كان خبر وفاة الرئيس جمال عبدالناصر يوم 28 سبتمبر 1970 حدثاً عالمياً، وتبارى الكثيرون من داخل العالم العربي وخارجه، في إبداء انفعالاتهم تجاهه. في مصر خرجت أكبر جنازة في تاريخها، بحسب إجماع أغلب المصادر، لتشييعه، وشهد العالم العربي جنازات رمزية بعضها كان ضخماً.
ولكن، كيف كان وقع خبر الوفاة على معارضيه، خاصة مَن كانوا في المعتقلات؟
الإخوان... فرح الأغلبية
فرح أغلب أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بموت عبد الناصر، وهاجموا من أبدى غير ذلك من مشاعر. يقول الداعية الإخواني يوسف القرضاوي في مذكراته "ابن القرية والكتاب: ملامح سيرة ومسيرة": "من حقنا أن نتنفس الصعداء، وأن نستبشر بموته، وأن نتوقع تغييراً من وراء ذلك يكون في صالحنا". جاء ذلك بعد أن قال: "كلنا من هذه الكأس شاربون، وإلى هذا المصير ذاهبون. ولكننا، نحن الإخوان، بشر، يحكمنا ما يحكم البشر من عواطف ومشاعر. فقد مات الرجل الذي قهرنا وأذل كبرياءنا، وذقنا على يديه ألوان العذاب". كان القرضاوي في قطر حين توفي عبد الناصر، وأقامت الجالية المصرية وبعض القطريين سرادق للعزاء، فاضطر، لأسباب شرحها في مذكراته، إلى المشاركة في العزاء، والنتيجة كانت حملة شرسة من الإخوان ضده، حسبما يروي. وقال: "كان بعض الإخوة السطحيين المساكين يتقربون إلى الله تعالى بالتشنيع عليّ، والنّيل من عرضي، وكأني لست ممن ابتلوا بجحيم عبد الناصر". وذكر القيادي الإخواني فريد عبد الخالق، في حوار معه على قناة الجزيرة، أنه كان في المعتقل يوم وفاة عبد الناصر، وحين علم المعتقلون من الإخوان بالخبر استبشروا خيراً، إلا أنه بكى. وعلل ذلك قائلاً: "تذكرت ما كان بيني وبينه يوم كنا متعارفين قبل الثورة وبعد الثورة، فوفائي له لم يفارقني".كما روى القيادي الإخواني السابق، كمال الهلباوي، أن مرشد الإخوان عمر التلمساني، حين علم بوفاة عبد الناصر وهو في المعتقل، ترحّم عليه، فغضب منه معتقلو الإخوان. على الجانب الآخر، هناك مَن تضرروا من عبد الناصر بالسجن وغيره ولكنهم حزنوا عليه، وعلى رأسهم الصحافي مصطفى أمين، الذي سُجن بتهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة، عام 1965، وكان لا يزال في الحبس يوم الوفاة، ورغم ذلك، بعث خطاباً إلى ابنته صفية، يقول فيه: "حزنت لوفاة الرئيس عبد الناصر، شعرت أن قطعة مني قد ماتت، لا شك أن مصر خسرت قائدها العملاق وشخصية تاريخية لا تتكرر، وأسطورة سوف تعيش أجيالاً، شعرت أن كل بيت في مصر أقام له مأتماً، وكل قلب في مصر مشت فيه جنازة تبكيه. عاش عبد الناصر، كالشهب، دخل إلى الحياة من بابها الكبير، وخرج منها من بابها الكبير، وليس أمام هذا الشعب سوى الاتحاد ليملأ هذا الفراغ الكبير، فالمقعد الشاغر الذي تركه لا يمكن أن يملأه رجل واحد، بل لن يملأ هذا المقعد إلا الشعب كله".
تقول صفية لرصيف22 إن إخلاص أبيها لمصر جعله يفضّل مصلحة بلاده على نفسه، فقبل بقانون تأميم الصحف عام 1961، رغم أنه كان أكبر المتضررين، إذ بمقتضاه آلت دار "أخبار اليوم" التي كان يمتلكها إلى الدولة.
وأضافت أنه نعى عبد الناصر من منطلق أن بلاده حكمها مصري وطني "رغم الخلاف معه"، ولم يعبأ بسجنه له، لأن ذلك يخصه وحده، فيما وفاة عبد الناصر خسارة لمصر كلها.
خسارة عبد الناصر "لا يمكن أن يملأها رجل واحد، بل لن يملأها إلا الشعب كله"، قال أحد معارضيه من سجنه
شيوعيون بكوا عبد الناصر من سجونهم فوُصِفوا بالمازوشيين… كيف كان وقع خبر وفاته على معارضيه؟
سجنهم ومدحوه في قصائدهم
بين معتقلي حقبة عبد الناصر أدباء وشعراء حزنوا على وفاته. وحكى الروائي جمال الغيطاني، الذي اعتقل عام 1966، عن إهانات طالته في المعتقل، إلا أنه أعرب بعد ذلك عن حبه لعبد الناصر في أكثر من مناسبة. وقال إنه قيمة كبيرة نعيش على أثرها حتى الآن، معتبراً أن نظافة يده ووطنيته وأخلاقه لا تقبل التشكيك، وأن أخطاءه يمكن مغفرتها، مؤكداً أنه لم يتعلق به إلا بعد وفاته. وقال: "لم يكن يكتمل العيد إلا برؤيته، فقد كان يفضّل صلاة العيد في مسجد الحسين، فكنا نخرج لكي نقابله ونراه... جمال عبد الناصر لن يتكرر". ومن الشعراء مَن رثوه بقصائد بعد موته، رغم أنهم كانوا من معتقلي عهده، ومنهم فؤاد حداد الذي اعتقل مرتين، الأولى بين عامي 1953 و1956، والثانية بين عامي 1959 و1964، بحسب كتاب "ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء" لرجاء النقاش. حداد رثى ناصر في ديوان بعنوان "استشهاد جمال عبد الناصر"، وقال فيه: "يا حضن مصري يا طلعة فجر ياريس/ مع السلامة يا والد يا أحن شهيد".
ويوم وفاة عبد الناصر كان الشاعر أحمد فؤاد نجم معتقلاً، بسبب قصائد غنائية هاجمت النظام، ولكنه بكى حين سمع الخبر لـ"زوال حلم"، بحسب تعبيره، لا بسبب وفاة ناصر كشخص. وقال إن أمه زارته في الأسبوع الذي توفي فيه ناصر، فوجد آثار بكاء في عينيها، وعلم أن السبب حزنها على رحيل الرئيس، فسألها متعجباً: "هل تبكين على رجل سجن ابنك؟ فأجابته: عامود الخيمة سقط يا حمار". ونظم نجم قصيدة لمدحه، بعد ذلك، بعنوان "زيارة إلى ضريح عبد الناصر"، وصفه فيها بنبيّ عصره.
بدوره، اعتُقل الشاعر عبد الرحمن الأبنودي عام 1966، بتهمة الانضمام إلى تنظيم شيوعي، وأفرج عنه بعد شهور، ولكنه مدح عبد الناصر بعد موته في قصيدة بعنوان "يعيش جمال عبد الناصر"، يقول فيها إنه ليس ناصرياً ولم يكن، خاصة في عهده، "لكن العفن وفساد القوم نساه حتى زنازينه".
الشيوعيون يمدحون سجّانهم
من المفكرين الشيوعيين مَن اعتقلهم عبد الناصر لخلافه السياسي معهم، ولكنهم مدحوه بعد وفاته، ومنهم محمود أمين العالِم، الذي اعتُقل عام 1954، لتحالفه مع الإخوان وحزب الوفد، كما اعتقل عام 1958 وحكى عن تعذيب طاله ورفاقه. ورغم رضاه عن عبد الناصر هو وعدد من زملائه، وهم داخل السجن، بعد صدور القرارات الاشتراكية عام 1961، ظلوا معتقلين حتى عام 1964، بحسب كتاب "اعترافات شيخ الشيوعيين محمود أمين العالم"، لسليمان الحكيم. وأهدى العالم كتابه "من نقد الحاضر إلى المستقبل" إلى عبد الناصر، وكتب في أولى صفحاته: "إلى جمال عبد الناصر الإنسان والمناضل والمشروع القومي والإنساني الذي لم يكتمل". وينقل سليمان الحكيم عن العالم، أنه كتب البيان الذي ألقاه الرئيس أنور السادات، بعد وفاة عبد الناصر، والذي جاء فيه: "عبد الناصر مات شخصاً ولم يمت فكراً أو منهجاً، وإننا سوف نسير على طريق عبد الناصر وبفكر عبد الناصر".كذلك كان إسماعيل صبري عبد الله، ممن اعتقلهم عبد الناصر. ويحكي سعد زهران الذي كان معتقلاً مع عبد الله، في كتابه "الأوردي... مذكرات سجين"، أنه تعرض لألوان من التعذيب في المعتقل، وفي أحد الأيام أجبره السجانون على ترديد النشيد الوطني فرفض، فأوسعوه ضرباً، ثم سحلوه وأخذوه لتكسير الحجارة وهو لا يستطيع حتى الجلوس على مقعده. ورغم ما طال عبد الله، نجده يكتب عن عبد الناصر: "كان إنساناً فريداً، فقد ولد بمواهب رجل الدولة"، ويضيف: "كان نقياً شغله الشاغل المصلحة الوطنية"، وغيرها من جمل مليئة بالمديح في مقال له نُشر بمجلة الطليعة. عبد الله كان أستاذاً للاقتصاد، وعُيّن وزيراً للتخطيط في عهد أنور السادات، وعمل مستشاراً للشؤون الاقتصادية والمالية بمكتب رئيس الوزراء بين عامي 1954 و1955، واعتُقل ضمن الحملة التي طالت الشيوعيين بدءاً من عام 1958 حتى أُفرج عنه عام 1964.بعد وفاة عبد الناصر، زارت والدة أحمد فؤاد نجم ابنها في سجنه فسألها متعجباً: "هل تبكين على رجل سجن ابنك؟ فأجابته: عامود الخيمة سقط يا حمار"
هل هي مازوشية؟
يقول الصحافي والمؤرخ صلاح عيسى لرصيف22 إن هناك مَن اتهم معارضي عبد الناصر الذين بكوه بالمازوشية، كالكاتب الشهير المعارض لعبد الناصر، أنيس منصور. ونقل كتاب "أنيس منصور كما لم يعرفه أحد: سير وتراجم" لعاصم بكري، أن الأمر كان يخص الشيوعيين أكثر من غيرهم، وسخر منهم منصور، قائلاً: "المؤلم ليس أنه ضربهم بالحذاء، ولكن المؤلم كثيراً أن الحذاء لم يكن نظيفاً". ويوضح عيسى أن خلافه وغيره من الشيوعيين مع عبد الناصر كان جزئياً، وبالتحديد في ما يخص غياب الحريات، ولكنهم كانوا يؤيدونه في ما أرساه من "عدالة اجتماعية" و"استقلال وطني"، ولم يكن لديهم شك في إخلاصه ووطنيته، ولذلك كان حزنهم عليه كبيراً. اعتقل عيسى مرتين في عهد عبد الناصر، آخرها بعد نكسة 1967، ولكنه بكى حزناً عليه يوم وفاته، رغم أنه كان معتقلاً وقتها. ويشير عيسى إلى أنه وبعض زملائه في معتقل "طرة"، قرروا إرسال رسالة إلى السادات بعد توليه الحكم مباشرة، وطالبوه خلالها بأن ينتهج سياسة ناصر في الحكم، فلما قرأها مدير السجن رفض إرسالها إلى السادات، وتعرض عيسى بسببها لحبس انفرادي لمدة ثلاثة أيام. وعن التعذيب، قال عيسى إن المجموعة التي سُجنت بين عامي 1958 و1964، تعرضت لأقسى أنواع التعذيب، ومات سبعة منها داخل المعتقل أشهرهم شهدي عطية. ويرى الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن مَن بكوا عبد الناصر ممن عارضوه، أغلبهم كانت مشاريعهم السياسية أو أفكارهم لا تتعارض معه بشكل كلي، وغفروا له ما فعله معهم، باعتبار أنهم استفادوا من عهده.وتابع أنه يُضاف إلى عامل الأفكار، التكوين الشخصي لعبد الناصر، فقد تمتع بكاريزما جاذبة، وانضباط سلوكي، تجلى في عدم فساده مالياً، ما جعل البعض يحترمه وإن اختلف معه.
وأضاف السيد لرصيف22 أن عبد الناصر كان يمسك بمقاليد الأمور كحاكم مطلق، ونجح في تقزيم كل المحيطين به، وبالتالي كان موته فاجعة، جعل الأغلبية تشعر بالخوف على المستقبل، باستثناء بعض المعارضين وعلى رأسهم الإخوان الذين كان مشروعهم يختلف كلياً مع مشروعه، واعتبروه عدواً، ولذلك فرحوا بل شمتوا بموته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...