تنوّعت طرق الاحتجاج على السياسات التي تنتهجها الحكومات، والمواقف التي يتّخذها الزعماء. ورغم أنّ المقاومة بالأغاني السياسيّة الساخرة ظهرت منذ عقود، خصوصاً مع الحركات اليساريّة في مختلف البلدان العربيّة، فإن الأغاني الساخرة أخذت بعداً آخر اليوم، في عالم معولم تحطّم الانترنت كلّ قيوده وتضرب بالحواجز، التي يحاول أصحاب السّلطة وضعها، عرض الحائط.
ليس هذا فقط، بل إنّ هذه الأعمال الموسيقيّة الساخرة تبدو في حقيقة الأمر أكثر من مجرّد لهو ووسيلة لإثارة الضحك، لأنها في الواقع، أعمال فنيّة يجدر التمعّن في كلماتها لفكّ شيفراتها. كما يجب دراسة عالمها الاستيطيقي (إحدى مدارس الفلسفة المعنية بالطبيعة وتقدير الجمال والفن والذوق الرفيع)، والمجال الذي يتحرّك ضمنه مبدعوها، وأهمّ المرجعيات السياسيّة التي تحرّكهم.
في هذا المقال، نعرض الأغاني السياسيّة الساخرة، ونركّز على حالتي مصر وتونس، لما شهده هذان البلدان من تطوّرات بعد الثورات التي ساهمت في انفتاح المجال أمام حريّة التعبير نسبياً.
باسم يوسف: السخرية تقض مضجع السلطة
لعلّ أبرز اعمال المحاكاة السياسيّة الموسيقيّة الساخرة التي اجتاحت الميديا في العالم العربي، وشغلت الرأي العام، هي تلك التي قدّمها باسم يوسف في برنامج "البرنامج" المشهور. ولأن ظاهر هذه الأغاني كان الهزل والمرح، فإنّ المتمعّن في تلك الأعمال، بعد مضيّ سنوات قليلة على تقديمها، يلاحظ أنّها تحوّلت إلى وسيلة/أداة، يمكن الاستناد إليها، واعتبارها مرجعاً في دراسات سوسيولوجيّة، تساعد على فهم المواطن المصري وموقفه من السياسيين ومن السياسة عموماً. في أغنية "اخترناه وأخذناه" (من تلحين وتوزيع مصطفى الحلواني)، نلاحظ المجهود الذي بذلته المجموعة، سواء على مستوى البحث الموسيقي أو تصميم الرقصات، ما يدلّ على أن هذه الأعمال خرجت بفنّ الموسيقى الساخرة من الدائرة الضيّقة التي كانت تحصره في كلمات تلحّن وتغنّى. لم تعد السخرية سجينة الكلمة بل تجاوزتها لتصبح عرضاً متكاملاً بأزياء وتحرّكات وإخراج مسرحيّ وحركات مضبوطة. فهل ساهم هذا التغيير على مستوى الشّكل في انحياز على مستوى المضمون؟ الإجابة ببساطة لا، لأنّ حيّز الحريّة الذي تمتّع به باسم يوسف والمجموعة التي تعمل معه، لم يتوفّر في تاريخ مصر منذ عقود طويلة. لذلك فإنّ الدّارس لكلمات الأغنية، يلاحظ خطاباً مباشراً لا يخلو من جماليّة وصور ساخرة تضفي عليه طابعاً خاصاً وتحافظ من خلاله على السخريّة. فبتقنية البلاي-باك، يتقدّم المغنون تباعاً لتعداد هفوات الرئيس السابق محمّد مرسي، بطريقة تبدو واضحة تارة ومضمّنة تارة أخرى. هذا ما يميّز هذه الأعمال التي تثير ذهن المستمع وتجعله متحسّباً لأيّ تغيير في الإيقاع، ومنتبهاً للرسائل المخفيّة وراء بعض الصور الشعريّة والتشابيه والاستعارات. أغنية "اخترناه وأخذناه" هي بمثابة الكوميديا السوداء التي تصف حالة الاحتقان التي عانى منها الشارع المصري، جرّاء تجاوزات مرسي، الذي كما تقول كلمات الأغنية "كتب دستور وقلنا غوروا"، أي أنه استأثر بالسلطة وأراد تقسيم المصريين. آخر الأغنية كان بمثابة استباق لما سيحصل من تطوّرات ويمكن اعتباره رسالة ودعوة للثورة على نظام الإخوان: "جبنا آخرنا وبنقول آه". وفي السياق نفسه، ودائماً في برنامج البرنامج، تأتي أغنية "بعد الثورة جالنا رئيس"، كعمل موسيقي، تكمن أهميّته في الفترة الحاسمة التي ظهر فيها. فالأغنية، بالإضافة إلى الفكرة المبتكرة التي قدّمت في إطارها، مثّلت وسيلة للسّخرية من الرئيس مرسي والرئيس السيسي. هنا يظهر الطابع التّأريخي والدّور المهمّ للمحاكاة السياسيّة الموسيقيّة الساخرة، كعنصر فاعل في توعية الجمهور، وكشف خفايا السّاحة السياسيّة المعقّدة، بآليات خطابيّة بسيطة وفي متناول الجميع. على ألحان أغنية الأطفال "جدو علي"، التي غناها محمد ثروت في مصر، كما يوجد نسخة تونسيّة من الأغنية بعنوان "جدي عنده ضيعة صغيرة"، كان للنّفس الطفولي في مقاربة مواضيع جديّة أثر سحريّ على المشاهد. فالمشهد سوريالي بأتمّ معنى الكلمة: رقصات مرحة، نسق سريع مع كلمات تحتجّ على جماعة الإخوان المسلمين وتسخر منهم "عمل سكسوكة/ هرب في فلوكة/ كان ناقص يلبس باروكة". ويبدو أنّ المقطع الأهمّ في الأغنية هو الذي خصّص لنقد السيسي. ففي حوار ساخر بين باسم يوسف وأحد أعضاء الفرقة، تقمّص فيه الأخير دور المنتقد الذي يعتبر ما حصل انقلاباً، يجسّد المشهد الانشقاق الذي يعاني منه الشارع المصري آنذاك، وما يمكن أن يتعرّض له القائل بأنّ السيسي قام بانقلاب من مضايقات قد تصل حدّ الاعتداء الجسدي (وضعيّة الممثّل وسط المجموعة توحي بذلك). شهدت الأغاني السياسيّة الساخرة نقلة نوعيّة مع اجتهادات باسم يوسف وفريقه، فأصبحنا أمام عرض متكامل يعتني فيه بالكلمات ويوظّف فيه الركح وتنظم من خلاله الرقصات المتناغمة والمدروسة.شعبان عبد الرحيم: السقوط في الاستسهال
بعيداً عن التقييمات للموقف السياسي لشعبان عبد الرحيم، يجب التركيز على التقييم الموسيقي والأدائي لهذا المغني. فالأغنية مؤداة على ألحان رتيبة ومملّة اعتادها المستمع من شعبان، الذي يرفض أن يغيّر أسلوبه، ويتمسّك بالألحان، حتى أصبحت أعماله وكأنّها مستنسخة. بصوته الرخيم وتلك اللاّزمة الشهيرة التي يمدّد فيها "إيه"، يتّخذ شعبان عبد الرحيم موقفاً سياسياً، ويتوجّه بالخطاب المباشر إلى أمير قطر الذي شبّهه بـ"الفأر في المصيدة". &feature=share ما يلاحظ في نصّ هذه الأغنية، أن لا وجود لمجهود يذكر على مستوى الكلمات، فالمجال الذي يتحرّك ضمنه صاحب أغنية "أنا بكره إسرائيل"، يبقى سجين معجم شوارعي بسيط، من دون أي تغيير، مع تركيب عشوائي للقوافي، من دون أي اهتمام بموسيقيّة النصّ. وعلى عكس الأعمال الموسيقيّة التي تتوسّل التلميح وسيلة لتمرير رسالة أو نقد، يمكن أن نجزم أن أغنية عبد الرحيم هي مجموعة من الشتائم التي تخلو من أي نفس فنّي ساخر: "يا الي معندكش كرامة/ يا خاين/ يا كبير المجرمين". تبدو هذه الأغنية نموذجاً للسقوط في الاستسهال والاستهانة بفنّ السخرية. ولا يجد المستمع تلك الصور الشعريّة والتراكيب اللغويّة، كما نلاحظ ذلك في أغان أخرى.الأغاني الساخرة في تونس: مرآة عاكسة للوضع
منذ ثورة يناير 2011، ومع الانفتاح الذي شهدته الساحة الفنيّة، ازداد عدد القنوات والإذاعات، وأصبح الحيّز الإبداعي مناسباً لإنتاج أعمال متنوّعة. ظهر على قناة نسمة برنامج الدمى السياسيّة الذي يحاكي برنامجاً شهيراً، يعرض في القنوات الفرنسيّة. وقدّم مجموعة من الأغاني السياسيّة الساخرة التي فاجأت الجميع بتقنية عالية على مستوى التصوير، ومجهود وبحث على مستوى النصّ. هدف هذه الأغاني، إضافة الى تسلية المشاهد، هو نزع تلك الهيبة الزائفة التي يتمتّع بها السياسيون وأصحاب السلطة، وكسر الصورة النمطيّة التي اعتادها التونسيون لأكثر من 50 سنة من حكم الديكتاتورية. في أغنية "على اللّه يا شيخ راشد"، تظهر مجموعة من السياسيين