في مصر، يمكنكم الحصول على أثمن الأشياء مقابل الرشوة. لكل شيء سعره: شهادة ميلاد، شهادة تخرج، رخصة قيادة من دون اختبارات، تخليص أوراق رسمية.
الرشوة لا تشمل الأموال فحسب، بل قد تكون هدايا عينية بحسب المصلحة ودرجة وظيفة الموظف المرتشي.
ففي الوقت الذي يحصل كبار الموظفين على قصور وأراضٍ وسيارات أحدث موديل، قد يحصل الموظف الصغير على "حق الشاي" أو علبة سجائر محلية.
وتعتبر المنشطات الجنسية والمخدرات أحدث وسائل الرشوة حديثاً وأكثرها انتشاراً.
عصًا سحرية...
يروي محمد عبداللطيف الفاتح (30 عاماً)، والذي يعمل مُدرّس تاريخ، تجربته لرصيف22 قائلاً: "السفر إلى الخارج حلم أي شاب مصري حالياً، ومن أجل هذا الحلم تحملت كثيراً حتى حصلت على عقد عمل في السعودية، لكن إجراءات السفر، واستخراج الأوراق المطلوبة هو الجحيم بعينه". يوضح أن للسفر، كان عليه أولاً أن يستخرج بطاقة رقم قومي جديدة بدلاً من التالفة، ثم تغيير بعض البيانات من أجل جواز السفر. "ليس هناك أسوأ من التعامل مع المؤسسات البيروقراطية... لم يكن لدي متسع من الوقت لأستوفي قائمة الأوراق المطلوبة، والتي قد تستغرق أشهراً فتضيع فرصة العمل في الخارج". تعسف الإجراءات الحكومية هو في رأيه الدافع الرئيسي للرشوة، فالموظف لا يطلب الرشوة بشكل مباشر إنما يلجأ إلى تعطيل الأوراق بحجج لا تنتهي. لهذا، فقد اضطر لسلوك الطريق المختصرة، الرشوة، وقد أشار عليه أحد الأصدقاء بأن يستخدم شرائط المنشطات الجنسية التي لها فعل السحر مع الموظفين، وقد كان. يقول الفاتح: "كأنني أملك عصًا سحرية فعلياً، فالقائمة الطويلة تقلصت تماماً، وتعامُل الموظف المتجهم تبدل ليكون أكثر بشاشة ومرونة، والورق الذي ظننت أنه سينتهي بعد أشهر عدة، حصلت عليه في بضع دقائق". ربما تكون الرشوة جريمة أو عملاً منافياً للأخلاق. ولكن، ما الذي يمكنني فعله؟ هكذا تساءل عبداللطيف.ضريبة أكل العيش..
ناصر محمد صبري، سائق تاكسي (52 عاماً) يبدأ حديثه لرصيف22، قائلاً: "لا أحد مرغم على دفع الرشى يومياً مثل السائقين، رجال المرور مافيا الرشوة في مصر". يرى ناصر أن الرشوة على السائق ضريبة أكل العيش، فرجل المرور في إمكانه أن "يدبّس" السائق في مخالفة قد تتجاوز الألف جنيه إذا امتنع عن دفع الرشوة. ويحكي صبري أنه يمارس مهنته بلا رخصة تقريباً، فالرخصة القديمة في حاجة إلى تجديد غير أنه لا يملك المال الكافي لتسديد رسومها، خصوصاً أن السيارة المتهالكة تحتاج إلى "عمرة" – أي تجديدات في الموتور – وهو يحصّل قوت كل يوم بيومه. يضيف صبري: "حفظت كل الأماكن ككف يدي، أحيانًا ألفّ بالزبون في شوارع خلفية وضيقة تجنباً لمكمن شرطة، فأنا أعرف جيداً أنني لو وقعت في مكمن ستطير فلوس الوردية لمن لا يستحق". ولكن أحياناً يظهر رجال المرور من حيث لا يحتسب. وهنا يستخرج ناصر من تابلوه سيارته الأجرة شريطاً رُسمت عليه أفعى عملاقة وكُتب عليه "كوبرا 120 م"، وهو يوضح: "في هذه الحال، لا مفر من تقديم هذا الشريط إلى أمين الشرطة، فرجال الأمن يحبون المنشطات الجنسية ويفضلونها على المال"، ثم يطلق ضحكة هازئة ويعلق: "مع العلم أن هذا الشريط مغشوش ولا يساوي أكثر من عشرة جنيهات، ولكن – وكما ترى – يبدو كأنه نادر فهو لا يُباع في الصيدليات".نوادر الكُتاب...
الرشوة ليست لرجال الحكومة فحسب، بل إنها تشمل المواطنين أيضاً، وقد نجد نماذج للرشوة في حياتنا العامة من أجل تسيير المصالح، ولكن يبقى ما حدث مع الروائيين هو الأغرب والأندر. أنهى الكاتب الذي فضل عدم نشر اسمه، روايته التي مارس فيها كل حقوقه الفكرية والتمردية، وبحث عن ناشر متحرر. يقول أنه بدأ إجراءات النشر وبدأ الحلم يكبر ويقترب من التحقيق، إلى أن انتهت الدار من الغلاف ثم من النسخة النهائية وشيعتهما إلى المطبعة. مر يوم ومر آخر، ومر أسبوع ومر آخر من دون أن يخرج الكتاب إلى النور، وذهب الروائي ليستفسر من ناشره عن سبب التأخير، فإذا بالناشر يصرّح له بأن المسؤول عن المطبعة رفض طبع روايته. صُعق الروائي وسأله: لمَ؟ فأجاب الناشر: يرى المطبعجي أن الرواية فيها أفكاراً جنسية وإلحادية كثيرة، ولا يجوز أن تُنشر في مجتمع متدين. تعجب الروائي وأحزنه الأمر. غير أن الناشر وضح له أن المطبعجي يعشق الحشيش، وفي إمكان الروائي أن يشتري له قطعة جيدة ويذهب بنفسه ليرى ما سيكون. بالطبع، اشترى الروائي قطعة حشيش ممتاز وراح بها إلى المطبعجي الذي تأفف في البداية من رؤية الكاتب "الزنديق صاحب الكتابات المنحلة"، لكن الأخير أخرج القطعة من جيبه، ومدها إليه قائلاً: "إن كتاباتي جاءت من هذه اللعنة". فابتسم المطبعجي وتقبلها منه، وبعد ثلاث ساعات فحسب خرجت الرواية إلى النور.تعتبر المنشطات الجنسية والمخدرات أحدث وسائل الرشوة حديثاً وأكثرها انتشاراً...
"لا أحد مظلوم في الدولة كالموظف الحكومي، نقبض ملاليم ولا يجوز لنا أن نمارس مهنة أخرى إلى جانب الوظيفة"
لم تعد الرشوة عيباً...
أيمن موظف في إحدى المؤسسات الحكومية، فضل عدم ذكر اسمه كاملاً، وهو يرى أنه وزملاءه أكثر مَن يعانون من الظلم، ما يدفعه إلى قبول الرشوة، لا الطمع. "لا أحد مظلوم في الدولة كالموظف الحكومي، نقبض ملاليم ولا يجوز لنا أن نمارس مهنة أخرى إلى جانب الوظيفة"، يقول أيمن لرصيف22. يعتقد علي أنه راح ضحية المثل القائل: إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه. يوضح: "كنا نعتبر أن الوظيفة أمان، وأنها ستوفر لنا حياة جيدة ومستقبلاً مطمئناً لأولادنا بتعيينهم في ما بعد". يتحسر أيمن على الوظيفة في الزمان الماضي، ويرى أن الموظف قديماً كانت له هبيته وكان له وقاره، ولكن مع مرور الوقت وتآكل الطبقة الوسطى أصبح الموظفون في الأرض، على حد قوله. "كيف يواجه الموظف غلاء أسعار اليوم؟ كيف يربي أولاده ويوفر لهم التعليم الحقيقي؟ راقب زيادة الأسعار وزيادة المرتب، لا وجه للمقارنة". يعلق على أخذه الرشوة، قائلاً: "لم تعد الرشوة عيباً يخجل منه الموظف، هل أخبرك بسر: لقد حصلت على وظيفتي هذه بالرشوة، أي أنني جئت هنا من طريق الرشوة، فكيف أتوقف عن مصدر رزقي الوحيد". يرى محمد أن الموظف الذي يخجل من الرشوة ويراها عيباً سيضطر عاجلاً أم آجلاً أن يمد يده إلى الخلق ويتسول، وإلا كيف سيعيش بمرتب يتبخر بعد قبضه بأيام قليلة؟آفة المجتمع...
يقول المحامي محسن عبدالفتاح محمد، المحامي في محكمة النقض المصرية لرصيف22: "على رغم أن القانون المصري في مادته 103 ينص على أن كل موظف عمومي طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً لأداء عمل من أعمال وظيفته، يعدّ مرتشياً ويعاقب بالسجن المؤبد وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تزيد على ما أعطي أو وعد به، فإن تفعيل مثل هذه المادة يعد ضرباً من المستحيل". يوضح عبدالفتاح أن المسميات التي يطلب فيها المرتشي رشوته تتلاعب بهذه المادة، فلا يمكن أن نحاكم موظفاً لأنه طلب من مواطن أن يفتّح مخّه، أو ثمن الشاي – وهي العبارة الشائعة بين الموظفين لطلب الرشوة – أو "كلك نظر يا أستاذ" أو أن نعتبر هذه المسميات دعوة صريحة لطلب الرشوة. يضيف محسن: "ثم إن الراشي، وقد يكون الشاهد الوحيد إذا أبلغ الجهات المعنية، لن يتقدم بشكوى كي يخلّص مصالحه". ويرى عبدالفتاح أن انتشار الرشوة في مصر يرجع إلى أسباب عدة، منها: الحال البائسة التي يعيشها الموظف، سلطته إذا كان من كبار موظفي الدولة وخضوع المواطن وامتثاله للرشوة باعتبارها جزءاً رئيسياً لتحقيق غايته. يستطرد محسن: "إن الرشوة في مصر اليوم لم تعد جريمة إلا على الورق فحسب، خصوصاً مع انتشار الفساد، ولنا في ما حدث مع هشام جنينة (مستشار مصري تحدث عن الفساد فأعفي من منصبه) عبرة وعظة، فنحن نعيش في زمن عجيب، يُسجن فيه كاشف الفساد، وينعم المفسد بالحرية". ويحذر عبدالفتاح من تبعات الرشوة، ويؤكد أن الرشوة باب لفساد الأوطان، فهي تأخذ حق من يستحق وتعطيه لمن لا يستحق.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...