تصوير مكان ما أو مشهد من الطبيعة أو لوحة تلفت انتباهنا أصبح ممارسة ترافقنا في سفرنا هذه الأيام. وحتى وإن كنا مصورين محترفين، فلا غنى عن كاميرا الهاتف النقال التي ننشر من خلالها الصور على حساباتنا الشخصية على مواقع التواصل الإجتماعي كالفيسبوك والإنستاغرام والواتساب وسنابتشات، وعشرات التطبيقات الأخرى.
فتوثيق رحلتنا ومشاركة الآخرين بتفاصيل سفرنا والمناظر والمعلومات وكذلك مشاعرنا وأفكارنا بات جزءاً لا يتجزأ من تجربة السفر نفسها.
الترحال والسفر: أقدم مواضيع الفن وأدب الرحلة
عندما كتب هوميروس ملحمته الشهيرة الأوديسة، كان يفكر بأساطير وقصص سبقته بعدة قرون، وكان إطار خياله مفصلاً على قياس رحلة بطله، الذي جاب شواطئ المتوسط في مغامراته. ولكن السفر بصفته الاستكشافية، ونزعة التوثيق التي تغلب عليه، هو كذلك من أقدم مناسبات الكتابة التي وصلتنا ممن سبقونا: من هيرودوتس الذي لا تزال كتاباته عن سفره من أهم مصادر معلوماتنا التاريخية، إلى الرحالة المسلمين الذين تنقلوا بين الأقاليم والبلدان وترجموا تجاربهم إلى خرائط وكتابات تاريخية عظيمة. قد تكون التكنولوجيا أعادتنا بعض الشيء إلى أدب الرحلة، خاصة أنّ المعلومة تأتي سريعة وفي هيئة صورة ومعها تعليق، فكأن كل "بوست" هو بحد ذاته صفحة من سيرة رحلاتنا. ومع ترويج التكنولوجيا لعادة مشاركة الآخرين تجاربنا في الحياة، زادت الرغبة في الكتابة عن السفر والتعرف على حال الشعوب كما فعل ابن بطوطة، وابن جبير والإدريسي وابن حوقل وغيرهم من الرحالة المسلمين.روح السفر عند العرب والانفتاح على حضارات العالم في مجلة 361 وسلسلة كتب "مما رأيت"
هل ترجعنا التكنولوجيا إلى تقليد أدب الرحلة كما عرفه الجعرافيون والمؤرخون العرب؟
السفر الذي يغيرنا 360 درجة ودرجة
بالنسبة لمحمد الصانع، السفر ليس مجرد هواية، بل هو أسلوب حياة. وهو ما اختاره بعد أن ترك حياته المهنية كمهندس معماري في بلده الكويت، حيث كان مديراً لمشاريع إنشائية. يقول الصانع لرصيف22، بأنه لم يكن يعتبر نفسه إنساناً مغامراً، ولكن سفرة قام بها إلى كينيا في 2007، غيرت نظرته للسفر، ومع أنها لم تكن سهلة، إلا أنه وجد فيها كـ"تجربة" إثارة ومتعة من نوع خاص، وهكذا غيّر حياته بحثاً عن الإثارة والمتعة في السفر والخيال والكتابة وتصميم الكتب والتفاعل مع قرائها. ويقول الصانع لرصيف: ”هذه السفرة غيرت شيئاً في شخصيتي وإن كان غير مباشر... فشدني السفر إلى أماكن جديدة والخوض في غمار تجارب متنوعة، جعلتني اليوم الشخص الذي أنا عليه“. ترك الصانع عمله، وبدأ رحلة طويلة، لمدة سبعة أشهر متواصلة في 2012، اعتمد فيها على مدخراته، وزار بلاداً لم يزرها من قبل، وتعرف على ثقافات جديدة، منها: البيرو، والأكوادور، وكمبوديا، وأمريكا، والصين، وتايلند، وماليزيا، وسنغافورة، ولندن ولاوس. وكما يقول عن رحلته: "أحسست أنني مختلف وأن مخاوفي بدأت تتلاشى وكنت أعرف أنني لا أريد العودة إلى العمل الذي كنت كنت أقوم به، في مجال إدارة المنشآت بل أردت أنْ أفتح آفاقاً جديدة". هذه الرغبة دفعته لدعوة عدد من الرحالة والمسافرين إلى اجتماع تعارفي بعد عودته إلى الكويت، ومن لقاءات أفراد المجموعة، عام 2013، جاءت فكرة إصدار مجلة تعنى بالسفر وتوثيق تجارب المسافرين العرب. فبالرغم من زيادة وتيرة التنقل والسفر في العالم العربي، إلا أن هناك نقص في المجلات التي تفتح المجال للمسافرين العرب للكتابة عن تجاربهم، كما هو متوفر لدى بقية الثقافات. قرر الفريق تسميتها، "361" لأن "٣٦٠ درجة هي دائرة كاملة"، كما يقول الصانع، ومع أننا نعتقد بأننا نعود إلى نفس النقطة بعد ترحالنا، إلا أن السفر يغيرنا. ويضيف "وقد أعطينا هذا التغيير وحدة مجازية، وهدفنا في المجلة هو رصد هذه التجارب التي تقع ضمن درجة تغيير واحدة أو أبعد من ذلك". صمّم الصانع العدد الأول من المجلة بحجم صغير، سهل الحمل، وكان التجاوب معه سريعاً، فقد لاقت المجلة شعبية بين الناس، واستجاب القراء للقصص التي تناولتها، ووصلت ردود فعل تقول أن المجلة غيرت حياة بعض القراء، لأنها شجعتهم للتفكير بطريقة مختلفة عن الأماكن والشعوب وكذلك عن كيفية السفر وقرب المسافات. أصدرت مجلة 361 ثلاثة أعداد حتى الآن، وعن ذلك قال الصانع: ”الفكرة هي إصدار عدد كل عام تقريباً". ولأن المجلة تعتمد على مجموعة من المساهمين، دون تمويل ثابت، يقوم الفريق بعرضها للشراء قبل الطبع، في صيغة 'كراود فندنغ'. نجحت الفكرة في العدد الأخير، وضمت كتّاباً ومصورين ومصممين لهم علاقة بالسفر، كانوا بأغلبهم كويتيين وخليجيين، مع مشاركات من فلسطين، ومصر، والمغرب ولبنان، وكانت بعض المساهمات باللغة الإنكليزية، رغبة في ترك المجال لغير الناطقين بالعربية، للتعرف على ما يكتبه العرب عن تجارب السفر. يعتقد الصانع أن الثقافات الأخرى لا تعرف الكثير عن حب السفر والتجربة وروح المغامرة عندالعرب، ويأمل أن تساهم 361 في تغيير الصورة النمطية، ويضيف: ”المجلة فتحت لي شخصياً آفاقاً كثيرة، كالعمل في مجال النشر والطباعة، كما أتاحت لي الفرصة للتعرف على أهداف الآخرين من السفر، خصوصاً مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، فلكل شخص تجربته الخاصة المختلفة“."مما رأيت"، أدب سياحة عربي
[caption id="attachment_126102" align="alignleft" width="700"] معبد ماتشو بيتشو في البيرو، في أمريكا الجنوبية[/caption] انشغل الدكتور فهد الشهابي البحريني، بنفس المجال، وأصدر ثلاثة كتب عن رحلاته التي قام بها موثقاً تجربته، بالإضافة إلى معلومات عن البلد وناسها وتاريخها. وتحدث لرصيف22 عن هذه التجربة فقال: ”في البداية لم يكن توثيق معلومات رحلاتي بغرض نشرها في كتاب، بل لمشاركة أصدقائي على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن، وبعد تجميع كم هائل من المعلومات الموثقة بالصور لدي، تبلورت عندي فكرة إصدار سلسلة من الكتب المختصة بأدب الرحلات. فكانت سلسلة كتب 'مما رأيت'". ويقول الشهابي عن مهمة تدوين الرحلات: ”لقد اتبعت سياسة ناجعة لتوثيق رحلاتي، وهي كتابة قصص كل يوم استكشافي قبل نهاية ذلك اليوم، وذلك سهّل عليّ عملية توثيق الرحلات، وساعدني في تجنب نسيان أي جزء منها. وبذلك تكون مادة كل رحلة جاهزة فور انتهاء الرحلة". ورغم عدم إطلاعه الواسع على أدب الرحلة الكلاسيكي، كما يقول، إلا أنه أراد أن يكتب عن السفر دون سوابق أو خطة، بل كما تصوره هو، وهذا الطابع لكتاباته لاقى استحسان قرائه. اتبع الشهابي أسلوباً اعتبره "جديداً" في سلسلة كتبه، حيث أن جميع أجزاء السلسلة قد تمت كتابتها وتصوير محتوياتها من خلال هاتفه النقال فقط، ومن دون أي أدوات احترافية، مؤكداً أن التكنولوجيا والإعلام الجديد يساهمان في دعم الرحالة في الحصول على المعلومات لم تكن ممكنة من قبل. ”فخلال مرحلة التجهيز لأي رحلة، تكون شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي عاملاً أساسياً في رسم خط سير الرحلة، وتحديد أهم المحطات في كل دولة أقوم بزيارتها“، كما قال. ويرى الشهابي أن أدب الرحلة له قراؤه، فقد لاقت كتبه إقبالاً كبيراً، كما أنه تلقّى دعواة لزيارة بلدان والكتابة عنها في الأجزاء القادمة من سلسلة كتبه "مما رأيت". يوجه فهد الشهابي كتبه بالدرجة الأولى للسياح العرب كما يوضح: ”بالرغم من أن كتبي منشورة باللغتين العربية والإنجليزية، إلا أنها موجهة بالمقام الأول إلى السياح العرب. وذلك لرغبتي الجادة في تغيير مفهوم السياحة لديهم". ويضيف: "فمن غير المعقول أن يقضىي السائح العربي صيفه لمدة عقدين من الزمان في نفس الدولة، ويسكن في نفس الفندق، ويزور نفس المطاعم والمجمعات عاماً بعد عام. ففي العالم حوالي مائتي دولة، ولكل منها سحره الخاص. وقد وددت أن أشاركهم تجاربي من خلال هذه السلسلة، علها تكون دافعاً لهم لتغيير وجهاتهم السياحية مستقبلاً". وأشار الشهابي أنه سيستمر في إصدار المزيد من الكتب، بعد الأجزاء الأولى التي ضمت رحلاته شرقاً إلى الهند الصينية (في العدد الأول)، وغرباً إلى أمريكا الجنوبية ودول البحر الأدرياتيكي (في العدد الثاني)، وشمالاً إلى الدول الإسكندنافية ودول طريق الحرير (في العدد الثالث). يجهز الشهابي 3 أعداد جديدة للطباعة، ويعمل حالياً على استكمال مواد الجزء السابع، كما يطمح مستقبلاً إلى إصدار الكتب بلغات أخرى غير العربية والانجليزية. مع انفتاح العالم وتوسع آفاق السفر والتنقل، أصبحنا على تواصل أسرع مع من يعتبرون أنفسهم "مسافرين" أو "رحالة"، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى ممن يصدرون الكتب ويقيمون معارض صور، وفي هذه الممارسات إعادة اعتبار لهذا النوع من الفن والأدب، فهو كفنّ وكمهنة، لا يختصر السفر في مفهوم السياحة فحسب، ولكن يوسع آفاق المعرفة وتذوق الجمال والانفتاح على الثقافات والشعوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...