ما بين الندية والتنافس من جهة والنصر والفوز جهة أخرى، مسافة طويلة، وبون شاسع، يملئه طيف من العلاقات والأحاسيس الإنسانية العميقة والمركبة.
وقد أثبتت التجارب التاريخية، أنه لا يلزم أن يقود التنافس إلى العداء والمنافرة والمواجهة، بل، وعلى العكس، فكثيراً ما تنشأ علاقة من الإعجاب والتقدير والاحترام، ما بين الغريمين المتنافسين، حيث يكون كل منهما أدرى الناس بملكات منافسه الفذة وقدراته الفريدة.
يسعرض هذا المقال عدداً من المواقف التي ظهر فيها إعجاب الند بنده، في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وذلك في مجالات السياسة والحرب والفكر والشعر والفقه.
"متى تلد قريش مثل مصعب؟" الصداقة التي لم تبدلها الحروب والدماء
عقب وفاة الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في 64هـ/683م، انفرط عقد السلطة الأموية، واضطرب أمر الخلافة في دمشق، وهو الأمر الذي أتاح الفرصة لعبد الله بن الزبير لدعوة الناس إلى بيعته، وإعلان نفسه خليفة للمسلمين في العام نفسه. الأمويون الذين فاجأتهم ما أسفرت عنه الأحداث المتلاحقة، قاموا باختيار مروان بن الحكم لمنصب الخلافة، وذلك عقب اعتزال معاوية بن يزيد للسلطة بعد ستة أشهر فقط من تقلدها. ورغم أن رقعة السلطة الأموية، قد اقتصرت على دمشق وما حولها فقط، إلا أن مروان قد استطاع أن يحافظ على قوة البيت الأموي ووحدته واستقراره، حتى إذا ما اقتربت نهايته في 65هـ/685م، كان قد ترك لابنه عبد الملك الإمكانيات التي تؤهله لمناطحة عبد الله بن الزبير. بدأ عبد الملك بن مروان بحشد جيش قوي لاستعادة النفوذ الأموي في المناطق التي يسيطر عليها الزبيريون، ولكنه وجد نفسه ملزماً بالاصطدام بواحد من أقرب أصدقائه القدامى إلى نفسه، ألا وهو مصعب بن الزبير قائد جيش الخلافة. ورغم أن المعركة التي وقعت في دير الجاثليق، قد آلت نتائجها في نهاية الأمر إلى مصلحة الخليفة الأموي، بعد مقتل مصعب بن الزبير، إلا أن المصادر التاريخية الإسلامية، تكاد تُجمع على حالة الحزن والانكسار اللذان أصابا عبد الملك، بعد المعركة، على صديقه القديم، وأنه قد عمل دائماً على الإشادة بحسن خصال غريمه المهزوم، في كل فرصة ممكنة. فقد ذكر المسعودي في مروج الذهب، أن عبد الملك كان دائم الحسرة على قتل مصعب، وكان كثيراً ما يردد "متى تلد قريش مثل مصعب؟" كما ذكر ابن كثير، أنه لما قُطعت رأس مصعب، وقُدمت لعبد الملك بكى بكاء مريراً، وأنشد الشعر في رثائه. وفي موضع أخر من كتاب البداية والنهاية، يذكر ابن كثير أن عبد الملك قد سأل الحضور في مجلسه عن أشجع العرب، فاختلفوا وتضاربت أراءهم، فقال لهم: "إن أشجع الناس لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، سيد ضاحية العرب وولى العراقين خمس سنين فأصاب الأموال والملك، وغير ذلك مالا يحصى، وأعطى مع هذا الأمان وأن يسلم هذا له جميعه مع الحياة فزهد في هذا كله وأبى واختار القتل على مقام ذل ومفارقة هذا كله ومشى بسيفه فقاتل حتى مات وذلك بعد خذلان أصحابه فذلك مصعب بن الزبير". وإن كانت المصادر قد صدقت أو بالغت في توصيف هذه الصداقة، إلا أنها مع ذلك تدل على أنّ الثقافة الشعبية كانت أميل لهذا التقليد من التقدير المتبادل بين الخصوم، وأحياناً الصداقة والمشاعر الأخوية، بين المتخاصمين، كما حفظته لنا كتب التراث.رغم التنافس الدائم في المناظرات الشعرية بين الفرزدق وجرير، وصلتنا أعذب الشعر من رثاء جرير للفرزذق
لم تكن الخلافات الفقهية مصدراً للخصام دائماً، بل فرصة للنقاش والمناظرات، ولتوطيد الاحترام المتبادل بين المذاهب
"من كان ينتمي إلى كل نجم فـي السمـاء" من الهجاء الفاحش إلى الرثاء المُبكي
يمكن القول، إن أشهر الموروثات الأدبية الشعرية، التي خلفتها لنا السنوات الأولى من عصر الدولة الأموية، تمثلت في أخبار المناظرات والمناقشات الشعرية التي وقعت ما بين إثنين من كبار شعراء هذا العصر، وهما جرير والفرزدق. ومن الغريب أن الشاعرين اللذين خلدا اسميهما في تاريخ الأدب العربي، بهجائهما العنيف لبعضهما البعض، كانا في الأصل صديقين مقربين، وأن منافستهما الحامية في المجال الشعري لم تؤثر في اعتراف كل منهما بقدرة صاحبه ومكانته التي لا خلاف عليها، ومما يؤكد على ذلك ما وقع عقب وفاة الفرزدق في 114هـ/ 732م، حيث حزن جرير حزناً شديداً، وأنشد ثلاث قصائد مبكية في رثاء صديقه ونده المتوفي. حيث كان مطلع قصيدته الأولى: فلا حملت بعد الفرزدق حامل ولا ذات بعل من نفاس تعلتِ وفي القصيدة الثانية، قال: فجعنا بحمال الديات ابن غالبٍ وحامي تميم عرضها والمراجم أما القصيدة الثالثة، فكانت أشدهم تأثيراً ووقعاً على نفوس السامعين، وقد جاء بها لعمري لقد أشجـى تميمـاً وهدهـا على نكبات الدهر مـوت الفـرزدق عشيـة راحـوا للفـراق بنعشـه إلى جدثٍ في هـوة الأرض معمـقِ لقد غادروا في اللحد من كان ينتمي إلى كل نجم فـي السمـاء محلـقِعندما سمّى المنصور غريمه اللدود "صقر قريش"
في عام 132هـ/ 749م، تمكنت الثورة العباسية من إسقاط الحكم الأموي، عندما قُتل مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين في صعيد مصر، وبذلك تم التدشين لدولة جديدة في تاريخ الإسلام، وهي تلك التي عُرفت باسم الدولة العباسية. العباسيون الذين وصلوا إلى السلطة، عملوا على مسح معالم أسلافهم الأمويين، فتعقبوا أمراءهم في كل مكان، وتخلصوا من سلطتهم، إما بقتلهم، أو بقبول ولاء بعضهم. أحد الأمراء الأمويين، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، تمكن من الفرار من تلك المذابح، وتنقل في البلدان والأقاليم، حتى وصل إلى بلاد المغرب، فاستقر بها فترة ثم قطع البحر إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، فدخل في بعض التحالفات السياسية، التي مكنته في نهاية الأمر من الوصول لسدة الحكم بها واعتلاء كرسي الإمارة الأندلسية. وفي الوقت الذي كان فيه عبد الرحمن، منشغلاً بالوصول للسلطة في الأندلس، كان المشرق الإسلامي يشهد تنصيب خليفة عباسي جديد، قُدر له أن يكون المؤسس الفعلي للدولة العباسية، ونقصد به أبي جعفر المنصور، الذي تولى الحكم عقب وفاة أخيه الأكبر أبي عبد الله السفاح. مع وصول كلّ من عبد الرحمن الداخل وأبي جعفر المنصور، لسدة الرئاسة في الأندلس والمشرق، بدأت حالة من حالات المنافسة السياسية الشرسة ما بين العاهلين العظيمين. فقد كان كلٌّ منهما يبحث عن سُبل فرض سطوته، وبينما كان الداخل يحاول إحياء إرث أبائه من جديد في الأندلس، فقد كان المنصور يُمنّي نفسه بالسيطرة على ذلك الصقع البعيد، المتطرف عن مركز حكمه في بغداد، واستمرت حالة العداوة المتبادلة ما بين الطرفين حتى نهاية عمريهما. الغريب أنه، ووسط كل تلك الأجواء المشحونة بالتنافس، نجد أن الكثير من الروايات تشير لاحترام كلاً منهما للأخر، حتى أن معظم المصادر التاريخية، تؤكد على أن لقب "صقر قريش"، وهو اللقب الأشهر لعبد الرحمن الداخل، كان قد أُطلق عليه من قبل منافسه المنصور، وذلك في معرض الإشادة به والتغني بكفاءته وشجاعته، كما وردت بعض الروايات التي يُفهم منها إعجاب الداخل بسياسة الخليفة العباسي ومحاولة تقليده في بعض أعماله وتصرفاته ومظاهر ملكه.رغم الخلاف الفقهي: أبو حنيفة يعترف بأعلمية الصادق
من المعروف، أن أبا حنيفة النعمان كان هو الفقيه الأول وسط فقهاء أهل السنة والجماعة الأربعة، التي لا تزال مذاهبهم معتبرة وسط عموم المسلمين حتى اليوم الحاضر. وعلى الرغم من العلاقات المتوترة التي قامت ما بين أبي حنيفة من جهة والسلطة العباسية القائمة في عهده، والممثلة في شخص الخليفة أبي جعفر المنصور، من جهة أخرى، إلا أن الخلافة قد عملت على الاستعانة بعلم الفقيه العراقي وقدرته على الجدل والمناظرة، لإضعاف شوكة بعض خصومها من العلويين الذين اشتم العباسيون من جهتهم رائحة الخطر. كانت نقطة الخلاف الرئيسة التي اشتعلت حولها المجادلات الفقهية، هي مسألة القياس، فبينما اُعتمد القياس من قبل أبي حنيفة على كونه أحد الوسائل الرئيسة التي تُستنبط عن طريقها الأحكام الشرعية، فإن أئمة أهل البيت المعاصرين، وعلى رأسهم الإمام جعفر الصادق، قد رفضوا استخدام القياس بشكل تام، واعتقدوا أن به مخالفة صريحة للأوامر والنصوص الإلهية. في ظل هذا الخلاف، حاول الخليفة المنصور استثمار الموقف، حيث ذكر الحافظ المزي في تهذيب الكمال، أن المنصور قد استدعى أبا حنيفة إلى مجلسه، وشجعه على إعداد المسائل والمشكلات الفقهية الصعبة، وعندما حضر جعفر الصادق إلى المجلس، قام أبو حنيفة بعرض تلك المسائل عليه، ولكن الصادق استطاع أن يجيب عليها كلها بثقة تامة ودون أن يعطي فرصة لمهاجميه لانتقاد كلامه أو التشكيك فيه. ويذكر المزي، أن أبا حنيفة قد أقر في نهاية المجلس بأعلمية الصادق، وذلك رغم الاختلاف معه في المباني والأسس الفقهية، حتى قال في ذلك قولته المشهورة "ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد". كما قال في موقف أخر، "لولا السنتان لهلك النعمان" وكان يقصد بالسنتين، تلكما اللتين قضاهما في صحبة جعفر الصادق وأبيه محمد الباقر، للدراسة والتتلمذ على أيديهما. اعتراف الخصوم بمكانة وقوة منافسيهم هو تقليد عربي بامتياز، نجده في المناظرات الأدبية، وفي السياسة وفي الفقه
شيخ سني يمنح عالم الشيعة الأشهر لقبه "المفيد"
عُرف العصر البويهي، بكونه واحداً من أكثر عصور الحضارة العربية الإسلامية، تسامحاً وقابلية للاختلافات المذهبية والفكرية. وربما كان السبب الرئيس في ذلك، تلك التركيبة المعقدة للسلطة التي كانت قائمة في ذلك العصر، حيث كانت الخلافة العباسية السنية تتقاسم النفوذ والصلاحيات مع السلطنة البويهية الشيعية، وهو الأمر الذي أسهم في حدوث حالة من حالات التماهي والتداخل المعرفي والعلمي ما بين المذهبين، السني والشيعي، رغم كل الاختلافات والسمات المميزة لكل منهما. أحد أهم الأمثلة التي تدلل على ذلك التقارب، هو مثال العالم الشيعي محمد بن محمد بن النعمان العكبري، المعروف باسم الشيخ المفيد والذي توفى في 413هـ. المفيد، ومع كونه شيعياً إمامياً منذ حداثة سنه، فقد تتلمذ على يد عدد كبير من علماء المعتزلة والسنة المعروفين في زمانه، ليس ذلك فحسب، بل إن لقبه "المفيد"، قد سماه به أحد هؤلاء العلماء المخالفين له مذهبياً، وهو علي بن عيسى الرماني. يذكر ابن إدريس الحلي في كتابه السرائر، قصة تلك التسمية، فيقول إن العالم الشيعي الأبرز كان يحضر مجلس علم عند الشيخ الرماني، فقدم أحد الرجال وسأل عن بعض المسائل الخلافية والإشكالية ما بين السنة والشيعة، فأجاب عليه الرماني بمنطق معين، فلما انصرف السائل، قام ابن النعمان وسأل شيخه عن مسائل أخرى، وأثبت ضعف إجاباته مستخدماً المنهج نفسه الذي استخدمه الشيخ في رده على السائل الأول. هنا تذكر الرواية، أن الرماني قد أقر بحسن منطق تلميذه الشاب، ودخل إلى داره، فكتب كتاباً لقب فيه التلميذ باسم المفيد، وصار هذا اللقب هو اللقب الأشهر ما بين الشيعة، دون أن يعرف معظمهم أن مصدره هو عالم سني. صورة المقالة من مقتنيات متحف هانتينغتون للفنون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...