان، عندما سأل الأول الثاني عن الدين الصحيح، فيجاوب اليهودي مستخدماً قصة الخواتم الثلاثة، والتي صارت قصة مشهورة في الثقافة الغربية بعد ذلك. أما في الربع الأول من القرن التاسع عشر، فقد عاد ذكر القائد الكردي مرة أخرى، وسط أجواء عكست النظرة لبلاد المشرق على أنها سحرية مفعمة  بالغموض والرهبة، عندما نشر الكاتب الإنجليزي والتر سكوت، روايته المعنونة بالطلسم. تدور أحداث الرواية في زمن الحروب الصليبية، وتقوم حبكتها الرئيسة على التعويذة التي أهداها صلاح الدين لأحد الفرسان الإنجليز، والتي بمقدورها شفاء الأمراض. وقد عمل سكوت في روايته، على تصوير كل من صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، على كونهما خصمين عنيدين متنافسين، ويكنان في الوقت ذاته الاحترام والتقدير لبعضهما البعض.

في السينما: من الصليبيين إلى مملكة الجنة

في 1935م، ظهرت شخصية صلاح الدين الأيوبي على شاشات السينما الأمريكية للمرة الأولى، عندما قام المخرج الأميركي سيسل دي ميل بإخراج فيلم الصليبيين، والذي وإن أظهر صلاح الدين بشكل جيد، فقد حاول في الوقت نفسه أن يشير لهمجية قواته من المسلمين، وتفوق الأوروبيين عليهم في نواحي التحضر والتمدين. النجاح الذي حققته رواية الطلسم تسبب في لفت أنظار صانعي السينما لشخصية صلاح الدين بشكل أكبر في منتصف القرن العشرين، فتم إنتاج فيلم مقتبس عن الرواية في 1953، تحت اسم "الملك ريتشارد والصليبيون"، حيث لعب فيه النجم ريكس هاريسون دور الزعيم المسلم. ولعل ذلك الفيلم تحديداً، كان المصدر الذي انبثقت منه قصة المساعدة العلاجية التي قدمها صلاح الدين لريتشارد أثناء مرضه، ومن اللافت للنظر أن تلك القصة قد وجدت طريقها للمخيلة الشعبية الإسلامية، حتى وردت تلك الحادثة في الفيلم المصري الناصر صلاح الدين (عام 1963)، رغم عدم ذكرها في أي مصدر تاريخي معاصر للأحداث.  أما آخر وأفضل الأعمال السينمائية الغربية التي تناولت شخصية صلاح الدين، فكان فيلم مملكة الجنة الذي تم إنتاجه في 2005م، وأخرجه المخرج البريطاني ريدلي سكوت، وشارك في بطولته نخبة من الممثلين الأمريكيين والعرب، ولعب فيه الفنان السوري غسان مسعود دور صلاح الدين. أظهر الفيلم القائد الكردي في شكل متوازن نوعاً ما، فهو يحرص على فتح المدينة المقدسة، ويحارب أعدائه الصليبيين مضطراً بعدما خانوا عهودهم معه. ولكنه في الوقت ذاته، يتسامح مع هؤلاء الأعداء بعد الانتصار عليهم، لدرجة أن أحد المشاهد أظهرته وهو يُعيد نصب صليب مُلقى على الأرض، عقب فتحه للمدينة المقدسة.

لماذا اشتهر صلاح الدين دون باقي المسلمين؟

قد يثار سؤال هنا، وهو لماذا تفرد صلاح الدين تحديداً بكل تلك المكانة في الثقافة الغربية، رغم الاتفاق على انتصاراته المتعددة على الصليبيين، واستعادته للمدينة المقدسة من بين أيديهم. INSIDE_Saladi1INSIDE_Saladi1 الحقيقة أنه لا توجد إجابة بسيطة على هذا السؤال، وربما ينبغي أن نلتفت لعدد من العوامل التي تداخلت مع بعضها البعض لتخليد ذكرى بطل حطين في الثقافة الغربية. أول تلك العوامل، أن فترة الحروب الصليبية كانت هي الفترة التي ظهرت فيها ملاحم العصور الوسطى الكبرى، حيث كانت أجواء الحرب الدينية في بلاد الشام، أجواء مثالية لتخليد البطولات الحربية والقتاليةّ. ثاني العوامل، أن سقوط بيت المقدس، كان أمراً يفوق قدرة المسيحيين على التخيل، ومن ثم فقد ثبت في اعتقادهم أن القائد الذي يستطيع أن يقوم بذلك الفعل هو في الحقيقة بطل عظيم بحق، ويستحق الاحترام والإعجاب، وهو ما تقدمه هيلينبراند في دراستها، كجواب على هذا التساؤل.

كرم صلاح الدين وحسن تعامله مع المنهزمين من أعدائه وأسرهم، لم يكن معهوداً، فصار مضرباً للأمثال ومعياراً للتسامح والعفو

يمكن إضافة عامل ثالث يتمثل في المعاملة الحسنة التي تعامل بها صلاح الدين مع أعدائه المنهزمين، والتي يبدو أنها لم تكن متوقعة من قائد منتصر، فصارت مضرباً للأمثال ومعياراً للتسامح مع الأعداء والعفو عنهم. فإذا ما أضفنا لكل ذلك، ميل الثقافة الفلكلورية دائماً لاصطفاء بعض النماذج الموجودة في الجانب المعادي، وإسباغ الصفات الجيدة عليها، في محاولة لعقلنة ومنطقة سردياتها وروايتها لأحداث التاريخ، ولإظهارها بمظهر الموضوعية والحيدة والأمانة، هل يمكن أن نفهم لماذا وقع الاختيار على صلاح الدين تحديداً ليصبح رمزاً إسلامياً فريداً؟ آخر الدراسات عن شخصية صلاح الدين والتواريخ المتعلقة به، ختاماً، عند الباحثين المعاصرين، سواء كانوا مسلمين أو غربيين عديدة ومتنوعة المقاربات. بالنسبة للباحثين العرب فتعتبر دراسة عبد الرحمن عزام الصادرة في 2013، والمعنونة بـ"صلاح الدين وإعادة إحياء المذهب السني" من أهم الدراسات التي تعرضت للتناقضات والإشكاليات المرتبطة بتاريخ مؤسس الدولة الأيوبية. أما بالنسبة للدراسات الغربية، فيمكننا أن نذكر على سبيل المثال، الكتاب الذي نشره جون دافينبورت في 2003 بعنوان "صلاح الدين" ضمن سلسلة قادة العالم القديم. والدراسة التي نشرها فيليب ماكاوكياك في 2010 بعنوان "الأيام الأخيرة لصلاح الدين: العدو النبيل للحملة الصليبية الثالثة". وفي 2016 فقد نشرت دراسة مهمة لجون مان، بعنوان "صلاح الدين، الحياة والأسطورة والإمبراطورية الإسلامية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image