تحتجز الشرطة الفرنسية الشاب "طلال فيصل" بعد بلاغ من صديقته الفرنسية أنه يطاردها، ويحولونه إلى الطبيب النفسي بسبب هذيانه وهلوساته التي يرددها.
هكذا يبدأ الشاب سرداً طويلاً يبوح فيه للطبيب عن علاقته العاطفية، وعن مشروعه الروائي الذي سيكتبه، ويحدثه عن الثورة المصرية، وعن علاقته بالإخوان المسلمين، فيما الطبيب يقف محتاراً لا يعرف كيف يترجم ما يقوله الشاب للقاضي.
إذاً، يلجأ الكاتب المصري "طلال فيصل" لاستخدام اسمه الصريح في روايته الجديدة "بليغ"، التي يتناول فيها أبرز المحطات في حياة الملحن الشهير "بليغ حمدي"، وذلك من خلال لعبة فنية يجعل فيها بطله "طلال" يعيش تجربة عاطفية مؤلمة تتشابه مع ما يعيشه اثنان آخران في الرواية، هما الملحن "بليغ حمدي" وموسيقي مغربي آخر اسمه "سليمان العطار" يلتقي به في باريس، لينتج في النهاية سيرةً عن ألم فراق المحبوب، من خلال ثلاث وجهات نظر مختلفة، تنبني على ثلاث حكايات.
"حكايتي معقدة، ومبنية على ثلاثة خطوط متوازية، أولها سيرة موسيقار موهوب أدرك سر الحياة والنغمة الحلوة والنسوان فابتهج وأبهجنا معه، وثانيها حدوتة فتى غرّ غادر بلاده، هرباً أو عشقاً أو كليهما، فانتهى مكلبشاً في مصحة في قلب باريس، وثالثها سيرة الهرب من الهوس والحزن بمطاردة النغمة الحائرة ومحاولة تحليلها، في صحبة موسيقار مغربي مديوكر، غير موهوب، ولا قيمة فعلية له في الحكاية".
أما حكاية "طلال فيصل" في الرواية فهي بسيطة، شابٌ نشأ في أسرة متدينة، تؤمن بحتمية الحل الإسلامي، درس في مدرسة إسلامية، وحين خرج إلى الحياة بعد تسجيله في الجامعة اكتشف أن في الحياة بشراً آخرين ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين.
عاش طلال تجارب مختلفة وأعاد اكتشاف نفسه واكتشاف الحياة، وانتهى غير مؤمن بالأديان.
حاول كسب رزقه بالترجمة وبإنشاء دار نشر صغيرة، ولذلك فإنه زار المركز الفرنسي في القاهرة مستطلعاً عن الدعم المتاح لها، وهناك التقى بـ"مارييل" الفرنسية وأعجبا ببعضهما.
توالت لقاءاتهما وخصوصاً بعد ثورة يناير 2011، لينتهي الأمر بهما وقد أحبا بعضهما، ما جعلها تساعده في الحصول على منحة يزور فيها باريس لكتابة روايته عن "بليغ حمدي" وعن السنوات التي قضاها الملحن هناك.
يستند الكاتب في روايته عن بليغ على بعض الوثائق والأخبار التي وردت في جرائد ومجلات تلك الفترة، وعلى يوميات كتبها الملحن نفسه، وعلى بعض الرسائل المتفرقة التي أرسلها لمشاهير ذلك الزمن، كما يعتمد على مقابلات أجراها مع عدد من الشخصيات التي عايشته، وعلى قراءات متنوعة عن شخصية "بليغ".
يكتب عن طفولته ودراسته للبيانو ثم عن مرحلة شبابه وطموحه في أن يصبح ملحن "الست" أم كلثوم، وكيف استطاع الوصول إلى هذا، وكانت أول أغنية لحنها لها "حب إيه"، ثم تتالت الأعمال بينهما.
إن هي إلا حكاية واحدة تتكرر من بدء الخلق إلى آخره... عن الفراق بعد عشق شديد نتحدث
رواية في ظاهرها عن موسيقار لحن أعظم الألحان العربية، وفي باطنها عن الفراق الذي يكون بعد العشق الشديد
غير أن ما يحتل القسم الأعظم من سيرة الملحن المصري حدثان اثنان كان لهما أكبر الأثر في حياته، الأول هو عشقه للمطربة "وردة"، وما عاناه في سبيل هذا العشق، وكيف أنه ظل كل عمره المتبقي بعد طلاقهما حزيناً وحائراً، يلحن الأغاني لمطربات أخريات، يغنينها ليرسل لها عبر هذه الكلمات والألحان رسائل حب وحنين.
"هذه حكاية بلبل مسكين... كان يبحث عن الحب. وجد أميرة جميلة فوضعته في يدها وغنت له. استكان في يدها الناعمة وعرف أن هذا ما كان يبحث عنه. لكن الشك والقلق والحيرة كانت أقوى من كل شيء. (...) عندما نحب أحداً لا نجهض نفسنا مرتين، كأننا لا نريد رابطاً أبدياً بيننا وبينه! هل أنا كفاية؟ هذا سؤال لا أريد معرفة إجابته أبداً".
أما الحدث الثاني الذي يشكّل قسماً كبيراً من سيرة الملحن فهو قصة الحكم عليه بتهمة "تسهيل الدعارة"، وهربه إلى باريس وعيشه هناك، بعد أن قامت فتاة مغربية برمي نفسها عارية من شرفة منزله.
بين هذا الحدث وذاك سنقرأ الكثير من مغامرات الفتى الطائش، وعن سر الذكاء في ألحانه، وسبب عبقريته، وعن علاقته مع أم كلثوم التي كانت تعتبره مثل ابنها، وعن ذكرياته مع مطربي ذلك العصر، مثل فايزة أحمد، ليلى مراد، نجاة الصغيرة، عبد الحليم حافظ، ميادة الحناوي، سميرة سعيدة، والألحان التي قدمها لهم.
كما نقرأ عن أغنية "العيون السود" التي لحنها لوردة وظلّ التسجيل الشهير الذي تغني فيه وردة هذه الأغنية ويرافقها هو على العود خالداً حتى الآن.
يقسم الكاتب روايته إلى خمسة أقسام، الأول منها يروي فيه الطبيب النفسي عن الفتى الطائش الذي أتت به الشرطة إليه، لأنه لم يفهم أن صديقته الفرنسية جادة في إنهاء علاقتها به، والثاني يروي فيه "طلال فيصل" عن روايته الخاصة ببليغ وعن هذه العلاقة مع "مارييل" التي تشبه علاقة بليغ بوردة، وتتقاطع معها في أكثر من موضع.
أما القسم الثالث، فيخصصه طلال للقاضي الذي كان عليه إصدار الحكم الخاص بقضية بليغ وانتحار الصبية المغربية، في حين يمتلئ القسم الرابع بأوراق متناثرة من دفاتر بليغ ويومياته ورسائله...
أما القسم الخامس والأخير فيروي عن شخص يدعى "سليمان العطار" وقد عاش مع بليغ في سنواته الباريسية والتقى مصادفة بعد سنوات طويلة بطلال فيصل وحين عرف أنه يريد كتابة رواية عن صديقه فإنه ساعده بتعليمه الموسيقا، وأطلعه على ما يحتفظ به من أوراق بليغ. و
لـ"سليمان" قصة حب انتهت بالفراق مثل ما حصل مع "طلال" ومن قبله مع "بليغ"، فقد أحب في شبابه فتاة فرنسية وتركته، ليعاني مثلهما من ألم الحب، ذلك الذي يبدأ متفجراً مشرقاً ثم ينتهي نهاية تترك الحبيب بجراح لا تلتئم.
"إن هي إلا حكاية واحدة تتكرر من بدء الخلق إلى آخره، تنويعات على لحن واحد، يبدأ عالياً ثم يبوخ فلا يبقى منه سوى حشرجة الآلات في آخر اللحن".
هكذا، تبدو رواية "طلال فيصل" في ظاهرها رواية عن الموسيقار المصري الذي لحن أعظم الألحان الخالدة، غير أنها في باطنها رواية عن الفراق الذي يكون بعد العشق الشديد.
وبين الظاهر والباطن يلعب الراوي بالسخرية حيناً وبمزج كلمات الأغاني مع السرد حيناً آخر، وبالوثائق حيناً ثالثاً. ويبقى في كل هذه الأحيان أميناً للخيال الذي هو أسّ الرواية وأساسها.
طلال فيصل، روائي مصري من مواليد عام 1985. درس الطب ثم التحق بكلية الآداب قسم الفلسفة، ثم سافر في بعثة لاستكمال دراسة الطب النفسي في ألمانيا.
ترجم عدداً من الكتب، وأصدر ثلاث روايات: "سيرة مولع بالهوانم"، "سرور" التي حاز عنها جائزة ساويرس عام 2015، وأخيراً "بليغ".
الناشر: دار الشروق/ القاهرة
عدد الصفحات: 340
الطبعة الأولى: 2017
يمكن شراء الرواية من موقع
الفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...