انتشر الغرافيتي على نطاق واسع في مصر عقب ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث. فصار وسيلة جديدة للتعبير عن الآراء في شكل فني لم يكن منتشراً إلى هذا الحد قبل ذلك. هذه الثقافة المستجدة خلقت قبولاً لجماليات الغرافيتي، وامتدت وتشعبت من شكلها الشعبي العام، إلى مساحات أكثر خصوصية، وتحولت هويتها المشاع إلى ملكية خاصة، يمكن طلبها وشراؤها واقتناؤها. وهنا نقدم قصص تجارب فنانين قدموا أشكالاً جديدة من هذا الفن.
صور أحمد فتحي (3)
أحمد فتحي (23 عاماً) كان أحد رسامي الغرافيتي في تلك الفترة الثورية، ومنذ نحو عامين قرر دخول عالم الكاليغرافي، بكتابة الخط العربي الحر. بدأ فتحي –المعروف بالنقاش– رحلته بمتابعة أعمال الفنان "
إل سيد" وغيره من الفنانين، وتأثر بكيفية كتابتهم للحروف العربية بطرق مختلفة، في ما يسمى بـ"الكاليغرافيتي"، أي خلط الخط العربي بالغرافيتي، فقرر الخروج بشيء غير تقليدي، له خصوصية بعيد اً عن الغرافيتي.
بداية، قدّم أكثر من عمل ليؤمن ثمن الأدوات اللازمة، وقضى وقته في رسم الكاليغرافي، وحينما نفدت ألوانه عاود البحث عن عمل مرة أخرى ليواصل الرسم والكتابة، وهكذا. أولى تجاربه في الشارع كانت على جدار أحد مقاهي وسط القاهرة حينما قرر مهاداة صديقته ورسم جدارية لها علاقة باسمها، الأمر الذي لفت نظر من يمرون عليها، وتساؤولات حول معنى الحروف المكتوبة ومعناها، وإن كانت نصوص ذات دلالة مقصودة. وهكذا بدأ الفضول يشد الناس للتعرف عليه أكثر.
وفي سعيه لتوسيع الاهتمام بالغرافيتي وقبول الناس له، قام بتدشين أكثر من ورشة عمل في العديد من المؤسسات الثقافية والأنشطة الطلابية، منها أكثر من 80% بشكل مجاني، يُعلِّم أفرادها أنماط خطوط معينة ثم يتركهم يضعون بصمتهم الخاصة في رسم الحروف، معلقاً: "لما الموضوع ينتشر ثقافة الناس هاتتغير تجاهه".
انتقل "الكاليغرافيتي" من جدران الشوارع إلى البيوت والأعراس والسيارات والآلات الموسيقية
صور أحمد فتحي (4)
يقول النقاش إن تكوين الحروف العربية وأشكالها جعلها تتميز عما حولها، لقابليتها لاحتضان الأشكال الهندسية، والتجديد، ومن هنا كان اختياره فن الكتابة بشكل حر. تحولت الموهبة لدى النقاش إلى التزام وعمل دائم، فوفر وقته واستثمره في تطوير مستواه الفني، وتأمين ثمن معداته.
انتشر الكاليغرافيتي الذي صممه شيئاً فشيئاً، وتكونت دائرة صغرى من المتابعين له في العاصمة، تطلبه داخل منازلهم.
صور أحمد فتحي (1)
في الحديث عن معنى الكاليغرافيتي، يقول النقاش لرصيف22، أنّ حروفاً متداخلة دون ترتيب أو معنى هو ما يُكتب على الجدران أو اللوحات، إلا أن رسوماته أحياناً تحمل عبارات مبعثرة لنجيب محفوظ أو سيد درويش أو الشيخ إمام، وغيرهم.
رسومات مكتوبة بالحروف
في محافظة المحلة الكبرى كانت بداية محمد عبيدو (25 عاماً) مع الكاليغرافي الذي تعلمه بطريقة المتابعة والتنفيذ حتى أتقنه، مع أنّ دراسته كانت في كلية الهندسة، إلا أنّ ذلك لم يقف عائقاً أمام موهبته.
بدأ كتابته للحروف على اللوحات، ثم الجدران، حتى دعاه صديقه إلى الرسم في محله التجاري، فانتشرت الفكرة على نطاق أوسع، وبدأت كتابته تنتشر على جدران المنازل، سواء كتابة متداخلة دون ترتيب أو تكوين شكل شخصية فنية أو كارتونية بالحروف.
صور محمد عبيدو (2)
سافر "عبيدو" إلى الإمارات وأعطى ورشة لطلاب كلية الفنون الجميلة وصمم واجهتها ورسم عليها، وبالرغم من بداية فنه في الشوارع، إلا أنه دخل عدة أماكن وترك بصمته الفنية فيها: في شركات وأماكن ترفيه ومحال تجارية، وحتى على الآلات الموسيقية.
يقول لرصيف22 إن الخط العربي يحمل طابعاً فنياً فريداً يجذب الأجنبي قبل العربي، لجمالياته حتى لو لم يفهمه أحد.
صور عمرو مهدي (5)
يأمل عبيدو أن يرسم على أحد الجبال في سيناء: "حلم حياتي أسيب بصمة في كل حتة في العالم... في بيت أو في جامعة أو على الجدران".
أما محمود بهاء (20 عاماً)، فقد بدأ يكتب حروفه العربية على إحدى السيارات، عندما طلب منه صديقه أن يرسم على سيارته لتغيير شكلها ولونها القديم. ولأنّ الرسم في الشوارع في مصر يُعد جريمة يعاقب عليها القانون كونه "تخريب للممتلكات العامة ومؤسسات الدولة"، ولصعوبة رسم كتابة الكاليغرافي على الجدران، قرر بهاء التوجه للسيارات والدراجات النارية ليرسم عليها حروفه.
صور محمود (4)
استغرقت أولى كتاباته على السيارات نحو 5 ساعات كونها التجربة الأولى، وبعدها أعجب عدد من أصدقائه المقربين بالشكل النهائي ودقة رسم الحروف الصغيرة، فطلبوا هم بدورهم منه الرسم على سياراتهم.
بدأت أعماله تُعرف وتنتقل من دائرة الأصدقاء إلى دائرة أكبر ونطاق أوسع بين الشباب، واستمر تلقيه طلبات للرسم على السيارات حتى باتت الموهبة مهنة يعتمد عليها.
يقول محمود لرصيف22 إنه يُجرِّب رسمته أولاً على ورقة قبل تطبيقها على السيارة، للتأكد من الشكل النهائي لتكوينات الحروف المتعددة، ويفضل عدم استخدام أكثر من لون في السيارة الواحدة حتى يكون الرسم أبسط وأوضح وأفضل من نتائج الألوان المتداخلة.
يقول محمود إن التضييق في مصر طال الأدوات والخامات خاصة التي لها علاقة بالكاليغرافي والغرافيتي، ما جعلهم يلجؤون لأدوات بدائية وألوان دهانات الجدران العادية. الأمر الذي يقلل من جودة عملهم ويصعب المنافسة به والتقدم أكثر في فنهم.
صور محمود (3)
دائماً ما يستخدم محمود في كتاباته عبارات تحفيزية تدعو لعدم اليأس، وبعض أبيات الشعر والمقولات والحكم، وكتب نحو 4 أغانٍ على إحدى السيارات من قبل، وعادة يستخدم "أقلام الدوكو" لأن الرسومات تبقى جيدة لفترة زمنية طويلة.
يحلم محمود أن يرسم على طائرة، آملاً أن تستجيب له شركات الطيران الخارجية لصعوبة تنفيذ هذا في مصر، وتبقى رغبته الأكبر أن تكون هناك فرصة للرسم على السيارات والمعدات التي تخلفها الحروب في مناطق النزاع العربية.
شخابيط وتعاويذ وطلاسم سحرية
تعلم عمرو مهدي (21 عاماً) الكاليغرافي في إحدى المؤسسات الطلابية، وكانت بدايته بالكتابة على جدران غرفته رغم رفض أسرته في بداية الأمر.
بعد غرفته، بدأ برسم الغرافيتي في عدة أماكن، ووجد أنّ حدود الغرافيتي تتوسع كل يوم، وتفتح أمامه مجالات جديدة. رغم أنّ الخط العربي "الكاليغرافيتي"، أصبح تدريجياً مألوفاً ومحبباً، لازال بعض الناس ينتقدون فكرة استخدام الكتابة العربية بهذه الطريقة، ويعتبرون أنها "شخابيط وتشويه"، واستهزاء بلغة القرآن.
ولأن الكلمات في رسومات الغرافيتي غير مقروءة، يعتقد البعضهم أنها تعاويذ وطلاسم سحرية. ولكن جمالية الخط العربي وإيحاءاته ودلالاته لا تتوقف على قدرتنا على قراءة العبارات والكلمات، لأن رمزيته كافية.
مع انتشار أعمال مهدي، أصبح له جمهور يطلب رسمه في البيوت والكافيهات وأماكن العمل المشترك، والمحلات الشبابية، حتى أنّ رسوماته باتت تطلب في الأعراس لتزين جدران منزل الزوجية.
يعتبر مهدي أن كتابته داخل المنازل تحمل ميزة خاصة لأنها غالباً ما تحمله على اختبار مواضيع لم تكن في الحسبان وتتحول إلى تجربة خاصة مع الناس الذين يستقبلون قطعة من عمله في حياتهم اليومية. فعلى عكس الغرافيتي الذي نراه في شوارع مدننا ولكن لا ندرك أصحاب الأيادي التي قدمت تلك الأعمال، لرسم الغرافيتي هذا علاقة مباشرة بين الفنان ومن يقتني فنه في بيوتهم.
فن الكاليغرافيتي في كل مكان
يقول مهدي لرصيف22 إن الكاليغرافيتي ومشاريعه التي دخلت إلى البيوت والمحال، انتصار لفن الشارع وسط الشرائح المجتمعية المختلفة، فهي أشكال فنية لم يعهدها الناس من قبل، ولكنهم ينفتحون عليها شيئاً فشيئاً، متوقعاً زيادة رواد هذا الفن مستقبلاً ووصوله لأبعد من المنازل.
إن نظرة سريعة على تطور فن الغرافيتي نفسه ترجح توقعات مهدي، فقد بدأ كفنّ الشوارع العامة، بعبارات أو رسومات مباشرة، ثم تطور وتشعبت أشكاله، إلى أنْ أصبح فناً يعترف به، وانتقل إلى صالات العرض العالمية. فبعد دخوله بيوت الناس، كيف ستكون أشكاله المستقبلية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين