غالبيتنا من المُستقلات من طبقات اجتماعية تحت متوسطة. نحنُ نازحات داخلياً، حاصلات على شهادات جامعات حكومية لا تُعتبر في سوق العمل اليوم مؤهلاً ذا قيمة عالية. وبالتالي، فإن الوظائف المُتاحة أمامنا محصورة بالقطاع الخاص/الخدمي/العمل الحر، ولا تكاد مرتباتها تكفي لدفع بدل إيجار غرفة. وتظل باقي الاحتياجات الأساسية غير متوفرة.
شبح الاحتياج
يصبح الاستقلال عبئاً ثقيلاً في محاولات التوازن بين الوظيفة غير المُستقرة وبين المُتطلبات الحياتية. تُصبح زيارة تحصيل إيصالات الكهرباء والغاز والإنترنت كل شهر أمنية مرجوّة التأجيل. وتصبح علبة التونة رفيق بروتيني متوسط السعر قبل أن يقفز سعرها إلى 18 جنيهاً. وتكون زيارة الطبيب وشراء الأدوية مفاجأة غير مُحببة. لكننا لا نُفصح عن هذه الأشياء. نحن نستشعرها ونعيشها كما هيّ، لأننا في الغالب إن شكونا فسيتحول الأمر إلى موجات من التوبيخ والشماتة في قرارنا بالانفصال عن الأسرة.هل تشعُرين بالابتزاز؟ أنا أستشعره منذ أول يوم استقلال
في كل مرة تزداد احتياجاتك ولا تجرؤين على الحديث عنها، لأن عائلتك ستطلب منكِ الرجوع. في كل مرة خِفتِ أن يوجّه إليكِ أحدهم إتهاماً بالفشل. في كل مرة لا تسمح فيها ميزانيتك بشراء شيء ما. في كل مرة سئمتِ من عملك ولم تملكي رفاهية الاستقالة. في كل مرة غلبكِ حنينِك إلى الإنس، وغلبتك الوحدة.وحدة وسكون
قد لا نتحدث دوماً كمُستقلات عن وحدتنا التي بدت وكأنها شرط للاستقلال. نعيش في كنف عائلاتنا منذ الولادة، ولا نختبر الحياة بدونهم إلا بالاستقلال عنهم. ثم فجأة، يختفي حائط الصد، وتهب الرياح. اسأل نفسي دائماً وأبداً: لماذا لا نتحدث عن مشاعر الوحدة المقرونة بالاستقلال؟ لماذا لا نكتب عن التيه الذي نقضي سنوات نعافر بداخله لنجد أنفسنا ونحقق كياناتنا الإنسانية كنساء؟ هناك قالب يسمى الاستقلال، له صفات تبدو غير إنسانية بالقدر الكافي. القوة المُبالغ فيها، والتظاهر المستمر بالاعتماد على النفس، والاستغناء عن الآخرين، لا سيما العائلة، والاكتفاء العاطفي أو تعددية مصادره. هنا لا تجد وحدتنا منفذاً للتعبير عن نفسها. هي مكبوتة ومُحاصرة بكل هذه التصورات عن كيف تبدو الشابة المُستقلة. وكيف ستبدو إن لم تكُن كذلك. ما تُهدد به هذه الصفات هو انتفاء بعضها، وانتفاء استقلالنا بهذا النفي. بمعنى أن كل مَن عبّرت عن وحدتها أو فترات ضعفها، قد ينفي مُستمعوها عنها صفة الاستقلال. وكأنه عقاب: أن نكبت مشاعرنا الإنسانية للاحتفاظ بلقب "مستقلة". هذه الحرب على جبهات مُتعددة لم تترك لنا كمُستقلات مخرجاً لمشاعرنا الإنسانية التي يشعر بها أي شخص سواء كان مستقلاً اجتماعياً أم لا. فرسمت صورة اجتماعية عن الشابة المُستقلة بأنها امرأة حديدية. لا تشتكي، لا تبكي، لا تضعف، وطبعاً لا تحتاج لآخرين. أما حياتها العاطفية فيعتبرونها مثالية، لأنها قادرة على التجاوز بسهولة، ولا تتعلق بأحد.هنا لا تجد وحدتنا منفذاً للتعبير عن نفسها. هي مكبوتة ومحاصرة بكل هذه التصورات عن كيف تبدو الشابة المستقلة
هل تشعُرين بالابتزاز؟ أنا أستشعره منذ أول يوم استقليت فيه عن عائلتي
الجنس: حرية اختيار العقاب
أما عن حيواتنا الجنسية فحدّث ولا حرج. الجميع يتخيلها وردية أو كما يسمونها "متحررة". يعتقدون أننا نمارس جنساً غير محدود، ولا نمتثل لهذا أو ذاك من الإطارات المقررة مجتمعياً لممارسة الجنس. هذا الكلام يفتقر إلى جزء هام من حقيقة أن ما يُسمى بالتحرر الجنسي ليس مقياساً لجودة استقلالنا كشابات عربيات، وأنه هو نفسه يعني حرية ممارسة الجنس أو الامتناع عنه حين نشاء. وكأنه لا جوانب خفيّة من هذا التحرر الجنسي. هؤلاء لماذا لا يذكرون كم مرة طُلب فيها منّا ممارسة الجنس بدعوى التحرر والاستقلال؟ كم مرة تم ابتزازنا ومساومتنا على "تمردنا على مجتمعاتنا" إن لم نمارس الجنس بدون زواج؟ أو كم مرة مارسنا الجنس بالفعل وتم وصمنا بعد ذلك أننا "متطلبات جداً"، لأننا أردنا التواصل مرة أخرى؟ كم مرة هلعنا بعد شكوك حمل؟ وكم واحدة منّا أجهضت سراً ولم تتلقَ رعاية طبية، لأن الإجهاض مُجرّم قانوناً؟عطلات غير محسوبة
أما العطلات الرسمية، فضائعة. في حالتي أنا وصديقاتي، تضيع عطلاتنا على طرق العودة إلى محافظاتنا في الدلتا والصعيد. يجب أن نأخذ احتياطاتنا جيداً ونحجز مقعداً في قطار أو أوتوبيس قبل أن ينتهي الحجز. ونُسافر مسافات طويلة عائدات إلى مدننا وقرانا الصغيرة، لقضاء العطلات مع عائلاتنا. هذا السفر شاق لأن الطرق زحمة، وتعُج بالنازحين من كل المحافظات والعائدين من حيث أتوا. فيضيع يومان. الأول في السفر والثاني في الرجوع للعاصمة. وتتحول الإجازات إلى ورشة عمل ممتدة لحين انتهاء العطلة بأكملها. فتنتهي وينتهي معها حلم الاسترخاء وشحن طاقات العمل. لأن هذه الطاقات استُنزفت في جدالات عائلية حول جدوى الاستقلال، أو أهمية الزواج، أو في محاولات الإلمام بأكبر قدر ممكن من الحميمية المتوفرة في منزل العائلة. في الاستمتاع بالأكل البيتي المطبوخ بعناية، في صب القليل من كل صنف في علبة أو كيس بلاستيكي، وتجميده ليصمد أطول مدة ممكنة قبل الوصول إلى ثلاجة السكن في القاهرة، علّه يوفّر ثمن وجبة أو اثنتين. ثم العودة، مرة أخرى، إلى العمل، وإلى الاقتصاد والتوفير، وإلى الكتمان. إلى العزلة المقصودة. إلى الغرفة التي بالكاد نُسدد بدل إيجارها الشهري. وإلى هؤلاء التي أحاطت تصوراتهم بنا من كل جانب، عن مَن هي المستقلة، وكيف تعيش حياتها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...