فكروا قبل أن تقرروا ما تريدونه، ابتسموا وتخلصوا من المشاعر السلبية، دافعوا عن اختياراتكم في وجه العادات والتقاليد، قاتلوا من أجل اختلافكم وحريتكم، تخصصوا في مجال معيّن والتزموا به، لا تشتتوا أنفسكم، كونوا أصحاب يقين وثقة في أنفسكم وأصدقائكم ومعتقداتكم الإيجابية.
نصائح كهذه تُغرق كتب التنمية البشرية، وتشكل أخلاقيات ومبادئ للعمل لدى معظم الناس، ولكن ثمة من يرى أن الحياة في الألفية الجديدة تغيرت كثيراً حتى باتت فيها هذه القيم والأفكار منتهية الصلاحية، أو على أقل تقدير، غير ملائمة كفاية لتلك المتغيرات.
الصخب والاضطرابات في أماكن العمل، وكثرة العلاقات ومشتتات الانتباه، والكشوفات العلمية الكبرى في الفيزياء، والقفزة في وسائل التواصل الاجتماعي، والثورات السياسية والاضطرابات الاجتماعية… كل ذلك هز الكثير من المبادئ الكبرى التي عاش عليها أجدادنا، وشكلت نمطاً لحياتنا وطريقة تفكيرنا.
في هذا السياق، ألهمت أخلاقيات وأفكار صينية قديمة مستلهمة من حكماء مثل كونفشيوس ولاو تزو كاتباً بريطانياً ليقدم رؤية لمواجهة تحديات الحياة المعاصرة.
يقول مايكل بيت، بروفيسور في جامعة هارفارد، مقدماً لكتاب شاركته فيه الصحافية كريستيان لوس غوه "الطريق: ما يمكن أن يعلمنا إياه الفلاسفة الصينيون عن الحياة الجيدة": "التعرض لهذه الأفكار سيغير حياتكم، سيفتح أنفسكم لاحتمالات لم تتخيلوا وجودها".
اعملوا ولا تفكروا
ترفع الحياة المعاصرة من قدر التفكير والتدبر في شؤون الحياة، كلما أعملتم عقلكم أكثر في ما يحدث حولكم، فهمتم أعمق، وحققتم السلام والاسترخاء المرجوين. لكن كونفوشيوس، بحسب مايكل بيت ولوس غوه، يقلل من قيمة هذا التفكير الانعزالي، وينتقد حالة الانفصال عن الأنشطة الإنسانية لتدبرها وتأملها، ويؤيد فكرة الانشغال بالعالم، أن تعلموا أنفسكم ذاتياً بلا معلم، عبر الانخراط في الفعل والعمل، وليس عن طريق تأمل ما يحدث. بالنسبة له الفعل ورد الفعل هما اللذان يعلمان وليس المراقبة السلبية. [caption id="attachment_123167" align="alignnone" width="700"] تمثال لكونفوشيوس في معبد له في شانغهاي، الصين.[/caption]اكتئبوا وعيشوا طبيعتكم
البعض منا يميل إلى العزلة والاكتئاب، وقد تكون مبررات تلك الحالة طبيعية، حالة من النضج وسط تجمع متخلف، رهافة في المشاعر، وشغف بالإنسانيات في مجتمع مهووس بالطموح والسلطة والمكاسب الطبيعية. في كتاب لاو تزو "الطريق إلى الفضيلة"، نجد معايشة لهذه الروح الحزينة من لامبالاة البشر، ولا يرسم لكم "الطاو"، وهي كلمة تعني الصراط المستقيم عند الصينيين، طريقاً للهروب من الواقع بقدر معايشته. يقول لاو تزو: "هل يتحتم علي أن أخاف كل ما يخافه الآخرون؟ أي سخف هذا!" ويقول: "في الربيع يخرج البعض إلى الحدائق، ويتسلقون الشرفات، أنا وحدي مختلف، ضائع، لا أعرف أين أنا، كطفل وليد لم يتعلم الابتسام بعد"، وينهي عباراته المتعلقة بتلك الحالة النفسية قائلاً: "الناس كلهم عندهم ما يشغلهم، وأنا وحدي بلا قصد، أعاني الاكتئاب، ترضعني وتغذيني الأمور الكبيرة، فأنا مختلف". لا يوجد مشكلة في ما تشعرون به بالنسبة إلى الطاو، ولكن المشكلة أن تفكروا في ما تشعرون به، أن تحللوه، حينها ستدخلون في عالم الأوهام، ولكن عيشوا طبيعتكم، واعملوا على أوجهها المختلفة. وعندما يتعلق الأمر بالعادات والتقاليد، فالأمر مختلف، بالنسبة للحكمة الصينية القديمة، خصوصاً لو كانت لديكم أفكار ورؤى اجتماعية وأخلاقية تختلف عما يعتنقه الغالبية في بلدكم، يُقال لنا غالباً إننا يجب أن نركز على ضرورة التحرر من العالم التقليدي، والقمع الاجتماعي الذي نحيا فيه، ونعيش اختياراتنا نحن، لا اختيارات المجتمع، وإذا تقبلنا العالم الواقعي وتناغمنا مع التقاليد، فسنكون أشخاصاً تقليديين، هذا ما تطرحه الثقافة الغربية الحديثة. أما الثقافة الصينية القديمة، فتحذركم من اعتناق أفكار مسبقة، فيقول الطاو إنكم في حالة تبنيكم لطريق محدد وواضح ستفقدون "الطريق"، ما تقوله الحكمة الصينية وفقاً لرؤية مايكل بيت هو أننا كائنات معقدة للغاية، وحياتنا موجهة وموزعة في اتجاهات مختلفة ومتناقضة طوال الوقت. التقاليد العائلية تفرض أجواءً معينة مختلفة عن رفقة العمل وأصدقاء الحياة، ومن خلال تفاعلنا وخبراتنا واستجاباتنا لكل تلك الأجواء المتناقضة نكبر وننضج، وللتصرفات الصغيرة داخل الأجواء المتناقضة من العشاء العائلي إلى الرقص في النوادي الليلية، أهمية عظمى في تحويل أنفسنا والعالم للأفضل. وثمة مشكلة أخرى للطاو مع الثقافة المعاصرة، هي أن تنظروا إلى "أنفسكم الحقيقية" كمفهوم مجرد، وتضعوا لها أفكاراً مسبقة، مثل يجب أن تكون كذا وألا تكون كذا، ولكن النفس بالنسبة للصينيين شيء متعدد الأوجه، وينمو ويتطور عبر التفاعل مع الكائنات الإنسانية الأخرى، لا عبر التأمل المجرد في ماهية النفس. ردود أفعالكم في أنشطتكم اليومية هي التي تشكل شخصيتكم، ولكن شخصيتكم ليست واحدة، فهي متعددة ومتناقضة، مع والدتكم وزوجتكم ورئيسكم في العمل وصديقكم، أنتم مختلفون جداً مع كل واحد منهم، وهذا الاختلاف يجعل الإنسان ذاتاً مليئة بالاحتمالات وثرية.تشتتوا ولا تتخصصوا
وفي العمل أيضاً، تقول لكم الحياة المعاصرة تخصصوا في شيء ما منذ صغركم. إذا كنتم مثقفين فستميلون إلى الدخول إلى المكتبات ونوادي الأدب والمهرجانات الثقافية، وتصقلون موهبتكم بمرور العمر حتى إذا بلغتم الكبر أصبحتم مخضرمين في مجالكم. الثقافة الصينية العتيقة كما فسرها مايكل بيت، تقول لكم إذا كنتم تكرهون الموسيقى تعلموها، تنفرون من تعلم اللغات الأجنبية أتقنوا لغة أو اثنتين، اعملوا في تخصصات مختلفة، فهذه الانحرافات والتمزقات في حياتكم العملية هي التي تعلمكم، هذا التحدي العقلي لقدراتكم، ومحاولاتكم المتكررة كشاعر في تعلم الرياضة واللغات والموسيقى، هي التي تبني عقلكم، وليس الاستكانة إلى ميولكم الطبيعية. وهذا ما يغيركم ويبني شخصيتكم طوال الوقت للأفضل.اكفروا ولا تقمعوا أنفسكم
إذا خرجتم من المجال الخاص، الأسرة والعمل والأصدقاء، إلى المجال العام، حيث التفاعل مع القضايا الوطنية والدينية والإنسانية، فستشعرون حتماً بالفوضى في خضم الأحداث السياسية، وصخب وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تشعرون بضياع فرديتكم، وتجاهدون للالتزام بما تعتقدونه دينياً وسياسياً، من الإسلام السياسي إلى الليبرالية والاشتراكية، في وجه الفوضى والتغيرات. ولكن إذا استمعتم إلى الصينين القدماء فسيقولون لكم لا تحاربوا الفوضى، فهي حقيقية، وكل محاولة لتنظيم الأمور يتبعها قمع أشياء مهمة في كينونتكم الإنسانية. يسمي أوشو طريق الطاوية في كتاب "الطاو طريق اللاطريق" بأنها "طريق اللا طريق"، ويعرف ذلك بأنها تتسم بالحرية، والفوضوية: "الطاوية تقول لكم إذا فرضتم النظام على أنفسكم فستصبحون عبيداً، لأن الانضباط يخرج من وعيكم، ثم ستكونون أسياداً. إذا فرضتم النظام على حياتكم لن تكونوا سوى ادعياء، وسيكون انعدام النظام عميقاً في جوهر كينونتكم"، و"النظام سيكون على السطح فقط"، واجهوا الفوضى، تحدوها، عيشوها، عيشوا على حافة الخطر، فيتولد النظام من الفوضى بطريقة عفوية وغير مقصودة، وليس من أي نمط خارجي، حينها سيصبح النظام بكراً وليس ناجماً عن تقاليد بالية، وأفكاركم طازجة منتمية إليكم، وليست مستعملة آتية من الآخرين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.