يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، يحتفل الشيعة الإمامية حول العالم بعيد الغدير الأغر والذي يُعرف أيضاً بـ"عيد الولاية". العيد الذي يحتفل به الشيعة وحدهم دوناً عن أغلبية المسلمين، من أتباع المذهب السني، هو أحد أهم الأعياد الدينية المعاصرة في العالم العربي، حيث يحتل المكانة الثالثة بعد عيدي الفطر والأضحى عند أتباع مذهب آل البيت. يلقي هذا المقال، الضوء على سبب الاحتفال بذلك العيد، وعن تطور الاحتفال به، كما يعرض أهم مظاهر الاحتفال في العالم المعاصر.
ماذا حدث في غدير خم؟
في 18 من ذي الحجة في العام العاشر من الهجرة، وأثناء رجوع المسلمين من رحلة الحج في طريقهم إلى المدينة، أمر الرسول بالتوقف في مكان يعرف بغدير خم، حيث قام بإلقاء بعض الوصايا المهمة على المسلمين، ثم أعقب ذلك بتبيان فضل علي بن أبي طالب على وجه الخصوص، حيث كان مما قاله في حقه، بعد أن أمسك يده ورفعها عالياً ليشاهدها الألاف من المسلمين الحاضرين "من كنت مولاه، فهذا علي مولاه".وقد وردت تلك الرواية بصيغ كثيرة وباختلافات متعددة في الكثير من المصادر التاريخية الإسلامية، حيث شاعت في جميع الكتب الشيعية، بينما أوردتها عدد من المصادر السنية المعتبرة، مثل مسند أحمد بن حنبل، وسنن ابن ماجة وسنن الترمذي، وسنن النسائي.
وقد اختلف كلاً من الشيعة والسنة بشكل واسع في تفسير وتأويل دلالات تلك الحادثة المهمة، فبالنسبة للجانب الشيعي الإمامي، أصبحت واقعة غدير خم حادثاً مفصلياً في بناء المذهب الشيعي برمته، ذلك أن علماء الإمامية اعتبروا أن تلك الحادثة قد شهدت وصاية صريحة من الرسول باستخلاف علي بن أبي طالب ليصير خليفة للمسلمين من بعده، وأنّ تلك الوصاية تمنع أن يتولى أي من الصحابة هذا المنصب، لأنه أمرٌ إلهي لا يجوز للبشر الاختيار فيه أو مخالفته. أما بالنسبة للسنة، فقد نظر علمائها لما وقع في غدير خم على كونه أمر نبوي بضرورة إظهار الحب والمودة والولاء لعلي بن أبي طالب، وأنه لا يوجد في الحديث ما يدل صراحة على النص باستخلافه أو ولايته لأمر المسلمين.
كما حاول عدد من أعلام علماء أهل السنة والجماعة أن يضعفوا هذا الحديث، فعلى سبيل المثال يقول ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل "وأما من كنت مولاه فعلي مولاه، فلا يصح من طريق الثقات أصلاً". أما ابن تيمية، في كتابه منهاج السنة النبوية، يقول "إن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات، وهذا يعرفه أهل العلم بالحديث". وقد رد عدد من الباحثين السنة المعاصرين على الشبهات التي لحقت بأصل تلك الرواية، ومن أهم هؤلاء الشيخ ناصر الدين الألباني، الذي أفرد مساحة واسعة لتناول ذلك الحديث في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة، حيث قام بتصحيح الحديث، وكان مما قاله فيه "فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته إنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية، قد ضعف الشطر الأول من الحديث، وأما الشطر الأخر، فزعم أنه كذب، وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقق النظر فيها".
تطور الاحتفال بعيد الغدير
الاحتفال بعيد الغدير مثله مثل أي شعيرة دينية أو مذهبية مشابهة، فإن الكثير من الشبهات والأسئلة تحيط بتوقيت بدء الاحتفال بعيد الغدير، فبينما تذكر الروايات الدينية أنه قد جرى الاحتفال بهذا العيد عند الشيعة منذ العام العاشر من الهجرة وحتى يومنا هذا بدون انقطاع، فإن بعض الأراء التاريخية تؤكد أن بداية الاحتفال بالعيد كانت في أواسط القرن الرابع الهجري تقريباً، وأن عدداً من الأسباب الاجتماعية والمذهبية والسياسية قد اجتمعت مع بعضها البعض لتُعيد إحياء الاحتفال بذلك العيد في أزمنة متعاقبة.عيد الغدير، الأهم عند الشيعة، ماهي مناسبته، ومتى بدأ الاحتفال به، وما هي دلالاته عند الطوائف المختلفة؟
تحتفل الطوائف الشيعية، على اختلاف مذاهبها، بعيد الغدير، ويستحب فيه الصوم وقراءة دعاء الندبةعند الشيعة الإمامية، توجد الكثير من الأحاديث والنصوص الواردة عن بعض الأئمة مثل الإمام السادس جعفر الصادق (تـ.148هـ)، والإمام الثامن علي الرضا (تـ.203هـ)، حيث تثبت تلك الأحاديث والروايات أهمية عيد الغدير وضرورة الاحتفال به وإظهار الابتهاج والسرور فيه، ومكانة الطاعات والعبادات التي تؤدّى في ذكراه. على سبيل المثال، يورد الشيخ الصدوق في كتابه الخصال، أن جعفر الصادق لما سُئل من بعض أصحابه عن أهم أعياد المسلمين، رد قائلاً "أعظمها وأشرفها يوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي أقام فيه رسول الله أمير المؤمنين ونصبه للناس عَلَما".
ورغم شيوع تلك الروايات في المصادر الشيعية، إلا أن أكثر المؤرخين يتفقون على أن أول من احتفل بعيد الغدير، هم سلاطين بني بويه في منتصف القرن الرابع الهجري، حيث يتفق كلاً من شهاب الدين النويري، في كتابه نهاية الإرب في فنون الأدب، وتقي الدين المقريزي، في كتابه المواعظ والاعتبار، على أن أول من اعتبر ذكرى الغدير عيداً يحتفل فيه الشيعة، كان هو معز الدولة علي بن بويه في عام 352هـ. ولكن على الرغم من هذا الاتفاق، فإن بعض الأراء تقول بأسبقية الاحتفال بعيد الغدير عن ذلك التوقيت، ذلك أن المسعودي (تـ.346هـ)، قد ذكر في كتابه التنبيه والإشراف، أن الشيعة يُعظمون يوم الغدير، وهو الأمر الذي قد يصب في مصلحة ترجيح الروايات الشيعية التي تعتقد بقدم الاحتفال بذلك العيد.
محطات في تاريخ الاحتفال بعيد الغدير
وعلى الرغم من الاختلاف في تحديد بداية الاحتفال بالعيد، فإنه يمكن أن نلاحظ محطات ثلاث مميزة في تاريخ تطوره. المحطة الأولى، كانت في العصر البويهي، حيث لجأ السلاطين البويهيين، الذين كانوا يعتنقون التشيع وفق المذهب الزيدي، إلى إحياء عدد من الشعائر المذهبية والأعياد والطقوس الشيعية الطابع، في محاولة لإحداث حالة من التوازن مع التأثيرات الناتجة عن الخلافة العباسية السنية في بغداد، وكان عيد الغدير بما له من ثقل روحي ومعنوي كبير واحداً من أهم تلك الشعائر على الاطلاق.المحطة الثانية، كانت في مصر، فقد حرص الفاطميون الإسماعيليون الذين أقاموا دولة شاسعة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، على الاحتفال بعيد الغدير والابتهاج بمقدمه، فكما يذكر الكاتب صالح الورداني في كتابه الشيعة في مصر، أن الفاطميين قد اعتادوا في ذكرى يوم الغدير على تزويج اليتامى وتوزيع الكسوة على الفقراء، وتفريق الهبات والأموال، ونحر الماشية وعتق العبيد والإماء.
أما المحطة الثالثة الأكثر أهمية في تاريخ الاحتفال بذلك العيد، فكانت في بلاد فارس في مطلع القرن العاشر الهجري، على يد الصفويين الذين حكموا إيران وأقاموا بها إمبراطورية عظيمة. فالصفويون الذين وجدوا في التشيع الإمامي الإثناعشري، وسيلة وأيديولوجية تساعدهم في مناهضة الدولة العثمانية السنية المتاخمة لحدودهم، عملوا على تحويل الإيرانيين لمذهبهم الجديد،
وكما يذكر إيلتون ل. دانييل في كتابه الثقافة والعادات في إيران، فقد كان استحضار عيد الغدير بكل ما له من قداسة واحترام في نفوس الإيرانيين المحبين لآل البيت، أحد الوسائل المهمة في سبيل تحقيق هدفهم، وذلك من خلال دمج الطقوس الشيعية في مجموع الطقوس الشعبية الفارسية. ومن اللافت هنا، أن الدول الشيعية الثلاثة (البويهية- الفاطمية- الصفوية)، رغم اختلاف مذاهبها، حافظت على الاحتفال بذكرى عيد الغدير بشكل ثابت، ربما لأن تجديد الذكرى بهذا اليوم تحديداً كان ينضوي على نوع من أنواع تجديد المشروعية لحكم وسلطة تلك الدول، فإذا كان الغدير قد شهد تنصيب علي بن أبي طالب كخليفة مُعين من قبل الله تعالى بحسب الاعتقاد الشيعي الإمامي، فإن الاحتفال بذلك اليوم كان يحمل في طياته دلالات استمداد الحكام الشيعة لسلطتهم من نفس المصدر الديني المقدس، وهو الأمر الذي يصب في توسيع صلاحياتهم وقوتهم.
وعلى الجانب الأخر، فمن الملاحظ أن بعض الجماعات والأقليات الشيعية التي وجدت في دول سنية، مثل الدروز والعلويين، قد احتفلت بعيد الغدير من وجهة نظر مختلفة، حيث التمست تلك الطوائف في ذلك العيد سبيلاً للحفاظ على هويتها ومبادئها، ووجدت فيه حائلاً يمنع من عملية الاندماج الكامل والتماهي المطلق مع المجتمعات التي تعيش في وسطها.
مظاهر الاحتفال بالعيد
تختلف مظاهر الاحتفال بعيد الغدير الأغر في العالم المعاصر، من مكان إلى أخر ومن بلد إلى أخرى، بحسب التباين في حجم وتأثير الوجود الشيعي وبحسب الظروف السياسية القائمة في كل مجتمع.في إيران، والتي تعتبر الدولة الشيعية الأقوى حالياً، تُمارس طقوس الاحتفال بالعيد بمنتهى الحرية وسط تشجيع وتحفيز من السلطات القائمة، حيث تتم زيارة المقامات والعتبات المقدسة، وتُؤدى بعض المشاهد التمثيلية في المسارح العامة والشوارع، والتي تُظهر كيفية مبايعة علي بن أبي طالب في غدير خم، كما أنه من المعتاد أن يجتمع الأهل والأصحاب والمعارف عند أحد السادة، المنحدرين من نسل الرسول، حيث يتم قراءة القرآن وتقديم الحلوى والأطعمة. أما في العراق، التي يُمثل الشيعة فيها ما يزيد عن 60% من مواطنيها، فإن الكثير من الشيعة يحتفلون بالعيد من خلال زيارة مدينة النجف الأشرف، وتوزيع الزهور والورود التي يحملونها لضريح الإمام الأول، كما أنه من الأعمال الدينية المستحبة في هذا اليوم، الصوم وقراءة دعاء الندبة.
أما في لبنان، فيقتصر الاحتفال بعيد الغدير على نسبة صغيرة من الشيعة، وأغلبهم من ذوي الميول السياسية ومن المؤيدين لحزب الله ولنظام الولي الفقيه في طهران. وفي سوريا، يحتفل الشيعة بالعيد رغم اختلاف طوائفهم وفرقهم، ففي مدينة السلمية يحتفل الشيعة الإسماعيلية والأغاخانية بهذا العيد، والطائفة العلوية في سورية، فهم أيضاً يحتفلون بعيد الولاية.
ورغم أن أغلبية شيعة اليمن من الزيدية لا يعتقدون بمفهوم الولاية الإمامي، إلا أنه وفي السنوات الأخيرة تلاحظ شيوع مظاهر الاحتفال بذلك العيد في اليمن، وخصوصاً في المحافظات التي تمثل فيها جماعة أنصار الله أغلبية، مثل محافظات صعدة والحديدة وتعز، وهو الأمر الذي يشي بحدوث تحول مذهبي تدريجي، وسط شيعة اليمن. أما في الجزيرة العربية، فيعمل الشيعة الإمامية على الاحتفال بعيد الغدير في عدد من المناطق التي تشهد كثافة عددية لهم، مثل البحرين والكويت والمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، ولكن التضييق الذي تمارسه السلطات الحاكمة ضدهم في تلك المناطق، يحول دون التوسع في الاحتفالات ويقصرها على مظاهر تبادل التهاني وتوزيع الحلوى وإظهار الفرح والسرور. صورة المقالة من مخطوطة روضة الصفا لمير خواند، للفنان عناية الله الخطيب الشيرازي (عام 1571-1572)، من مقتنيات متحف ساكلر في واشنطن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...