"الباخرة، بل صورة الباخرة في ذلك الكتاب الواسع الصفحات، هي ما دفعني إلى تلك الرحلة. الباخرة وحدها، إذ لم يظهر في الصورة شيء آخر سواها، لا المياه التي تحملها ولا اليابسة القريبة عند أي من الضفتين حولها".
الباخرة، إذاً، هي السبب الوحيد الذي دفع بـ"سالم الشريف" بطل رواية حسن داوود الأخيرة "في أثر غيمة"، إلى الذهاب في رحلة نهرية لمدة أسبوع، قرر أن يمضيها في القراءة والكتابة، فهو شاعر وكاتب، ولذلك فإنه لم يصطحب معه زوجته، بل أتى وحيداً، على عكس الكل الذين أتوا أزواجاً. قد تكون الباخرة هي المكان المناسب لجمع مجموعة من الناس وقصّ حكاياتهم، لكن لدى داوود ستكون الباخرة مكاناً يحكي فيه فقط عن بطله وعن شخصيات قليلة تتفاعل معه ويتفاعل معها في أثناء الرحلة. لذا، فإننا لن نقرأ في هذه الرواية حكايات متشعبة لعدد كبير من الشخصيات، ولا سنرجع بالزمن خطفاً إلى الخلف لمعرفة مواضيهم، بل سنكتفي بالزمن الآني الجاري فوق الماء الحامل للباخرة. وإن كان هذا الزمن نفسه يمكن أن يأخذ أبعاداً كثيرة، فما يجري من أحداث أو أفكار مع سالم مثلاً، يمكن أن يوازيه وقتاً أحداث وأفكار أخرى مع شخصٍ آخر، إلا أن الكاتب غير معنيٍّ سوى ببعدٍ واحد من زمنه المختار، هو زمن بطله وراويه. من بين كل الأزواج الذين على الباخرة، لن يتفاعل سالم إلا مع اثنين: تميم وفريال، إضافة إلى تفاعله مع صاحب الباخرة رضوان، وحارسه عبد الإله، والمرشدة السياحية لمى. فبإلحاحٍ من صاحب الباخرة سيضطر إلى مشاركتهم عدة سهرات تقام كل ليلة، ولكن ثمة ما يريب. ثمة شيء لا يفهمه هذا المنطوي على نفسه في الرحلة، إذ يبدو أن رضوان يجبر لمى على السهر معهم كي لا يكون الكاتب وحيداً، ولكنه في الوقت نفسه، يراقبهما معاً بواسطة حارسه وخادمه عبد الإله كي لا تنشأ علاقة بينهما، ورغم ذلك فإن لمى تتحدى الوضع المفروض وتزوره في غرفته."كنت أعرف أنني لن أبادر معها إلى شيء. لن أكون أنا من يفعل تلك القفزة. لم أعد أحتمل أن أُبعد، كأن ترد يدي بيديها الاثنتين وتفهمني، من دون كلام، أنها لم تأت إلى هنا من أجل ذلك، ثم إنني لم أعد أثق بما قد أفعله. ربما كان يمكنني في وقت سبق أن أترك نفسي على سجيتي، عارفاً أن خطوة أعملها ستوصل إلى أخرى، هكذا من تلقائها. لم أعد في ذلك العمر".
"في الرحلات، لا شيء مما يحدث، يحدث حقيقة، تماما كما الأحلام"، هذا ما يخبرنا به حسن داوود في روايته الأخيرةيمكن للقارئ أن ينسج آلاف القصص لتفسير الغامض، وللإجابة عن هذه الأسئلة، لكن حسن داوود لا يجيبه عن أي سؤال، ولا يؤكد له أي حبكة مما يخطر في باله. هو، حفّزه فحسب، لتخيّل كل تلك السيناريوهات. على التوازي مع كل ذلك، هناك قصة تميم ورفيقة رحلته فريال، التي على متن الباخرة، تنتهي. فتميم ضئيل الحجم، قزم، ولسبب ما، أحبته. ولكن، ظلّ دائماً هذا التردد مرافقاً لعلاقتها به. وعلى ظهر الباخرة، تفجّر كل شيء: نظرات الناس لهما، أفكارها حول مستقبلهما معاً، هل ستنجب أطفالاً مثله؟ محاولاته الدائمة المستفزة بالنسبة لها لإظهار أنه كالآخرين... كل تلك الأسباب جعلها تتخذ قراراً بإنهاء العلاقة، وظلّ هو مصرّاً على المحافظة عليها، ورغم محاولاتها لتجنبه وعدم الاقتراب منه، بقي متأملاً بأملٍ أخير: مقعدها في طائرة العودة سيكون إلى جانب مقعده. لا نعرف إلى أي بلادٍ تنتمي شخصيات "في أثر غيمة"، لا وجود لذكر ذلك في الرواية كلها، وليس في أفكار الراوي أو في تصرفات الشخصيات ما يدل على ذلك. يمكن لهم أن يكونوا من أي بلد، ولن يتغير شيء في الأحداث أو السرد. وعلى الرغم من أن هناك الكثير من الأشياء والأسئلة التي تحفزها الرواية في دواخل القارئ، فإن أكثرها إلحاحاً وأكثرها بقاء في ذاكرته سيكون تميم، بعلاقته، بحياته، بتصوّراته هو عن نفسه، بكيفية حمايته لذاته من الآخرين، وبنظرتنا نحن، القاصرة، إلى اختلافه. "في الرحلات، لا شيء مما يحدث، يحدث حقيقةً، تماماً كما الأحلام"، هذا ما يخبرنا به الراوي في الصفحات الأخيرة من الرواية. كل شيء عاشه على متن الباخرة، سيبقى هناك، ولن يتذكره إلا مثل منامٍ رآه وصحا منه. أيضاً، في الروايات، لا شيء مما يحدث، يحدث حقيقةً، تماماً كما الأحلام، لكن بعض المنامات لا تنتهي حين نستيقظ، بعضها نتذكر تفاصيله، لسنين طويلة، بعد أن نراه. بعضها يؤثر في وعينا وفي تصرفاتنا، وبعضها لا يفارقنا، هكذا هي رواية "في أثر غيمة"، هي لا تنتهي حين تغلق غلافها الأخير. إنها تتغلغل داخلك لتكمل حياتها وعيشها هناك. حسن داوود، كاتب وروائي لبناني من مواليد 1951. له ثلاث مجموعات قصصية، وإحدى عشرة رواية: "بناية ماتيلد"، "روض الحياة المحزون"، "أيام زائدة"، "سنة الأوتوماتيك"، "غناء البطريق" التي فازت بجائزة أفضل كتاب لبناني صدر عام 1998، "ماكياج خفيف لهذه الليلة"، "لعب حي البياض"، "مئة وثمانون غروباً" التي فازت بجائزة المتوسط الإيطالية 2009، "لا طريق إلى الجنة" التي حازت جائزة نجيب محفوظ للأدب 2015، "نقّل فؤادك"، و"في أثر غيمة". ترجمت رواياته إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية. الناشر: دار الساقي/ بيروت عدد الصفحات: 272 الطبعة الأولى: 2017 يمكن شراء الرواية من موقع الفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...