الأزمة الحالية بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وبين قطر من جهة أخرى، تدور أساساً بين أنظمة ملكية مختلفة جمعتها منذ عقود تجربة دول مجلس التعاون الخليجي.
بالتوازي، جاء اعفاء الأمير محمد بن نايف من مهامه، ومبايعة الأمير محمد بن سلمان لولاية العهد، لتعيد إلى الضوء الإشكالية الخاصة بالأنظمة الملكية، إشكالية وراثة العرش، هذا في عالم عربي، تنحو الجمهوريات فيه أيضاً كي تكون وراثية (تأسيساً على النموذج السوري - الكوري الشمالي).
لكن الأنظمة الملكية ليست على نمط واحد. يمكنها أن تكون ملكية مطلقة أو ملكية دستورية، يمكنها أن تكون وراثية أو "انتخابية".
للملك مطلق السلطات في حالة الملكة المطلقة، هو الحاكم الأعلى والمشرّع الأعلى والقاضي الأعلى، فيما هو الراعي الفعلي أو الرمزي لنظام الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في "الملكية الدستورية" أو "المشروطة"، سواء تولّى بنفسه الرئاسة الفعلية للسلطة التنفيذية، أو اكتفى بالرئاسة المعنوية لها.
حتى هنا، ينبغي التمييز بين نموذجين، نموذج يبقى فيه الملك، مع خسارته لممارسة السلطة التنفيذية الفعلية، هو رئيس الدولة، بحيث تمارس الحكومة المنبثقة عن البرلمان هذه السلطة "بالنيابة عنه"، وتبقى هذه السلطة نظرياً حقاً له، وهذا حال انكلترا - حيث تبقى الحكومة هي حكومة الملكة - والنروج، وبين نموذج لا يعود فيه للملك هذا الحق النظريّ، ويكتفى به للمراسم، كما في حال السويد منذ 1975.
الهالة الدينية رغم خسارة السلطة الفعلية
ويمكن أن يكون الملك هو الحاكم الفعلي للبلاد من دون أن تكون له صفة دينية أساسية، ويمكن أن يكون الحاكم الفعلي المستفيد من هالة دينية تنسج حول العرش أو حول شخصه بالتحديد. ويمكن أن لا تكون للملك سلطة سياسية من أي نوع، وتبقى له مرتبة دينية أساسية، فالملكة اليزابيت الثانية اليوم هي رسمياً "الحاكم الأعلى لكنيسة انكلترا" كما كان حال سمّيتها اليزابيت الأولى في القرن السادس عشر. كذلك حال إمبراطور اليابان، فهو تنازل عن الجزء الأكبر من صلاحياته التنفيذية منذ نهاية القرن التاسع عشر، لكن الإحتلال الأمريكي للأرخبيل في نهاية الحرب العالمية الثانية، أجبره على التنازل رسمياً عن صفته كـ"روح إلهيّة متجسّدة" (اكيتوسميكامي)، محتفظاً بأصالة "تحدّره من الآلهة" فقط، وقد نصّ دستور 1947 على أنه "رمز الدولة ووحدة الشعب". مع ذلك يتمتع الإمبراطور في اليابان بهالة قدسية معتبرة بين الجماهير، ولا تنقطع الحركات التي تنادي برجعته رئيساً للدولة. هذا على الرغم من سعي الإمبراطور اكيهيتو الحثيث من أجل تقديم صورة دنيوية جداً عنه وعن أعماله، بدءاً من أسفاره في الخارج (وهو ما حرّمه الأباطرة على أنفسهم قبله)، ووصولاً إلى طلبه من الحكومة المصادقة على تنحيه عن العرش بنهاية العام القادم، هذا التنحي الذي لم يكن ملحوظاً بين حقوق الإمبراطور، وقد نال أكيهيتو هذه الموافقة بقانون استثنائي لن تنتفع منه ذريته. [caption id="attachment_112607" align="alignnone" width="700"] اكيهيتو، إمبراطور اليابان[/caption]الملكية الوراثية: الأقدمية الأبوية أو حق البكورة؟
لا ينظر للأنظمة الملكية فقط من زاوية كونها مطلقة أو دستورية، أو من زاوية الهالة المقدّسة أو الرمزية للعرش ومن يجلس عليه. القسمة الأساسية هي قبل كل شيء بين كونها ملكيات وراثية أو ملكيات انتخابية. في الحالة الأولى (الملكية الوراثية) يمكن أن يكون هناك أكثر من نظام لتوارث العرش. هناك نظام حق الأقدمية الأبوية، إذ يرث العرش الأخ أقرب سناً للملك القائم، ومن الأخ إلى الأخ الذي يليه سناً مباشرة (وهنا يمكن أن ينص نظام الوراثة على حصر التوارث بين الأخوة الأشقة أو لا، وتاريخياً ارتبط هذا النظام باستبعاد الإناث)، ثم تنتقل الوراثة الملكية إلى الجيل التالي (وهنا يختلف نظام حق الأقدمية الأبوية، بين "نظام روتا" السلافي القديم الذي ينص على أن يتولى العرش بعد رحيل الأخوة الإبن البكر لأول ملك في الجيل السابق، وبين أنظمة أقل تحديداً أو أكثر تعقيداً). وهناك في المقابل، نظام حق البكورة الأبوي. أي التوارث في الأعقاب من الإبن البكر لابنه البكر، مع التفاوت في استثناء النساء، بين استثنائهم تماماً، أو في حالة انتفاء الذكر، ومع تبدّل هذا النظام لاحقاً في التجربة الملكية الأوروبية للمعادلة بين الذكور والإناث في حظّهم من الوراثة الملكية.الفرق بين الملكيات في العالم. ما الذي يميز الملكية السعودية عن البريطانية والأردنية وحتى اليابانية...
"أي شخص يتولى السلطة من أولادي، فمن المناسب أن يقتل الأخوة من أجل نظام العالم، وأجازه أكثر العلماء"في التاريخ العربي الإسلامي، لم تكن سهلة أبداً عملية توريث الإبن، إذ قامت حركات الإعتراض على توريث معاوية ولاية العهد لابنه يزيد ولم تنقطع، واعتبرت منافية للتقاليد البدوية والإسلامية على حدّ سواء. أما في التاريخ الأوروبي، فتزاحمت أنظمة توريث مختلفة، وكان الانتقال من واحدة إلى أخرى، لكن اعتماد مبدأ حق البكورة الأبوي في توريث الممتلكات الاقطاعية من أراض وأقنان من الاقطاعي الأب لابنه البكر حصراً، لعب دوراً كبيراً في ترجيح كفة حق البكورة الأبوي على مستوى العرش الملكي لاحقاً. كان على وراثة العرش في التاريخ الإسلامي أن تسلك طريقاً وعرة: حفظ المُلك ضمن العصبية القبلية الواحدة من جيل إلى جيل، من جهة، وعدم تفرّد بطن من بطون العشيرة بالُملك لفترة طويلة من جهة ثانية. ولأجل ذلك لم تكن السبيل إلى طريق توريث الإبن البكر سالكة إلا بصعوبات وأزمات وحروب أهلية، وغالباً ما أعتبرت مناقضة لمبادىء الشورى الإسلامية وقواعد المبايعة الحقيقية. أما في التاريخ الأوروبي الغربي، فإنّها اعتبرت نتيجة للقول بـ"الحق الإلهي" للملوك، ونتيجة لاعتماد العهد القديم من الكتاب المقدّس كمرجعية للحكم، وبالذات نموذج "الملكية الداودية"، ووراثة سليمان العرش عن والده داود، كما تقوى هذا المفهوم بمبدأ "الملك أبداً لا يموت"، فما أن يموت الملك الحالي تنتقل الملكية رأساً إلى الأول في ترتيب وراثة العرش من بعده، وحماية هذا المبدأ تطلّبت منع الملوك من محاولة تعديل نظام الترتيب هذا.
قتل الأخوة وقتل الأب
لم يحظ مبدأ التوريث في الأعقاب من الولد لولد الولد، بهالة المشروعية التلقائية، في الإمبراطورية البيزنطية ثم العثمانية، فلزم لأجل فرضه أن يتخلص من يتولى السلطة من أخوته. وهكذا أورد السلطان محمد الثاني في الـ"قانون نامه" أن "أي شخص يتولى السلطة من أولادي، فمن المناسب أن يقتل الأخوة من أجل نظام العالم، وأجازه أكثر العلماء، فليعملوا به". كان يبدو ذلك الحل الوحيد لحقن الدماء على مستوى الإمبراطورية ككل، وعدم انصرافها إلى المواجهات الدموية الشاملة ما أن يرحل السلطان. وهكذا سرى مبدأ "البقاء للإبن الأقوى" من دون أن يكون بالضرورة البكر، وإنما من يسبق إخوته الآخرين إلى نحرهم، بمساعدة والدته في أحيان كثيرة (ما قوى موقع "السلطانة الوالدة"، الأمر الذي استدعى من السلاطين اللاحقين التوقف عن الزواج والإكتفاء بالتسرّي). ثم انقلبت الحال في القرن السابع عشر، وما عاد الأخوة يقتلون بعضهم البعض، وصار الأضعف هو أوفر حظاً للسلطنة، إذ يوضع الأقرب منزلة لتولي العرش في "قفص" ملحق بـ"الحرملك"، ويحجبون عن الناس وعن أحوال الدولة، ويمنعون من الإنجاب، ولا تعطى لهم سوى العواقر من الجواري، إلى أن تأتي فرصتهم للحكم. وفي روسيا، كان الانتقال من المبدأ الذي وضعه بطرس الأكبر، لكل إمبراطور أن يسمي وريثه بحرّية، إلى المبدأ الممهور بتوقيع بولس الأول نهاية القرن الثامن عشر، والذي ينص على ولاية الإبن البكر بشكل إجباريّ، الأمر الذي لم يتردّد ابنه الإسكندر الأوّل باستخدامه، عبر رعايته مكيدة إغتيال والده.حق البنوة عربياً
في البلدان العربية، ترافق اعتماد حق البنوة هذا مع اعتماد الدساتير المنسوجة على النمط الغربي، ففي الفترة نفسها التي وضعها في الدستور المصري، قام الملك فؤاد الأول بتعديل نظام وراثة العرش: بعد أن كانت النظام السابق ينص على وراثته بين أكبر أفراد أسرة محمد علي سنّاً، صارت الملكية تنتقل من "صاحب العرش إلى أكبر أبنائه ثم إلى أكبر أبناء ذلك الإبن الأكبر وهكذا طبقة بعد طبقة". لم تصمد هذه التجربة طويلاً في مصر، إذ أطاح العسكر بالنظام الملكي مطلع الخمسينيات. أمّا في المغرب، فقد اعتمد حق البنوة بدءاً من السلطان محمد الخامس، والد الحسن الثاني وجد الملك الحالي. اعتمد أيضاً في الأردن، وإن أتيح تعديل دستوري عام 1965 للملك حسين تسمية أخيه الحسن ولياً للعهد، على أن تنتقل الولاية مع توليه إلى ابن الحسين، ثم عاد الحسين قبل وفاته بقليل، ونقلها مباشرة لابنه عبد الله. ويعتمد هذا النظام في قطر بشكل مختلف: فأمير الدولة يختار ولي العهد من بين أبنائه هو، دون أن يشترط فيه اختيار الأكبر سناً.الملكية "الإنتخابية"
ليست كل الملكيات وراثية. هناك الملكيات "الإنتخابية". تاريخياً، كان هذا شأن الإمبراطورية المقدّسة الرومانية الجرمانية، حيث ينتخب الإمبراطور من الأمراء "الانتخابيين" الكبار السبعة، والمتحد البولوني - الليتواني الذي كان يعرّف عن نفسه "كجمهورية تحت رئاسة ملك"، حيث ينتخب الأخير من كبراء النبلاء في بلاد كانت تعد بين عشر وخمس سكانها من النبلاء. وكان هذا شأن الإمبراطورية المغولية حيث كان يتولاها من تختاره مجلس القرلطاي. واليوم، تعتبر كمبوديا ملكية إنتخابية لأن الملك فيها ينتخب من تسعة أشخاص، سبعة منهم منبثقين عن سلطة منتخبة، مع ممثلين للرهبانيتين البوذيتين الرئيسيتين، وماليزيا، حيث ينتخب رأس الدولة أم ملكها، من "مجلس السلاطين"، ودولة الأمارات على مستوى رئاسة الإتحاد التي تقوم عليه، وتعتبر الحالة الكويتية مختلطة بين الوراثي والإنتخابي، ما دام أمير الدولة يسمي ولي العهد حين توليه الحكم، لكن على البرلمان أن يوافق عليه.الحالة السعودية
ماذا عن النموذج السعودي في وراثة العرش؟ منذ وفاة عبد العزيز بن عبد الرحمن، الملك المؤسس للدولة السعودية الثالثة عام 1953، تعاقب على الملك أبنائه الأخوة من سعود إلى سلمان، لكن حق الأقدمية الأبوية هذا لم يعتمد كنظام ثابت. لم يتمكّن سعود من الاحتفاظ بالملك، إذ جرت تنحيته لصالح الملك فيصل، المولود من أم من آل الشيخ (أسرة ابن عبد الوهاب) والذي أنحازت المؤسسة الدينية له، وبعد اغتيال فيصل ذهب المُلك لخالد، وأمه من آل جلوي وهو فرع من آل سعود، ثم ارتفع نجم "السديريين" (احدى بطون قبائل نجد التي كانت من بناتها جدتهم أم الملك المؤسس عبد العزيز)، من فهد إلى سلمان، باستثناء عبد الله، فأمه من قبيلة شمر. لكن المملكة اعتمدت بالنتيجة نظام الملكية الانتخابية على أن يحصر الانتخاب ضمن أروقة الأسرة الحاكمة (بخلاف الحالة الكمبودية أو الماليزية أو الكويتية إذاً)، فنصت المادة الخامسة للنظام الأساسي المقرّ عام 1992 على أن "الحكم في أبناء الملك المؤسس" و"أبناء الأبناء"، على أن "لا يكون من بعد أبناء الملك المؤسس ملكاً وولياً للعهد من فرع واحد من ذريعة الملك المؤسس". وإذا كان النظام الأساسي للملكة يعتبر القرآن هو دستورها ولا يعتبر نفسه الدستور، فإن المادة 46 منه تنص على أن القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية، والمادة 50 على أن "الملك أو من ينبيه معنيون بتنفيذ الأحكام القضائية"، وهذا يختلف عن النمط الكامل من الملكية المطلقة حيث الملك هو الحاكم الأعلى والقاضي الأعلى في آن، وليس هذا حال السعودية، في حين يتولى فيها الملك بنفسه رئاسة مجلس الوزراء. أما النقلة باتجاه تكريس الملكية الإنتخابية فجاءت بإقرار نظام هيئة البيعة عام أواخر العام 2006، في عهد الملك عبد الله، ويختار بموجبه الملك بعد مبايعته، وبعد التشاور مع أعضاء هذه الهيئة، واحداً، أو اثنين، أو ثلاثة، ممن يراه مناسبة لولاية العهد، إلى أن يتم التوافق على واحد منهم لولاية العهد، وفي "حالة عدم ترشيح الهيئة لأي من هؤلاء فعليها ترشيح من تراه ولياً للعهد"، كما يمكن أن تشكل الهيئة في حالات استثنائية مجلساً مؤقتاً للحكم من خمسة من أعضائها. [caption id="attachment_111075" align="alignnone" width="1024"] الأمير محمد بن نايف وولي العهد الجديد محمد بن سلمان[/caption] مع اعفاء الملك الحالي للأمير محمد بن نايف من مهامه قبل أيام، وحصول محمد بن سلمان على موافقة هيئة البيعة، تدخل المملكة في مرحلة جديدة: هي من جهة، حالة تطبيقية لنظام هيئة البيعة، وهي من جهة ثانية، تعبّر عن نزوع نسبي لإعتماد "حق البنوة"، مع الإشارة إلى أن ولي العهد الآن هو الإبن السادس للملك الحالي وليس ابنه البكر. مرحلة تعاقب الأخوة على الملك تقترب من الإنتهاء، ومن الصعب الآن تحديد مسار انتقال العرش في المرحلة التالية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 18 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري