هي أزمة غير مسبوقة بين دول مجلس التعاون الخليجي. منذ تأسيسه عام 1981، لم يحدث أن قررت مجموعة من دوله سحب سفرائها من دولة عضو فيه. الآن ضاق ذرع المملكة العربية السعودية من السياسات القطرية فكان ما كان.
الأب الغاضب
منذ ما يقارب النصف سنة، ألقت صحيفة "وول ستريت جورنال" Wall Street Journal الأميركية قنبلة مدوّية طالت شظاياها العلاقة السعودية القطرية. نقلت عن الأمير السعودي بندر بن سلطان قوله إن دولة قطر "ليست سوى 300 شخص وقناة تلفزيونية، وهذا لا يشكل بلداً". حينها، قرّرت قطر الردّ بهدوء. غرّد وزير الخارجية القطري خالد العطية قائلاً إن "مواطناً قطرياً يعادل شعباً، وشعب قطر عن أمة بأكملها".
بغض النظر عن عناصر التشويق في هذه الحادثة، تعكس طبيعة السجال تقييم المملكة العربية السعودية لجارتها الصغيرة. الأب السعودي لا يستطيع التسامح مع أيّ إبن يقرّر التغريد خارج سرب السياسة الإقليمية العامة التي تُرسم في الرياض. قطر قرّرت منذ سنوات عدّة بناء سياسة خارجية منفصلة عن سياسات جاراتها الخليجيات. يبدو، لاعتبارات عدّة، أن هذا لم يعد مقبولاً.
قرّرت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين سحب سفرائها من قطر لأنها رفضت "الالتزام بالمبادئ التي تكفل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر، وعدم دعم كل من يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس من منظمات أو أفراد، سواء عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي وعدم دعم الإعلام المعادي".
المبرّرات الواردة في البيان عامة ولا تشير إلى طبيعة الخلاف بين هذه الدول وبين قطر. أبرز ما في البيان هو صياغته بطريقة تعكس تفكير السعودية الأبوي تجاه الجارة الصغيرة. يتحدث البيان عن توصّل الدول الخليجية إلى اتفاق على إثر الاجتماع الذي عقد في الرياض بتاريخ 23/11/2013 وعن "مرور أكثر من ثلاثة أشهر على توقيع ذلك الاتفاق من دون اتخاذ دولة قطر الإجراءات اللازمة لوضعه موضع التنفيذ". يستعرض الثلاثي الخليجي الخطوات التي تم اتخاذها لإرجاع الدوحة إلى الحظيرة: الاجتماع الذي تم عقده في دولة الكويت بتاريخ 17/2/2014 "والذي تم خلاله الاتفاق على أن يقوم وزراء خارجية دول المجلس بوضع آلية لمراقبة تنفيذ اتفاق الرياض"، اجتماع وزراء خارجية دول المجلس في الرياض يوم 4/3/2014 "والذي تم خلاله بذل محاولات كبيرة لإقناع دولة قطر بأهمية اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع اتفاق الرياض موضع التنفيذ والموافقة على آلية لمراقبة التنفيذ" ويخلص إلى "أن كافة تلك الجهود لم يسفر عنها مع شديد الأسف موافقة دولة قطر على الالتزام بتلك الإجراءات، ما اضطرت معه الدول الثلاث للبدء في اتخاذ ما تراه مناسباً لحماية أمنها واستقرارها وذلك بسحب سفرائها من دولة قطر".
كل ما يمكن استخلاصه من البيان المذكور، بشكل مباشر، هو أن الثلاثي الخليجي بقيادة الرياض يطالب الدوحة منذ أكثر من ثلاثة أشهر باتخاذ خطوات يعتبرها ضرورية لأمن واستقرار دول الخليج.
دولة صغيرة ودور كبير
استهزاء الأمير بندر بقطر أتى في سياق الحديث عن الدور القطري المتفرّد في سوريا وعلاقاتها ببعض الجماعات المسلّحة التي تقاتل ضد نظام بشار الأسد. التفرّد القطري وتنسيقها مع تركيا في إدارة الأزمة السورية كان ولا يزال يثير امتعاض السعودية. مع أن الدولتين تتفقان على ضرورة إسقاط النظام السوري إلا أنهما تختلفان على كيفية إدارة المعركة وعلى طبيعة القوى التي يجب أن ترثه.
في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر وقع خلاف بين مصر وقطر. قررت الأخيرة مقاطعة قمّة عربية كانت ستعقد في القاهرة فعلّق عبد الناصر: "الله! نخلتين وخيمة تقاطع مصر!". قطر هذه التي تندّر عليها كثيرون تحوّلت إلى رقم صعب في السنوات الأخيرة. كثيرون تساءلوا: "ماذا تريد قطر"؟ ولم يتوصّل أحد إلى إجابة شافية. من المؤكد أن الجارة الصغيرة للمملكة السعودية وثالث أكبر مصدّر للغاز الطبيعي في العالم لم تعد ترضى بالوقوف في الصفّ الخلفي للسياسة العربية مع الوفرة المالية الضخمة التي حققتها. عوامل عدّة تضافرت لتكوّن قطر كما نعرفها حالياً. نستطيع التحدث عن سعي إلى الخروج من عقدة نقص تاريخية افتتحه أمير طموح هو حمد بن خليفة وجد دولته، بإمكانياتها المالية الكبيرة، على خط تقاطعات متشعب يلتقي هنا وهناك مع مصالح دول غربية على رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
في بدايات القرن الماضي طالبت السعودية بضم قطر إليها. لم تستقر الأمور بين الدولتين قبل العام 1965 حين قامتا بترسيم الحدود الفاصلة بينهما والتي لا تزال نقاط عدّة، إلى الآن، مثار خلاف. رضيت السعودية بالجار الصغير معتبرة أنه سيكون دوماً إبنها البار المحتاج إلى حمايتها. منذ تسعينات القرن الماضي، بدأت قطر تبحث عن كيانها الخاص. اتفقت مع الولايات المتحدة الأميركية على إقامة إحدى أكبر قواعدها العسكرية على الأرض القطرية. منذ وصول الأمير حمد بن خليفة إلى سدّة الحكم افتتح الأخير مرحلة جديدة من السياسة القطرية. راحت الدولة الصغيرة تستغلّ ثغرات السياسة الخارجية السعودية لتدخل منها وتضع لها موطئ قدم في الشرق الأوسط. لفترة من الزمن كان يمكن القول إننا نستطيع إيجاد قطر حيث هناك مشكلة سعودية. تأسيس قناة الجزيرة، عام 1996، جعل صوت قطر مسموعاً كما لم يكن يوماً. لعبت قطر على تناقضات الكبار. في الآن ذاته استطاعت أن تجمع التناقضات كبنائها علاقات جيّدة مع كلّ من إيران واسرائيل.
قطر والربيع العربي
مع بداية الربيع العربي أخرجت قطر كل الأوراق التي راكمتها على مدى عقود. للمرّة الأولى اتخذت الدولة الصغيرة موقفاً واضحاً من الأحداث في الشرق الأوسط. قررت أن تكون الحليف الصادق لحركات الإخوان المسلمين.
العلاقة بين قطر والإخوان المسلمين ليست جديدة بل بُنيت على مراحل متعدّدة. من هجرة بعض رموز الحركة المصريين أيام ديكتاتورية عبد الناصر، إلى هجرة بعض رموز الحركة السوريين في بداية ثمانينات القرن الماضي وصولاً إلى احتضان قيادات حركة حماس واحتضانها مؤخراً بعض الفارين من أحداث 3 يوليو المصرية، برزت قطر كأمّ الإخوان العرب وظهرت قناة الجزيرة كمنصة تحتضن دعوتهم الدينية وآراءهم السياسية.
في ردّه على البيان الثلاثي الذي أعلن سحب السفراء، قال مجلس الوزراء القطري إنه "لا علاقة للخطوة التي أقدم عليها الأشقاء في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين بمصالح الشعوب الخليجية وأمنها واستقرارها، بل باختلاف في المواقف حول قضايا واقعة خارج دول مجلس التعاون". لم يراع القطريون حساسية الأنظمة الخليجية من الإخوان المسلمين وخوفها من تمدد الحركة إلى داخل دولهم. اعتبار قطر أن دعمها للإخوان هي "قضايا واقعة خارج دول مجلس التعاون" يدلّ على أن الدوحة لم تفهم، أو أقلّه تتجاهل، اعتبار جاراتها أن حصار الإخوان هو، إلى حدّ ما، مسألة أمن قومي.
نائب رئيس الشرطة والأمن العام في إمارة دبي، الفريق ضاحي خلفان غرّد قائلاً: "الدول الخليجية وصلت إلى قناعة مفادها أن أمن الخليج العربي يبدأ من داخل الخليج". في الحقيقة هذه القناعة ليست مستجدّة بدليل أن خلفان نفسه وضع نفسه منذ مدّة طويلة في موقع الصوت الخليجي الأبرز ضد الإخوان. بالنسبة للإمارات العربية المتحدة، فإن أزمتها مع الدوحة تظهّرت في الشهر الماضي حين استدعتسفيرها لدى قطر احتجاجاً على تصريحات للداعية يوسف القرضاوي، اتهم فيها أبو ظبي بالعدائية تجاه الإسلاميين.
آفاق الأزمة
مسألة سحب السفراء ليست مسألة بسيطة، فهي بداية مسار من التعاطي الخليجي مع قطر قد يتفاقم. حين تنازل الأمير حمد عن السلطة لإبنه تميم، بدا أن السياسة القطرية ستتغيّر وأن التغيير هو دلالة على تغيير في سياسة قطر الخارجية. مرّت الأشهر ولم يتغيّر شيء إلا... طيّ صفحة الجفاء مع إيران والتي طبعت علاقة البلدين منذ بداية الأزمة السورية. حالياً، لا يزال الفريق الذي كان يحيط بالوالد محيطاً بالإبن، ما يشير إلى أن قطر لن تغيّر سياساتها جذرياً.
العزلة الخليجية لن تكون سهلة على قطر. بقرار الثلاثي، تلقت قطر ضربة قويّة على رأس سياستها الخارجية قد تنتج عنها ارتدادات مثل موقف مصري شبيه. المشكلة هي أن المطالب الخليجية من الدوحة كبيرة. دول مجلس التعاون تطلب منها هدم ما واظبت على تأسيسه لسنوات كثيرة. إذا استجابت قطر لجيرانها وتخلّت عن حليفها الإخواني ستبدو كأنها مجرّد زوجة ناشز أعادها السعودي إلى بيت الطاعة وستفقد تأثيرها. على الأرجح، لن تقبل قطر بذلك وستردّ الصاع بهدوء من خلال التقارب مع إيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون