لم يكن يتخيل الطبيب السكندري أيمن نجيب أن يترك جسده عائماً فوق مياه أخرى غير شاطئ الإسكندرية، إلى أن أصبحت شواطئها خياره الأخير في لائحة المصايف التي رسمتها مسارات حياته.
الآن يقضي نجيب، الذي تجاوز عقده الخامس بقليل، عطلاته الصيفية في الشاليه الذي يمتلكه بإحدى قرى الساحل الشمالي، الامتداد الأكثر رفاهية بالبحر المتوسط، حيث المكان الذي يسمح بارتداء زوجته ملابس البحر الطبيعية من دون تعرضها لأي مضايقات.
"لم أعد أستطيع قضاء الصيف في الإسكندرية حفاظاً على خصوصية لا أجدها في الشواطئ العامة، هذه سنة الحياة حين تكون وحيداً تفعل ما يحلو لك من دون اهتمام بمن حولك، كما أن الساحل يوفر لي احتياجات أكثر لم أعد أجدها في مدينتي"، يقول نجيب.
يفسر نجيب سبب تحويل قبلته إلى الساحل الشمالي بتغيير ثقافة المواطنين المصاحبة للقفزات في الطبقات الاجتماعية، فمن كان يذهب سابقاً إلى "مصايف الغلابة" في رأس البر وبلطيم، تحسنت أوضاعه لتمضية عطلته بالإسكندرية.
يعكس نجيب واقع التحول الديموغرافي بين الطبقات الاجتماعية على المصايف في مصر، فالوضع يشبه إلى حد كبير لعبة القط والفأر بين ذوي الدخل المرتفع وذوي الدخل المنخفض على الشواطئ، ساهمت فيه رغبة كل فئة في تطوير مستوى حياتها وتأثير الثقافة الاستهلاكية الضاربة في الجذور المصرية عليهما.
ربما لم تعد الإسكندرية الآن كما تركتها جارة القمر فيروز عندما كانت تغني لشطها، والكون يداعب الألفية الجديدة. فكانت "الدنيا هنية ولياليه رضية"، ولا يمكنكم أن تسيروا على كورنيشها بأريحية وسط غابة من السيقان المتلاصقة من فرط زحامها خلال فصل الصيف. وبالتأكيد فيروز لن تصحبك في هذه الرحلة الشائقة.
وتشير تقارير محلية إلى أن العاصمة الثانية لمصر تستقبل سنوياً نحو 4 ملايين زائر خلال فصل الصيف، يقصدون شواطئ عدة، بعضها مفتوح مجاناً للمصطافين، أو بأسعار زهيدة مقابل خدمة الكراسي والمظلات. بينما تحافظ غالبية الشواطئ مثل ستنالي والبوريفاج والمندرة السياحية والهانوفيل وبيانكي على طابعها الاستثماري، فتفرض رسوماً على دخول الأفراد وعلى أي خدمات أخرى.
كم يكلفكم تمضية أسبوع في الإسكندرية؟
إذا خططتم لقضاء أسبوع المصيف هذا العام في الإسكندرية، فعليكم أن توفروا مالاً يعادل 4 آلاف جنيه (225$)، إذ تراوح أسعار إيجار الشقق في مناطق مختلفة بالمدينة بين 300 (17$) إلى 500 (28$) جنيه لليوم الواحد، وتزداد الأسعار كلما اقتربت من الشاطئ، في حين تراوح أسعار الغرفة الفندقية بين 500 و2500 جنيه (140$) في الليلة الواحدة. لا تبدو أسعار الإسكندرية الآن مناسبة لمحدودي الدخل، في ظل اقتراب كل من ينفق ألف جنيه (56$) إلى خط الفقر، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. لكنها تبقى أحد أفضل الخيارات للطبقة المتوسطة التي تدخر جزءاً من مرتباتها سنوياً للاستمتاع بأسبوع واحد خلال الصيف.جمصة وبلطيم: هنا يرقد ذوو الدخل المنخفض
لا يمكن إدراج مصيف كالإسكندرية كمصيف "للفقراء" لمجرد أن الفئات الغنية هجرته في مرحلة ما، لكن يمكنكم منح هذا الصك لمصيفي بلطيم، الواقع بكفر الشيخ، وجمصة بالدقلهلية. فتستطيعون أن تقضوا إجازتكم مع أسرتكم بألف جينه فقط، إذ تراوح أسعار إيجار الشقق بين 50 و 100 جنيه (3$ و 6$) في اليوم الواحد.كانت مدينة رأس البر قديما مصيف الطبقة الأرستقراطية ومقصد كبار الفنانين مثل عبد الوهاب وأم كلثوم
لم تعد الإسكندرية كما تركتها فيروز، فلا يمكنكم أن تسيروا على كورنيشها بأريحية وسط السيقان المتلاصقةاعتاد الموظف الحكومي محسن جمعة أن يصطحب أسرته المكونة من 4 أفراد إلى ساحل جمصة في النصف الثاني من العام خلال السنوات الأخيرة، فباتت متنفسه الوحيد في ظل غلاء أسعار مصايف المتوسط. [caption id="attachment_117448" align="alignnone" width="700"] مصيف بلطيم[/caption] "لا أستطيع توفير قيمة حجز في الإسكندرية أو رأس البر حتى، جمصة مناسبة لظروفي بعكس الأوقات السابقة التي كنت أستطيع قضاء يوم في العجمي أو العين السخنة"، يقول جمعة، 50 عاماً. جمصة مدينة فقيرة الموارد، لا تتخيلوا أنكم ستقضون أسبوعاً مثالياً بين الشاطئ والسينما والبار، كما هو متوافر في الإسكندرية، على أقل تقدير. لكنها تمتاز بقلة تكاليفها وقربها من المحافظات، وهي المعادلة البسيطة للراغبين في اختلاس أوقات بعيدة عن نطاق معيشتهم وعملهم اليومي [caption id="attachment_117450" align="alignnone" width="700"] مصيف جمصة[/caption] لا تختلف مدينة بلطيم كثيراً عن جمصة، علماً أن تكاليف الإقامة فيها أقل بعض الشيء، إذ تراوح بين 50 و100 جنيه، ويطلق عليها مصيف الفلاحين، فيقصدها أبناء محافظة كفر الشيخ والأسر ذات الدخل المنخفض، ويقضون فيها يوماً واحداً لا يكلفها أكثر من 250 جنيهاً (14$). [caption id="attachment_117449" align="alignnone" width="700"] مصيف بلطيم[/caption]
رأس البر
مدينة رأس البر الواقعة في محافظة دمياط على البحر المتوسط، شاهدة أيضاً على التحول الديموغرافي، فكانت قديماً مصيف الطبقة الأرستقراطية في عهد الأسرة العلوية قبل ثورة 1952. كما كانت مقصد أعضاء مجلس قيادة الثورة وكبار الفنانين مثل الموسيقار عبد الوهاب وأم كلثوم، إلى أن تحولت مع الوقت لأحد أهم المقاصد السياحية للطبقة المتوسطة، فالأسعار فيها تبدو مناسبة لقضاء أسبوع يشتمون فيه اليود المالح. تراوح أسعار إيجار العشش والشاليهات بين 150 و300 جنيه (8$ و16$) في اليوم الواحد، لكن لا تغركم هذه الأرقام أمام الخدمات المتكاملة التي تقدمها محافظة دمياط، التي تمتلك مقومات هائلة لجذب شرائح كبيرة بفضل وسائل الترفيه والأسواق المنتشرة في أنحائها، غير أنها مدينة تتجاور فيها الحياة الصيفية مع الحياة العادية. يقول الصحافي محمد بصل، ابن مدينة دمياط، إن رأس البر استطاعت أن تحافظ على كونها مصيفاً مناسباً لجميع الطبقات بسبب تنوع مناطقها وأسعارها من جهة، وامتلاك معظم الشركات الحكومية والهيئات شاليهات من جهة أخرى. [caption id="attachment_117454" align="alignnone" width="700"] أم كلثوم في راس البر[/caption] تمتاز المدينة بصناعة الفطائر الحلوة والحلويات الدمياطية، فضلاً عن السمك البحري والنيلي، وثمار البحر، يضيف بصل. يرفض بصل تصنيف المدينة حسب التمثيل الطبقي، ويوضح: "رأس البر من نشأتها بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن معروفة أنها مصيف الدمايطة وليست لفئة معينة أو طبقة. تجد فيها الغني والفقير والمتوسط".الساحل الشمالي: مقارعة الكبار
اكتسبت منطقة الساحل الشمالي شعبية هائلة بين الصفوف الأولى في الطبقة المتوسطة والطبقة الميسورة، خلال السنوات الأخيرة، نظراً لطابعها السياحي والاستثماري المتفرد عن المنتجعات السياحية، كما باتت تمثل علامة على أنكم تحظون بحياة مستقرة اقتصادياً. ولا تظنوا أنكم، بقضائكم أسبوعاً فاخراً في مارينا، من أهل الحظوة، فمع التوسع العمراني على امتداد طريق العلمين، وصولاً إلى مطروح، يسقط من ليس لديه القدرة على المقاومة ومقارعة الكبار. [caption id="attachment_117457" align="alignnone" width="700"] مارينا[/caption] قديماً، كانت مارينا هي الحلم، وبمثابة تصريح رسمي بالانتقال من طبقة إلى أخرى، لكن التوسع العمراني جاء بعكس ما تشتهيه سفن الحالمين، إذ ضم قرى أخرى من مارينا من 1 إلى 7، وانتقل إلى مستوى آخر في سيدي عبدالرحمن ومراسي وهايسندا باي، والاثنتان الأخريان هما الأشهر في مصر الآن، بسبب فئة الناس التي تسكنهما. عبوركم إلى مارينا، ومنها إلى قرى سيدي عبد الرحمن، سيكلفكم راتب بضعة أشهر، فلن تجدوا شاليهاً بعيداً عن الشواطئ بأقل من ألف جنيه (56$) في اليوم الواحد، وترتفع الأسعار تدريجياً كلما اقتربتم من البحر، وزادت المسافة عن الإسكندرية. ولا تفتشوا كثيراً عن أسعار الفيلات التي تصل في اليوم الواحد إلى 5 آلاف جنيه (280$).البحر الأحمر: الفلترة الاجتماعية في إجازة
هذه المرة، سنترك المتوسط الرطب ونعبر إلى طريق آخر أكثر حرارة. إنه البحر الأحمر، الاسم الذي يرتبط في الأذهان بمدينتي شرم الشيخ والغردقة، الأولى تنتمي إلى جنوب سيناء، والأخرى تحمل اسم بحرها. [caption id="attachment_117451" align="alignnone" width="700"] الغردقة[/caption] مع ارتفاع أسعار إيجار الشاليهات في الساحل الشمالي وانخفاض معدل السياحة الأجنبية في مصر في السنوات الأخيرة، باتت مدن شرم الشيخ ودهب ونوبيع، هي الخيار المفضل لقطاع كبير من المصريين، بعدما كانت منتجعاتها محرمة عليهم قبل ثورة 25 يناير. فقد كانت حكومة الرئيس الأسبق حسني مبارك تقصرها على السياحة الأجنبية، والفئات الأعلى دخلاً في المجتمع. [caption id="attachment_117452" align="alignnone" width="700"] الغردقة[/caption] في السنوات الأخيرة، انطفأ نجم شرم الشيخ تحديداً بسبب الأعمال الإرهابية التي زارتها مع سقوط الطائرة الروسية في أكتوبر 2015، ما تسبب في خطف الساحل الشمالي مجتمع النخبة منها. بإمكانكم الآن أن تقضوا 4 أيام في أي من المدن الثلاث بألف جنيه (56$) فقط، شاملة الإقامة في فندق أو كوخ والمواصلات مع بعض الأنشطة الترفيهية. [caption id="attachment_117456" align="alignnone" width="700"] شرم الشيخ[/caption] هي فرصة مثالية لن تتكرر لمحدودي الدخل إذا أرادوا استغلال غياب السائح الأجنبي بسبب التحذيرات الأمنية، لكن "مسافة السكة" التي تصل أحياناً إلى 9 ساعات، تظل عائقاً في سبيل تمضية إجازة زهيدة التكلفة كهذه. لا تبدو "الفلترة الاجتماعية" مؤثرة على شكل الحياة في مدن جنوب سيناء، فالجميع هناك يعرفون الغرض من زيارتهم للمدينة مع تلاشي العقد الطبقية، ويتلخص في الهروب من الزحام وممارسة أنشطة متحررة من نظام العامة وأخلاقها. تبقى المصايف جزءاً من المنظومة الاستهلاكية في حياة المصريين، بعدما فتحت ثقافة تحرير السوق في أواخر السبعينيات شهيتهم للتملك والادخار، لتحسين أوضاعهم المعيشية، كما يقول الدكتور سيف فرج، الخبير في الاقتصاد العمراني. يرى فرج أن الفجوة الكبيرة بين المنتجعات السياحية تكشف مدى تغول الثقافة الشرائية والحراك المجتمعي، لكنه لا يعتبرهما أمراً شاذاً، فمن الطبيعي أن تحافظ كل فئة على مكاسبها في الثروة والنفوذ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com