نحن بالفطرة تواقون للمغامرة والإبداع، وما علينا إلا أنْ نهيئ البيئة المناسبة لازدهار هذه العقلية. فلم لا تصبح المدارس نفسها فرصة لذلك؟ هذا هو السؤال الذي افتتح به د. سعيد عريضة مشروعه الذي اعتمد الإبداع والابتكار أساساً لأشكال تشاركية من المعرفة والتعليم.
أكمل عريضة تعليمه الجامعي في بلده سورية، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة ليتابع دراساته العليا في جامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وفيها قدّم مشروعاً يركز على الجانب البصري العملي للتعلم، أو بمعنى آخر "التعلم عبر المشاهدة".
من أطروحته التي تناول فيها نظريته عن التعليم، صمم عريضة "نيو فيو"، المشروع الذي جذب انتباه الكثيرين واستحقه.
المشروع هو خلاصة تعاون بين عريضة، وصبا غول وهي مهندسة معمارية، ودايفد وانغ وهو مهندس كومبيوتر. أنتج التعاون بينهم خليطاً من التصميم والتكنولوجيا كان هدفه الأول جعل التصميمات أكثر واقعية. وباستثمار خبرة كل منهم في مجاله، نجح الفريق بالتوصل إلى تصور مشترك، اعتمد التصميم الواقعي الذي يناسب المستهلك.
وجد عريضة بأنّ المدارس عليها أن تكون مثيرة وممتعة لتكون ناجحة وفعالة، فإن لم يحبّ الطلاب ما يدرسونه ويستمتعوا باكتشاف المعارف، سيكون هناك خللٌ في عملية التعليم نفسها.
في الحديث لرصيف22 عن دراسته في سورية قبل سفره إلى الولايات المتحدة، قال عريضة ضاحكاً "لقد كان من المطلوب والمتوقع مني أن أدرس الطب، وذلك عملاً بالعرف في التعليم في سوريا، والذي يحدد مجال التخصص من خلال علامات الثانوية، ولكنني اخترت طريقاً آخر وتخصصت في الهندسة المعمارية".
في سورية، كما هو الحال في الكثير من البلدان العربية، يعطي المجتمع الأولوية للطب والصيدلة والهندسات، على حساب مجالات الإبداع والعلوم الإنسانية أو غيرها من التخصصات الجامعية.
في جامعة دمشق، ومنذ اللحظة الأولى، يتابع عريضة، "أحسست بأنني مختلف عمن حولي، كنت الوحيد الذي اختار الهندسة المعمارية بدلاً من الطب، وكان ذلك مفاجئاً للجميع. لقد كنت متحمساً للغاية لهذه التجربة واستطعت فعلاً انهاء تعليمي بنجاح، ولكن شعوري بأنني لم أتلق التعليم الكافي جعلني أقرر السفر إلى الولايات المتحدة".
متجاوزاً الضغوطات الاجتماعية التي تدفعنا لاتخاذ قرارات لا تتناسب مع مواهبنا، تخرّج عريضة من جامعة دمشق بشهادة في الهندسة المعمارية. وفي تقييمه للتجربة ككل، يقول عريضة أنّ الحياة الجامعية كانت مثيرة وممتعة بالنسبة له، أما الجانب التعليمي فلم يكن على نفس القدر من التشويق.
"بالرغم من وجود أساتذة كفء"، كما يقول "لم تكن التجربة التعليمية عموماً متميزة، لذا بعد تخرجي من الجامعة عملت مع المهندس سنان حسن الذي درس في الولايات المتحدة. وحديثي معه ساعدني على تحديد ما أريد".
نيو فيو: نظرة جديدة للمستقبل
بدأت رحلة عريضة إلى الولايات المتحدة عندما تقدم بطلب لمنحة الـ Fulbright التعليمية، وفي نفس الفترة، قابل عريضة البروفيسور ناصر رباط، رئيس برنامج الآغا خان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وفتحت فرصة الدراسة معه آفاقاً جديدة، فاختار عريضة برنامج المعهد بدلاً من المنحة. رحلة عريضة هي سلسلة من القرارات والخيارات، اعتمد فيها على ثلاثة أشياء: 1- التواصل مع المختصين، 2-التركيز على ما يميّزه، 3-واختيار ما يحبّه، وكان هذا سرّ نجاحه.تعليم أساسه التجارب والابتكارات، هكذا سيغير مشروع سوري مستقبل التعليم في سورية وفي العالم
عندما يكون دور المدرسين كـ"مشرفين" ويتحول الطلاب إلى "مبدعين"، يصبح التعليم فرصة للإبداع والابتكارتمحورت أطروحة عريضة حول مفهوم "التعلم عبر المشاهدة"، أي تحويل المعلومات إلى أنساق بصرية تحاكي مخيلة التلميذ، لتكون بديلاً للطرق التعليمية التقليدية. عند سؤاله عن الدافع لاختيار هذا الموضوع، وإن كان الفرق بين نظامي التعليم في سورية والولايات المتحدة هو إحدى هذه الدوافع، كان جوابه: "نعم، في جزء كبير منه، ولكن تجارب أخرى مررت بها كان لها تأثير أيضاً". وعند سؤاله إن كان "نيو فيو" قد حقق ما كان يطمح إليه كتجربة تعليمية، قال "في نيو فيو تحقيق لنظرتي حول التعليم الثانوي أكثر منه للتعليم الجامعي. إنني أحاول التركيز على هذه المرحلة في عملي". يعمل فريق التدريب المشرف في نيو فيو (وهو بديل "المدرسين") على مواضيع عديدة، ولكن حالياً يركزون على مشاريع فيها تبادل للأفكار بين المدربين، حيث يطرح أحدهم فكرة ما ويتم مناقشتها. يركز الاستديو أيضاً على الاحتياجات الخاصة، لأن الهدف دائماً هو أن يخوض التلاميذ تجربة رائعة مثمرة بغض النظر عن الموضوع والأدوات، ويسعى المشروع دائماً للتعاون مع أطراف عدة من أجل تحقيق ذلك. يعمل الأستوديو على أساس مبتكر جديد، لا يعتمد على العلامات، حيث يفتح المجال لكل الطلاب لأن يكونوا ناجحين على طريقتهم الخاصة. فكما يشرح عريضة، إنّ العلامات ليست الجزء الأهمّ من الدراسة، بل تتبع الطلاب والعمل على رفع مستوى مهاراتهم. في نهاية البرنامج، يستطيع الطلاب في نيو فيو الحصول على ملف أعمال (portfolio) للمشاريع التي شاركوا بها، وهو ما يحتاجونه بشكل أساسي في التقديم للقبول في الجامعات، وهو ما سيميزهم عن غيرهم. نظرة سريعة على مشاريع الاستديو، في جميع المجالات، تدعونا للتفكير الجدي بقدرات الطلاب على الإبداع عندما يفتح التعليم المجال لتنمية روح الابتكار. بعض المشاريع يقدم أفكاراً مبتكرة، مثل قطعة أساس الـ"هوبرمان"، الكرسي الذي يتحول إلى طاولة، والذي يغير علاقة الشيء بالمكان والوظيفة والتصميم، وبعضها يقدم مقاربات جديدة لأشكال مألوفة، تصرّ على أهمية الابتكار في تقديم حلول عملية، مثل عربة الفلافل: https://www.youtube.com/watch?time_continue=144&v=Tlf3F-KSZWE وبنفس المستوى من التجديد والإيمان بأهمية الإبداع العملية، تقدم مشاريع نيو فيو نظرة ثورية لدور الفن في تغيير أفكار المجتمع. فمشروع "On Display"، وهو بمثابة عرض أزياء ومعرض فني تفكيكي في نفس الوقت، يقدم نقداً لهوس المجتمع بشكل الجسد ومظهره. ويستخدم عرض الأزياء كأداة لتفعيل العدالة الاجتماعية، حيث يعيد تقديم مفاهيم التعديدة والانفتاح، ويدعو للاحتفاء بالجمال الكامن في الاختلاف.
نيو فيو اكس (NuVuX): مكتشفين مبدعين
نيو فيو إكس هو مجموعة من الخدمات والأدوات والابتكارات التي تؤسس بنية تحتية للإبداع والتصميم في المدارسة والمؤسسات التعليمية. إنه امتداد لتجربة الاستديو في المدارس حول العالم، لمساندة المدرسين وإلهام الطلاب أنْ يصبحوا مكتشفين مبدعين. وحول نيو فيو اكس، يقول عريضة "الفكرة الأساسية للمشروع كانت في إحداث تغيير على مستوى التعليم الجامعي في سورية، ولكن كلما اقتربنا من تحقيق ذلك، شعرت بضرورة تجربة المشروع هنا أولاً". ولكن اختيار التعليم الجامعي في مدينة بوسطن، كما يقول عريضة، كان "شبه مستحيل"، بوجود جامعات كماساتشوستس وهارفرد، لهذا، يكمل عريضة، "عندما بدأنا بالتفكير بالأمر على المستوى الثانوي، بدأ الأمر يبدو أقرب للتحقيق لأن الكثير من المدارس هنا تشبه تلك التي في سورية من حيث اعتمادها نظام العلامات". وعن إمكانية استثمار هذه الخدمات في العالم العربي، تابع عريضة "أنا دائماً متفائل حتى فى ظل الوضع في سورية. إنّ التشبثت بالطرق التقليدية للتعليم لن ينشئ أناساً رواداً مبدعين في مجالاتهم، أما إذا استطعنا أن نقدم أفكاراً مبتكرة في النظام التعليمي في سورية ستكون النتيجة واعدة". تقدم تجربة عريضة نموذجاً رائعاً للمعنى الحقيقي للابتكار، عندما يكون على مستوى المقاربة وطريقة استشراف المستقبل، وهذا توجه سيغير مبدأ اللتعليم في العالم العربي، خاصة في طريق إعادة إعمار سورية. مستقبل سورية يحتاج لأفكار جريئة وحديثة لتحدث خرقاً في جو الحرب ولتصنع فارقاً حقيقياً. وبرأي عريضة، كل شيء ممكن، حيث يقول "قبل قدومي إلى هنا وحتى في السنين الخمس الأولى لدراستي، لم أعتقد أبداً أن باستطاعتي أن أصمم هذه المدرسة، ولكن اليوم بعد أن نجح المشروع، لدي أفكار كثيرة حول تطوير المدارس في العالم العربي. ليس هناك أية عوائق في طريق ذلك، فالسرّ يكمن في طريقة التفكير، قبل كل شيء". صور المقالة من صفحة NuVu على انستغرام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...