قبل بضعة أيام، تم استخراج جثة سلفادور دالي بهدف سحب عينات من الحمض النووي، في محاولة لإثبات هل ماريا بيلار ابيل هي فعلاً ابنته كما تزعم. مفاجأة الخبراء كانت اكتشافهم أن شارب دالي الشهير ما زال على وجهه بعد 28 سنة من وفاته.
ربما سرّ جنونه العبقري يكمن في ذلك الشارب.
كيف تشاهدون العالم من خلال عدسة الرسام والفنان سلفادور دالي الذي كشف عن نفسه في عدة كتب، لكي يترك للعالم حكايات غيّرت مجرى حياته الفنية والشخصية، فكان مؤمناً بعبقريته التي كانت سبب شهرته في العالم كله، قبل رحيله وبعده.
"الفرق بيني وبين المجنون هو أني لست مجنوناَ"
كان دالي يتحدث لسنوات عديدة عن يومياته التي اعتاد كتابتها، وحين قرر أن ينشرها، فكر أن يطلق عليها في البداية "حياتي السرية" لتكون تابعة لكتابه "حياة سلفادور دالي السرية"، لكنه أختار أن يسميها "يوميات عبقري"، أحد العناوين الأكثر ملائمة. وقد دون فيها دالي أفكاره وعذاباته كرسام يتشوق للكمال، وحبه لزوجته "غالا" وأفكاره حول الجمال والأخلاق والفلسفة، كما قال مقدم كتابه مايكل ديون. ومن خلال هذه الرؤية، قام دالي بتعرية نفسه ومن حوله من خلال الشخصيات، فهو لا يرى نفسه إلا موهوباً ولا يقبل الموهبة المتوسطة، لأنه مهما بذل من جهدٍ فسيكون "رساماً رديئاً". وتأثر بأفكار والده الإلحادية التي أثرت في مسار حياته في ما بعد، بعدما قرأ "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه، في بعض النقاط التي اتفق معه بها، وأثرت عليه في أوقات مختلفة بشكل إيجابي أو سلبي بحسب الحالة النفسية في مراحل صباه وشبابه، إلا أنه كان متفقاً تماماً مع نيتشه في عدم احترام القيم الدينية المسيحية. "كل من يتمرد على السلطة الأبوية ويهزمها هو بطل" - فرويد وتحت قول مقتبس من عالم النفس سيغموند فرويد "كل من يتمرد على السلطة الأبوية ويهزمها هو بطل"، عكس صراعه مع والده، الذي طرده من المنزل، بعد أن تجاوزه فكرياً في إلحاده، وفوضاه واختلافهما في كثير من جوانب الحياة، خصوصاً بعد اتجاه والده في السنوات الأخيرة من حياته إلى التدين والتعمق في المسائل الدينية على حساب أفكاره الإلحادية السابقة التي أثرت في حياة دالي.الطموح الأكبر للإنسان: "أن يعيش من دون الحاجة لأن يعمل"
وإلى جانب الرؤية الإلحادية للعالم، التي تحولت في ما بعد إلى نظرة صوفية في أعماله الفنية السريالية، تمتع سلفادور دالي بتعطش كبير للاستحواذ على الأموال، ليعيش حراً قادراً على الإبداع إلى أبعد الحدود. فأصبح إبداعه مرتبطاً إلى حد كبير بشراهته للإثراء وتوفير الأموال له ولغالا، التي يعتبرها أهم شخص في حياته. وبرر هذا الشره بالاعتماد على مجموعة من المقولات لبعض لفلاسفة، مثل الفيلسوف الكتالوني فرانشيسكو بيول: "الطموح الأكبر للإنسان على المستوى الاجتماعي هو الحرية المقدسة، في أن يعيش دون الحاجة لأن يعمل". إلى جانب الفلسفة الوضعية لـ"اوغست كونت" التي قدست العلاقة مع أصحاب البنوك ورجال المال، وهذا ما يؤيده في كتاباته: "لا بد أن أكون أقوى مما كنت، أن امتلك النقود، والذهب بسرعة وبطريقة فعالة كي أتقدم ولا أستسلم... فأسهل الطرق لعدم التنازل للذهب، أن تمتلكه. حين يكون الإنسان غنياً لا فائدة من الالتزام بشيء، لأن البطل لا يدخل في أي التزام، إنه النقيض تماماً للإنسان الداجن الأليف". وهذا ما دفعه إلى تنظيم حياته لجمع المال، فتوقف عن شرب الخمر نهائياً، مبرراً ذلك بتوفير الحياة المرفهة لغالا، التي بدونها كما كتب، "سوف ينتهي كل شيء". فهو كان يعيش حالة من الخوف الدائم من الفقر متأثراً بقراءته أيام صباه، عندما علم أن سرفانتيس الشهير مؤلف "دون كيشوت" مات في فقر تام من أجل مجد إسبانيا، وأن كريستوفر كولمبوس الذي اكتشف أمريكا عام 1492 مات تحت الظروف نفسها وفي السجن أيضاً. الشاب الفوضوي في مظهره ولبسه، تحول إلى رجل متميز في انتظام حياته، وخلق نموذجه الخاص في الملابس، وتحت عنوان مقتبس عن دالي في كتابه "يوميات عبقري": "من أجل أن تنتصر، فالزي مهم، كانت المناسبات قليلة في حياتي التي أذللت فيها نفسي لارتداء الملابس المدينة العادية، فأنا أرتدي دائماً زي دالي الخاص". وصل به الأمر إلى احتقار من لا يمثلونه في رؤيتهم وشخصيتهم، عبر قصة رواها هو نفسه في كتابه عن قصة الشاب الذي جاء يأخذ منه نصيحة للسفر إلى أمريكا، فسأله هل لديك عادات ثابتة؟ وهل تحب أن تأكل جيداً؟ أجاب الشاب: أستطيع الحياة على أي شيء... فاصوليا مثلاً أستطيع أن أعيش عليها كل يوم لعدة سنوات، فقال له: ذلك سيئ، إذا أردت أن تأكل فاصوليا وخبزاً كل يوم، فذلك مكلف لأنك ستكسبها بالعمل الشاق، إما إذا استطعت التعود على تناول الكافيار والشمبانيا فلن يكلفك ذلك شيئاً، لذلك يجب أن تكون مختلف الشخصية التي جئت تقابلني بها، أظافرك قذرة بينما أقابلك أنا بزي رسمي، اذهب واعمل على حكاية الفاصوليا، إنها مشكلتك، أما بالنسبة للون قميصك "السبانخي"، فهو بالضبط اللون الذي يميز الفاشلين الذين يشيخون قبل أوانهم. وتحت عنوان مقتبس من الشاعر فدريكو غارثيا لوركا "للنهر لحية حجرية، ولغرناطة نهران، أحدهما للدموع والآخر للدم"، ذكر دالي في كتابه أبرز الشخصيات التي أثر موتهم في حياته كاتباً: "في اللحظة التي يموت فيها شخص مهم، أو شبه مهم، ينتابني إحساس فوري أن الميت قد أصبح دالي مئة في المئة". تأثر دالي بعد وفاة صديقه الشاعر لوركا الذي أطلق عليه الرصاص فى غرناطة وموت جان مايكل فرانك في نيويورك، وموت الأمير مدفاني بقطع رأسه بسيارته الروز رايس، وموت سيغموند فرويد منفياً في لندن، والموت المزدوج لستيفان زفايج وزوجته، والأميرة فاوسيني لوسينج، و كريستيان برارد، ولويس جوفيه على المسرح، وموت الوجودية وموت والده، والشاعر بول ايلوار. وحكم أسلوب دالي الفني رؤيته المغايرة للآخرين كما عبر عنها برفضه الطريقة المتعارف عليها في تعليم الفنون الجميلة بقوله: "إذا رفضت دراسة التشريح، وفن الرسم، ورسم المنظور، والحسابات الجمالية، وعلم الألوان، فدعني أقول لك، إن هذه علامات كسل وليست علامات عبقرية، ابدأ بالرسم والتلوين مثل العمالقة السابقين، بعد ذلك افعل ما تراه مناسباً فستنال الاحترام". واستفاد بتجربته من دراسة تجارب الفنانين الآخرين، التي كانت تصل إلى حد الغيرة، والتي اعترف بها واعتبرها أحد مقاييس نجاحه الدائم حتى وصل به الغرور إلى كتابته أن "غالا ودالي أولاً، دالي ثانياً، ثم كل الآخرين بمن فيهم نحن الاثنين ثالثاً".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون