"اجتمع متحاوران، فقال أحدهما: 'هل لك في المناظرة؟' فقال: على شرائط"، ثمّ عددها:
"ألا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تُقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوِّز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوَّزت لي تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلاً منّا يبني مناظرته على أن الحق ضالته، والرشد غايته".
هذه القصة من كتاب محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء للراغب الأصفهاني، تعرض آداب المحاورة الفكرية، أو المناظرات التي هذّب العرب شروطها وقوانينها.
المناظرات فنٌّ أدرك العالم المعاصر قيمة الحوار فيه، لإرساء مفهوم التعددية واحترام الآخر.
ولعل أشهر مناظرات العصر الحالي هي المناظرات السياسية، فمن الأمثلة التي كان لها دوي وحظيت بمتابعة العالم تلك التي جرت بين مرشحي الانتخابات الفرنسية، والأمريكية قبلها، وهي على فرادتها، تذكر إلى حدّ كبير بالمناظرات التي أحاطت مفاهيم الحكم في التاريخ الإسلامي.
فكيف كان تعامل العالم القديم مع فنّ المناظرة، وما هي أهم مسائلها وقضاياها؟
يروى الطبري أنه فى عام 17 هـ، خرج عمر بن الخطاب إلى أرض الشام، وكان الوباء شائعاً بها آنذاك، وكان من الحكمة أن ينسحب الجنود؛ لئلا يُلقوا بأنفسهم فى جحيم الوباء، وبالفعل اقترح الخليفة رجوع الجنود.
وعارض بعض المهاجرين الأولين ومهاجري الأنصار مذهبه، حيث قيل: "خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدّك عنه بلاء عرض لك"، بينما أيده مهاجرو الفتح قائلين: "ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء".
يظهر على ساحة المناظرة القدرية أبو عبيدة الجراح ليناظر عمر بن الخطاب بعد قرار الرجوع، حيث نهض وقال: "أفرارٌ من قدر الله!" وكادت الكلمة تشق الصفوف، فلم يكن يعرف المسلمون بَعدُ مثل هذه المسائل.
احتوى عمر الخلاف وقال: "فرارٌ من قدر الله إلى قدر الله"، حسبما أورد الطبري في الجزء الرابع من تاريخ الرسل والملوك. وانتهت المناظرة إثر الحجة التى ألزم بها عمر أبا عبيدة.
المسائل القدرية التي أثيرت فى هذه الحقبة بعفوية، صارت فى القرنين الثاني والثالث الهجري مذهباً فكرياً له معتنقوه، استثمره عدد من خلفاء بني أمية وبني العباس لتثبيت عروشهم بطريقة ثيوقراطية، وكأنهم ظل الله على الأرض.
الشعوبية والقدرية والخلافة، أشهر مواضيع المناظرات
سجلت المناظرة مسيرة الثقافة الإسلامية فى شتى المجالات، إذ رصدت كثيراً من الظواهر الاجتماعية التي اتصف بها المجتمع. تناثرت بذور المناظرة فى أرض الثقافة العربية زمن الجاهلية، وأغناها تفاعل تأثيرات ثقافية متنوعة مع الموروث الثقافي الإسلامي، بطوائفه وبيئاته الفكرية. ومع تطاحن القضايا الإشكالية تطور جنسٌ أدبيٌّ له خصوصيته عبر مراحل تكوينه المعرفية. في العصر الجاهلي، كان في مقدمتها مسألة الأحساب والأنساب، ونجد آثارها في الشعر الاحتجاجي، وما دار من جدل شعري فى أسواق العرب المتشعبة والممتدة بامتداد جزيرتهم. يرصد ابن هشام في السيرة النبوية أن البعثة غدت حديث الصباح والمساء بين العرب، فسكنت كثيراً من مناظراتهم شعراً ونثراً، ومن أشهرها نجد مناظرات النبي مع قومه ومع عتبة بن أبي ربيعة ومع اليهود ومناظرة أبي سفيان بن حرب وهرقل ملك الروم. ونجد أبطال الأخيرة (المناظرة الشعرية) يتمثلون فى ثالوث شعراء النَّبي؛ حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة ومناظراتهم مع أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن الزِّبعري وضرار بن الخطاب الفهري وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ولم يكن لهم سابق عهد بالشعر ولكن الأحداث استولدت شاعريتهم.وظّفّ فنّ المناظرات عند العرب أدوات الحوار والاستفهام والحكاية والاقتباس
بعيداً عن التسليم أو أحادية الرأي، اعتمد العرب البلاغة والحوار وأشكال النقاش الفكريبعد موت النبي يرصد أبو علي السكوني في عيون المناظرات، كيف تناظر الصحابة في العديد من المسائل، بينها ارتيابهم في موت النبي، وموضع دفنه، وجمع القرآن، وفي الإمامة الأولى حيث اجتماع السَّقيفة. وثمة إرهاصات للمناظرات القدرية وجدت فى ثنايا هذه الحقبة مروراً بمناظرات الإمامة الثانية بين علي ومعاوية إثر مقتل الخليفة عثمان بن عفان، انتهاء بمناظرات فتنة التحكيم، لنقف إزاء مناظرات الخوارج وقد اشتد عودها وصارت فرقة لها مبادئها المذهبية التي كثيراً ما تناظرت فيها ليل نهار زمن بني أمية. تنوعت أوجه القضايا التي أثارت خلافات زمن بني أمية، فسياسياً تنازل الحسن بن على لمعاوية عن أمر الخلافة حقناً لدماء المسلمين، وعلى إثر هذا انهالت المناظرات على معاوية من كل جانب. وكان محورها تقييم المواقف السياسية بينه وبين علي، وكان أبطالها رجالاً ونساءً، بحسب ما ورد في موسوعة المناظرات لسيد صديق عبد الفتاح. لم يختلف الأمر كثيراً على المستوى العقدي، ولم يكن مستغرباً على أرض كأرض العراق التي تشبَّعت بالمذاهب والمعتقدات والملل والنحل، أن تتدافع مواقف مذاهبها وفرقها فنجد المرجئة والقدرية والجبرية والمعتزلة والخوارج والشيعة يتناظرون فى أفكارهم ومبادئهم. وفي القرن الثالث الهجري زمن العباسيين، انعكس في المناظرات النضج الفكري والعقلي واللغوي بأحداثه السياسية المتشعبة. فانشطر الهاشميون إلى عباسيين وعلويين، وتَنصَّل العباسيون من الحق العلوي في الخلافة رغم أن البيعة والثورة دارت باسم البيت العلوي واتخذوا "الرضا من آل البيت" شعاراً لهم، وكان ذلك مادة لمناظرات مستمرة.
نقائض جرير والفرزدق
خلقت الحياة الأدبية فنًّاً عبقرياً، عرف بفنّ "النقائض" وهو فنَّ المناظرة الأدبية، بحسب توصيف الدكتور شوقي ضيف في كتابه التطور والتجديد في الشعر العربي. وكما يعرفه: "فالنقائض التى اشتهرت فى تاريخ الشعر الأموي ليست إلا مناظرات بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وهي أدب أموي غذَّته وطوَّرته بيئة العراق الجدلية، وما اشتملت عليه من حوار واستدلال". ويضيف: أن الفرزدق وجرير، "تناولا قبساً منه ألَّفا فى ضوئه هذه النقائض، وسرعان ما أقبل الأخطل ليشاركهما هذا الحوار، أو قل هذه المناظرة، ويبعث فيها جانباً من المفاضلة بين قيس وتغلب".النفس الزكية والمنصور
دارت المناظرة بين المنصور خليفة بني العباس الثاني، ومحمد بن عبد الله، سليل الحسين الملقب بالنفس الزكية، وكان محورها الحق الشرعي في الخلافة. ويسجل لنا الطبري في الجزء السابع من تاريخ الرسل والملوك، نصوص المناظرات التي تبادلاها، والتي استخدم فيها الطرفان فنون الاقناع والجدال، واتهامات وذرائع لإثبات حقّه في الخلافة. ولكن بعد مناظرات عديدة لم تنجح، حيث بقي كل منهما مقتنعاً بمذهبه، أرسل المنصور جيشاً بقيادة عيسى بن موسى، فقتل النفس الزكية في المدينة، وكان هذا فى عام 145هـ.الشعوبية والمناظرات
وسّعت حركة التوسع حدود الأوطان الإسلامية، تاركة أثراً في خارطة التركيبة السكانية فظهر على إثرها تيار عروبي وآخر شعوبي، أسفر عن مناظرات على شاكلة تلك التي دارت بين الأفشين والزيات وآخرين، بالإضافة إلى صبغتها من بعض المؤلفات صبغة جدلية بحتة. اندمجت ثقافات مختلفة تحت لواء الإسلام، ما أسفر عن تنوع صنوف الملل والنحل والأهواء والأفكار بين جنبات المجتمع آنذاك، وتوهجت معها الطرق الجدلية، وزاد نشاط متكلمي الفرق، فنجد المعتزلي أبو الهذيل العلاف وهو يناظر مجوسياً، والنظام وهو يقحم الزنادقة والدهرية. ويخبرنا المسعودي عن هشام بن الحكم أحد رؤوس متكلمي الشيعة، ومن أهل السنة نجد أبا حنيفة يناظر الخوارج، والشافعي يجادل بعض الملحدين، وعبد العزيز المكي يتحاور فى بلاط المأمون في مسألة خلق القرآن، وابن حنبل يتناقش فى بلاط المعتصم. المشهد الفكري كان حيّاً، يضج بالآراء والحوار والتنافس والمواجهة، حتى أنّ الخلفاء أنفسهم كانوا يتناظرون مع الثنويين وغيرهم. ونرى بأن الخليفة السفاح كان يوصي بتعلم فنون الجدل إذ قال: "هلا أنفقتم جزءاً من أعماركم فى قراءة علم تردون به على من ألحد فى دين الله يوماً من الدهر". عرفت الثقافة العربية المناظرات، ببناء فنّي محكم، وظَّف أدوات الحوار والاستفهام والحكاية والاقتباس للوصول بالخصم لإقرار المختلف عليه وإرساء ثقافة الحوار، وإنْ أدّت المناظرة أحياناً بصاحبها إلى أنْ يقتل أو يسجن خاصة إذا كان موضوع المناظرة عقدياً أو سياسياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...