شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
سوريا ومعاركي الفاصلة مع التاكسي و

سوريا ومعاركي الفاصلة مع التاكسي و "دبان وجهي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 10 أبريل 201811:36 ص
بدأت المعركة لحظة صعودي عربة التاكسي التي ستقلني من منزلي عند الجامعة الأميركية إلى مطار بيروت. سمعت السائق يحدث زبوناً آخر على الهاتف. قال له إنه في طريقه إليه في منطقة السادات، وأن سبب تأخيره "العجقة والسير". ثم أكد له أنه سـ "يكون عنده" خلال ثلث ساعة. وأغلق الهاتف وضحك ضحكة صغيرة. جن جنوني.  فالسائق ليس في طريقه إليه، وسبب تأخيره ليس الزحمة، بل الموافقة على اصطحابي إلى مكان بعيد من السادات، ومن يعرف بيروت يعرف المسافة بين السادات والمطار. "ليش كذبت عليه؟". "ليش عم تستخف به وبوقته؟". "ما رح كمل المشوار، هلأ بنزل من السيارة إذا ما بتتصل فيه وبتقله إنك ما رح توصل لعنده قبل ساعة ليقدر يرتب أموره!". لم أتراجع حين أخبرني أن ليس لديه وحدات ليُتم الاتصال. بلغ مشهد المعركة ذروته حين أخذت الرقم منه، وأرسلت رسالة نصية إلى الرجل "الضحية" بنفسي، معتذرةً باسم السائق على إضاعة وقته وشارحةً له الحقيقة، ليُسدل الستار عند اعتراف السائق "بخطئه"، مبرراً ذلك بالبحث عن "لقمة رزق" إضافية. لا يفهم السائق، ولا الراكب المُنتظر الذي حملت حقه على كتفي، سبب تعيين نفسي مراقباً مسؤولاً عن أخلاق وصدق أهل المدينة الذين يكذب معظمهم بقدر استنشاقهم هواءها الملوث. لكني أقنعت نفسي بأن تصرفي ينم عن رغبتي في تغيير المجتمع إلى الأفضل وإحقاق الحق، وهنأتها (نفسي) على مثابرتها ومجهودها. أقيس على هذا كثيراً. إصرار هو في حقيقة الأمر ساذج، على خوض معارك غريبة، بخاصة حين تُقارن بالمعارك اليومية التي يخوضها أهل الأرض للعيش بشيء من الكرامة، أو لاكتساب بعض الحقوق، أو لتغيير دستور، أو تعديل قانون. أوبّخ رجلاً لا أعرفه لتذمره في وجه زوجته. أحتد وأرفض سماع نكتة عابرة قيلت ببراءة، لما تحمله من معانٍ عنصرية. أحدق في وجوه أصدقائي لأرى إن كان هناك أثرٌ لضيق ما وأتأهب وأستعد لحل الأزمة، لحظة بوحهم بها. أجادل أقاربي في أبسط الأمور، ألعن البناء والعمران والعواصم ودبي كلما رأيت عاملاً في الشارع. أخوض تلك المعارك المضحكة، والتي يخوضها المراهقون بنزق حين يعلنون تمردهم على محيطهم، ثم يتخلون عنها مع النضوج في سبيل التركيز على معارك أكثر أهمية وجدية وقيمة. أما أنا، فتجدني أقحم أنفي فيها وأشعر بسعادة بعدها.

أخوض تلك المعارك المضحكة، والتي يخوضها المراهقون بنزق حين يعلنون تمردهم على محيطهم، ثم يتخلون عنها مع النضوج في سبيل التركيز على معارك أكثر أهمية وجدية وقيمة.

أيقظتني صديقتي مي بعد نشوة انتصار صغير، وقالت لي ببساطة: "هالة، دافعك هو الأنا - الإيغو - فقط لا غير، لا تخدعي نفسك. إنها الأنا". أعي ما تقول. أي فرق أحدثت حين نهرت سائق التاكسي الذي أنهكته قسوة يوم التصق مع الحر والرطوبة بمقعد العربة الجلدي؟ هل نسيت الساعات التي يمضيها خلف المقود في المدينة الجارحة ليطعم أهل بيته، وأن إطعامهم بات صعباً بلا بعض من الكذب؟ ما قيمة معركتي التي اخترتها معه هو الذي يحارب الحياة، مُجبراً، كل يوم؟ ولمَ هذا الزهو وأنا أعلم أنه كان خلال حديثنا في موقف ضعف وأن انتصاري عليه كان محتماً؟ الفرق الوحيد الذي أحدثه، أو الأثر الوحيد الذي تركته، هو إحساسي بمقدرتي على تسجيل انتصارات. إرضاء للأنا. ولهذه الأنا حكاية. هذه الأنا التي فشلت في إحقاق أي تغيير يذكر على مدى ست سنوات، فاتجهت إلى دوائر صغيرة لتحارب فيها. أيقظت الثورة السورية فينا، أو فيّا أنا، إحساساً عنيفاً بمعنى العدالة، لتعود وتقتل بعنف، وعلى مدى ست سنوات، الإيمان بالقدرة على إحقاقها. وبات عيشنا كل يوم بين نقيضين: بين ما أُيقظ وما قُتل. وهو عيش في صراع بين ذروة الشعور، ومنتهى العجز.
أيقظت الثورة السورية فينا إحساساً عنيفاً بمعنى العدالة، لتعود وتقتل بعنف الإيمان بالقدرة على إحقاقها
ظننا أن بوسعنا، جميعاً، تغيير منظومة الظلم أو إحراز فرق ما. كأن يُطلق سراح المعتقلين، أو أن يُحاسب بعض الفاسدين. أن تُكتب قصص الناس وتُقرأ ويُعرف السبب ويبطل العجب. فلا عُرف السبب، وما زال العجب واللوم والسؤال بعد ست سنوات كما كانت: لمَ فعلتم هذا؟ أذكر يقيني في أول رحلة صحافية لي إلى حمص، بأن قصص الناس التي أحملها في جعبتي لأنشرها، ستوصل كلام من لا تُسمع أصواتهم للعالم، ولن يكونوا بُكماً. أين هم من أردت إسماع أصواتهم في حمص الآن؟ صمتوا للأبد. دُهسنا يومياً، منذ مارس 2011 حتى اليوم الذي أصبحت فيه حلب الشرقية ركاماً وسار أهلها غرباً يحملون الذل والأكياس في ذلك الشتاء الغريب. فأصبحنا نبحث عن انتصارات صغيرة تجبر هذا الكسر. أُدرك تماماً أن السبيل الوحيد للاستمرار في الحياة مع الظلم هو اليقين بأن العمل لا يكون دافعه انتظاراً لنتيجة مباشرة أو تغيير. أي أن علي أن أُخرج نفسي من المعادلة، فلا أشعر بنشوة انتصار ولا بمرارة هزيمة. العيش بتصالح حقيقي يعني التخلي عن الأنا. وأنا ما زلت أشكو مرض الأنا. تلك الأنا الملتصقة، أنهرها فتعود وتقوى. أحاربها، فتكبر. كم هي محزنة هذه الأنا. تسجل نقاط انتصارها في معارك مضحكة كتلك التي خاضتها مع سائق التاكسي، أو تلك التي تخوضها مع أشخاص تلقي عليهم محاضراتها الأخلاقية، وهي تعلم مسبقاً أنهم سيوافقونها الرأي. محزنة حين تنال رضاها من معارك اختارتها لمعرفتها مسبقاً بأنها ستنتصر فيها. تلك الأنا المغرورة، هي ذاتها الأنا المهزومة. أنا دُهست أحلامها، وهي تُوقن أن موتها هو السبيل للسلام الداخلي، لكنها تُصر على البقاء وخوض معاركها الصغيرة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard