شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
رواية

رواية "مملكة الجواري"... وما قصة الأمس إلا قصة اليوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 18 سبتمبر 201702:03 م
تختار الملكة "السيدة الحرة" شاباً يعمل ناسخاً للكتب في سوق الورّاقين اسمه "جوذر" ليكون ناسخ رسائل القصر، بعد أن وقع بين يديها كتابٌ خطّه هو فسحرها بجمال صنعته وروعة زخارفه. في قصر الجواري يفقد كل فردٍ اسمه، ويصبح له اسمٌ آخر، ويجب عليه أن ينسى الخارج أيضاً. تلك قوانين المملكة التي سنّتها الملكة لتحافظ على قصرها وتحميه. هكذا يصبح اسم الخطاط "صعفان"، ويُطلب إليه أن ينسى كل شيء من حياته السابقة، غير أنه لا يستطيع نسيان تلك الفتاة المسمّاة "شوذب".

"مرحباً بك... اطلعت على ما خطّته يداك ولذلك اصطفيتك كاتباً لنا. ستحظى برعايتنا وعليك إنجاز ما يصلك من رسائل ومخطوطات. صمتت لهنيهات ثم عاد صوتها: وما دمت في خدمتنا عليك بنسيان ماضيك، حتى اسمك، ونسيان من تكون... وتلك العلاقات التي تنشأ مع سنوات العمر، حتى المشاعر والعواطف، من الآن أنت صفحة اللحظة. وإن لم تستطع فاحتفظ بماضيك لنفسك. أمام الغير أنت لست كائن الأمس".

هكذا، يأخذنا الروائي اليمني "محمد الغربي عمران" في روايته الأخيرة "مملكة الجواري" إلى أواخر القرن الخامس الهجري، ليروي سيرة واحدة من أشهر الملكات في التاريخ، هي "أروى الصليحية" أول ملكة في الإسلام، وصاحبة لقب "السيدة الحرة"، والتي حكمت اليمن طوال أربعة عقود. ولكنه لا يروي هذه السيرة بشكل مباشر كما تفعل كتب التاريخ أو السيرة، بل من خلال لعبة فنية يختلط فيها الواقع بالخيال والأسطورة، ويتشابك فيها الخاص بالعام. يجعل الكاتب كل أخبار الملكة وما يتعلق بها يرد على أوراق رسائل إحدى جواري القصر التي أحبت الناسخ "جوذر"، فبدأت تضع رسائلها بشكل سريّ ضمن مراسلات القصر التي سينسخها، دون أن تكشف له عن اسمها أو من تكون. وهو، بدوره، وظنّاً منه أن هذه الجارية ما هي إلا "شوذب" التي كانت تزوره في حانوته مراراً والتي أغرم بها، فإنه يبادلها الكتابة.
سيرة واحدة من أشهر الملكات في التاريخ وأول ملكة في الإسلام، أروى الصليحية التي حكمت اليمن طوال 4 عقود
عن الملكة التي استطاعت بحنكتها وذكائها ومساعدة جواريها الحفاظ على اليمن من الانقسامات المذهبية طوال عقود
ما بين الرسائل المتبادلة بين الناسخ والجارية، ستكتب له عن خفايا ما يدور في القصر، عن الملكة التي نفت زوجها إلى مكان بعيد، مع كل من يدين بالولاء له، ثم أخرجت كل الحراس والرجال من القصر، موكلةً مهام الحراسة للجواري، كما اعتمدت عليهنّ في إخضاع أمراء القلاع والحصون المحيطين بها، بعد أن علّمتهن فنون الإغواء والحديث والولاء المطلق لها، وبذلك جعلت من مملكتها مملكة تديرها النساء وحدهن.

"وزعت السيدة أوقاتها بين الإشراف على تعليم وتهذيب الجواري واستقبال الرسائل وتحليلها، والرد على ما يجب الرد عليه. تحضر قاعة الدروس الليلية لتلقي درسها، تكرر: أن شرف الجارية يتركز في طاعتها لمشيئة سيدتها، وأن سيدتها بمثابة ربها الأدنى. وغير كل نساء الدنيا.. فجميع النساء يعشن دون هدف، أما جواري ذي جبلة فيعشن بهدف عبادة الله وترسيخ الحق المتمثل في شريعته وسنّة رسوله الكريم، وخدمة أولي الأمر وحماية جزيرة اليمن".

يتلاعب الكاتب بالأحداث تقديماً وتأخيراً، يكشف حدثاً ويترك تفسيره، مضفياً على حبكة روايته التي يديرها ببراعة مزيداً من التشويق، وناثراً بين جنباتها هنا وهناك معلومات تاريخية عديدة لا تخل بالسرد، إذ إنه يعرف كيف يجعل منها مادة درامية تغني الرواية وتمتّع القارئ. هكذا سيأخذنا إلى بدايات الدعوة الإسماعيلية في اليمن، والتي كان الملك "محمد علي الصليحي" مع زوجته الملكة "أسماء" يعدّان العدة لإعلانها، وكيف قوبلت هذه الدعوة بالعنف والقمع من قبل إمام صنعاء. وفي ما بعد، حين استلمت الملكة "أروى" الحكم استمرت هذه الصراعات المذهبية المحتدمة بين إمارات جنوب شبه الجزيرة، وطوال سنوات كثيرة استطاعت الملكة بحنكتها وذكائها ومساعدة جواريها الحفاظ على المملكة. وحين توفيت قررت الجواري أن السبيل الوحيد لاستمرار سلطانهن هو إخفاء موتها، وتعيين "شوذب" جاريتها الأكثر حنكة لتحكم باسمها سراً. تنقسم "مملكة الجواري" إلى روايتين: رواية المتن، وهي التي تتخذ زماناً لها القرن الخامس الهجري وتروي حكاية الملكة "أروى الصليحية" وما يجري في ذلك العصر، ورواية الهامش، التي تتداخل معها، إذ تطالعنا ضمن فصول الرواية فقرات بخطٍّ غامق، تكسر الزمن السابق وتعيدنا إلى الحاضر، حيث يقرأ شابٌ يمنيّ المخطوط الذي كتبه "جوذر" وضمّنه رسائل الجارية، التي تكشف الأحداث أنها ليست "شوذب" التي أحبها. أما الشاب اليمني الذي يعيش في عام 2011، فإنه يروي لنا ما حصل في اليمن في السنوات الأخيرة، فهو يشارك في التظاهرات، ويروي أهم فصول الثورة وأبرز أحداثها، وصولاً إلى الحرب بين الحوثيين ومناوئيهم. تصل رواية المتن واحدة من ذراها الكثيرة بعد موت "شوذب"، فبموتها تنتهي أيام مملكة النساء، وتشتعل الحروب بين دعاة الحق الإلهي من زيديين ونزاريين وسلاليين وطيبيّين... وتنقسم المملكة إلى ممالك. في الوقت نفسه نجد الشاب يسجّل بخطٍّ غامق في رواية الهامش عن انتشار جماعة الحوثيّ المسلحة ودخول طيران السعودية في قصف اليمن.

"وما تؤكده أحداث التاريخ هو أن العوامّ وقود الرب الحاكم. حطبٌ تلتهمهم نيران الدعوات. (...) كل كتب المذاهب تتصارع، بل كتب جميع الأديان وغايتها واحدة... السيطرة والتسلط تحت إرادة ربوبية... وما هو أكثر وضوحاً تقسيم الناس إلى من يفهم ومن لا يفهم. فالباطن له رجاله وهم من يدورون في فلك الحاكم، المستفيدون من تجهيل البقية. ومن لهم الظاهر هم عوام الناس، وهم من يراد منهم ألا يفهموا وعليهم بظاهر الأشياء".

هذا ما كتبه "جوذر" في مخطوطه منذ قرون خلت. هذا ما يقرؤه الشاب الثائر اليوم. وما قصة الأمس... إلا قصة اليوم. محمد الغربي عمران، كاتب يمني، من مواليد صنعاء عام 1958. هو عضو في الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين، ويرأس نادي القصة ومركز الحوار لثقافة حقوق الإنسان. له خمس مجموعات قصصية، وأربع روايات: "مصحف أحمر"، "ظلمة يائيل" التي فاز عنها بجائزة الطيب صالح في دورتها الثانية عام 2012، "الثائر (خنثى)"، و"مملكة الجواري". الناشر: دار نوفل – هاشيت أنطوان/ بيروت عدد الصفحات: 320 الطبعة الأولى: 2017 يمكن شراء هذه الرواية من موقع الفرات.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image