يختار ماتياس إينار Mathias Énard بطلاً لروايته شاباً في العشرين من العمر، ينحدر من بيئة شعبية في مدينة طنجة المغربية، يدعى "لخضر"، يحب قراءة الروايات البوليسية، وبخاصة الفرنسية القديمة منها.
تبدأ مرحلة التيه في حياته بعد أن يُضبط عارياً مع قريبته "مريم"، فيضربه أبوه مما يدفعه للهرب من المنزل، عازماً على عدم الرجوع. هذا القرار سيكلفه غالياً، خاصة أن حياته كلها ستتغير، وسيلازمه إحساسه بالعار طويلاً "أخذت أصرّ على أسناني، واغرورقت عيناي بدموع الغضب، لا يزال الشعور بالعار، العار المشين لدى مباغتتنا عارييْن نهبَ نظرات الآخرين، هذا الشعور الحارق بالعار يقهرني حتى اليوم".
سرعان ما تتلقف إحدى التنظيمات الإسلامية المتشددة الفتى العشريني التائه، فتقدم له المأوى والعمل. يصف الروائي كيف تتلاعب هذه الجماعات بعقول الشباب، وتقودهم إلى تنفيذ بعض العمليات العنفية. هكذا سيجد "لخضر" نفسه منخرطاً مع صديقه "بسام" في عملية تأديب لصاحب مكتبة يبيع المجلات الخلاعية ويشرب الخمر، ويُصدَم حين يرى أن هذا الرجل ما هو إلا صاحب المكتبة الذي كان يبيعه الروايات البوليسية التي أحبّها، فيقف عاجزاً عن تعنيفه، وتبدأ مرحلة الشكّ لديه بكل أفعال الجماعة.
يتعاظم هذا الشك، حين يختفي "بسام" مع الشيخ "نور الدين"، إثر تفجير إرهابي في مقهى "أركانة" في مراكش، وتأكيد "جوديت" صديقة "لخضر" الإسبانية، أنها رأت "بسام" هناك حين كانت في زيارة للمدينة. يبقى متمنياً أن تكون ظنونه في غير محلها: "بإمكانكم الهزء مني، والقول إني ساذج لحد البلاهة، لكن، تخيلوا لحظة واحدة أن جيرانكم في الطابق نفسه، وربّ عملكم، وأفضل صديق لكم، متورطون في عمل إرهابي، فلن تصدقوا ذلك أبداً".
يقدم "إينار" في روايته، تفاصيل عن مجريات الثورات في أكثر من بلد عربي، موضحاً كيف أنعشت هذه الثورات أحلام الشباب وآمالهم، ومن بينهم "لخضر"، قبل أن تنحرف مساراتها وتركبها الجماعات الإسلامية التي تريد الوصول إلى الحكم ومن ثمّ أسلمة الدساتير والشرائع. يشعر القارئ أنه أمام عمل مكتوب مباشرة بالعربية، لا مترجماً، فقد استطاع الكاتب أن يعبر عن أزمة الهوية لدى بطله المغربي، كما استطاع وصف المجتمع العربي وتركيبته، إضافة إلى توظيفه الكثير من النصوص العربية: الدينية والأدبية والتاريخية في الرواية، وخاصة الأخبار المتعلقة بابن بطوطة، الذي يرى "لخضر" نفسه شبيهاً به في رحلاته الدائمة، خاصة أنه ابن بلدته "طنجة".
هكذا يدمج وقائع ذكرها ابن بطوطة في كتبه، بمغامراته هو، محاولاً التأمل فيها وإيجاد نقاط للاتفاق والاختلاف بينها وبين قصته الشخصية: "أتساءل عمّا إذا كان ابن بطوطة يؤمّل النفس في الرجوع يوماً إلى المغرب أم أنه اعتقد أن منفاه نهائي".
يلقي "إينار" في روايته الضوء على مجموعة من القضايا الإنسانية، معرياً الواقع القاسي، من خلال عمل بطله على متن سفينة بين المغرب وإسبانيا حيث سيتعرف على طرق التهريب والاتجار بالبشر، الذين حلموا بمغادرة بلادهم والهجرة غير الشرعية إلى بلاد أكثر أمناً ورفاهية، فلاقوا مصيرهم المحتوم بالغرق، أو وجدوا أنفسهم مشردين في شوارع برشلونة، وبالأخص في "شارع اللصوص" الذي سيقطنه "لخضر" بعد رحيله عن السفينة، فيروي فظاعات ما يجري فيه.
في نهاية الرواية يجد البطل نفسه أمام حياة مليئة بالمرارة: منفي في شارع اللصوص بعيداً عن وطنه وأسرته، قريبته مريم ماتت، وهي لا تفتأ تزور كوابيسه، حبيبته جوديت في المشفى لتجري عملية جراحية، صديقه بسام في زيارته، والدلائل تشير إلى أنه يحضّر لتنفيذ عمل إرهابي. كل تلك الأسباب تجتمع لتقوده إلى اختيار نهاية مناسبة. سينفذ فعلته ثم يعترف بها، وبعد ذلك سيجلس ليروي لنا ببطء حكايته.
يعد ماتياس إينار (مواليد 1972) من أبرز روائيي فرنسا المعاصرين. درس اللغتين العربية والفارسية، وعاش فترة من الزمن في العالم العربي، قبل أن ينتقل للعيش في برشلونة حيث يدرّس اللغة العربية في الجامعة. صدرت له خمس روايات، ترجم منها إضافة إلى هذه الرواية، رواية "زون". نال عدداً من الجوائز الأدبية الهامة، وفازت روايته الأخيرة "شارع اللصوص" بجائزة غونكور Goncourt، خيار الشرق 2012.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Apple User -
منذ يومينl
Frances Putter -
منذ يومينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 4 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 4 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 4 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...