البارزين على الساحة، كراشد الغنوشي والرئيس المؤقت آنذاك المنصف المرزوقي، وبعض المعارضين كحمّة الهمامي. ويبدو الجميع في طقوس تهليل وتطبيل للشيخ. على ألحان أغنية "على الله" للمغني بوقنّة يجد المشاهد نفسه أمام مشهد كاريكاتوري يكشف عن خبايا عالم السياسة في تلك الفترة، ويضع كل سياسي في مكانة بحسب ميزان القوى، ما يدلّ على أن الأغنية السياسيّة الساخرة تتحوّل إلى مرآة عاكسة للوضع السياسي في البلاد. الباجي قائد السبسي، الرئيس الحالي للجمهوريّة التونسيّة كان موضوع مجموعة من الأغاني الساخرة، عندما كان في منصب رئيس الحكومة، أو في فترة الانتخابات الرئاسيّة. تبدو أغنية "يا زعيم الثورة يا باجي" مستوحاة من أغنية "رايس الأبحار". وتحيط مجموعة من السياسيين بالباجي كأمل أخير للحصول على مناصب بعد الخيبة الانتخابيّة الأولى بعد الثّورة.تفاصيل العلاقات الدوليّة كمادّة للأغاني الساخرة
يقضي المحللون ساعات طويلة أمام الكاميرات، ليشرحوا لنا دلالات واستتباعات زيارة الرؤساء لبعض البلدان. كما يبدعون في تقديم أدقّ تفاصيل الحروب وموازين القوى ونقاط الضعف عند كلّ طرف. ماذا لو اكتسحت أغنية سياسيّة ساخرة هذا المجال؟ كيف ستعبّر الموسيقى المرحة والكلمات الخفيفة الساخرة عن الوضع الإستراتيجي والعلاقات الدوليّة؟ في أغنية تسخر من زيارة الرئيس السيسي للمملكة السعودية، تظهر السخرية كسلاح يمكن استعماله لجلد الذات، ونقد المواقف السياسيّة. على ألحان "بشرة خير" لحسين الجسمي، تسخر الكلمات من الزيارة، وتمرر ضمنياً تداعياتها على مصر وعلى بقية بلدان الخليج. النفس المرح والإيقاع الراقص لم يمنعا من جذب انتباه المستمع إلى القضايا الجديّة. وفي السياق نفسه نجد أغنية تسخر من زيارة الرئيس الأمريكي للسعوديّة، وقد جاء النص مباشراً بكلمات واضحة وخالية من أي مجهود، وصور شعريّة مع موسيقى موقّعة مع نوتات غيتار كهربائي في الخلفيّة. يتقمّص المغني دور المرحّب بترامب ويعدّد خصاله ومزاياه بنبرة مستهترة. اللازمة التي تتكرّر تؤكّد على الطابع الهزلي للكلمات: "دونالد ترامب في بلاد الحرمين/ هو طويل العمر ماشيين/ يا هلا بالضيف/ انت تأمر وإحنا جاهزين". مما تقدّم، نستنتج أن المحاكاة السياسيّة الموسيقيّة الساخرة لا تقيم للزعماء والقادة وزناً، بل تسعى إلى تقويض تلك الهالة الزائفة، وفضح الهينات التي تخفى عن العامّة. هذا ما يتجسّد في كليب "قربت آخرتك حزب الله"، الذي قدّم على قناة "إل بي سي" اللبنانية. الأغنية على إيقاعات الدبكة، كلماتها تسخر من حسن نصر الله ومن حزب الله، وتعكس صراعاً موجوداً على أرض الواقع. ويفهم المشاهد انحيازاً لجهة على حساب جهة أخرى. ما نلاحظه هو مجهود على مستوى الدمى والإخراج مع حسن اختيار كلمات النصّ الموقّعة التي لا تخلو من صور شعريّة ساخرة. تبدو المحاكاة السياسيّة الموسيقيّة الساخرة في ظاهرها مجرّد هزل ونصوص تلقى ألحاناً مرحة، غير أنّها معيار لتقييم مدى ديموقراطيّة البلدان، ومدى رحابة صدر السياسيين من خلال تقبّلهم للنّقد. من ناحية أخرى، هي وسيلة لتمرير رسائل خفيّة وتوعية المشاهد على العديد من خفايا الساحة السياسيّة، ولكن بطريقة مختلفة وفي متناول الجميع. كما أن الأغاني السياسيّة الساخرة يمكن أن تتحوّل إلى أداة لضرب الخصوم السياسيين وتشويههم، إذا تحوّلت إلى أداة في يد سلطة سياسيّة وجهة إيديولوجيّة معيّنة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون