الحصار والعقوبة الاقتصادية هما الوسيلة المثلى لردع الدول التي تخرج عن الإجماع الدولي، أو تنتهك أحد المواثيق المعترف بها، وهذه الوسيلة هي الأنسب للتصعيد قبل أن يتطور الأمر للمواجهات العسكرية.
آخر المنضمين لقائمة "الحصار" دولة قطر، التي تواجه الآن مقاطعة خليجية وعربية، بسبب مواقفها التي تعتبرها هذه الدول "تدخلاً في شؤونها ودعماً من الدوحة لقوى الإرهاب والتطرف".
قائمة الدول التي واجهت حصاراً أو عقوبات دولية أو إقليمية، طويلة، وتدخل فيها دول عربية، نستعرض بعضاً منها وكيف تضررت من إجراءات الحصار وكيف تعاملت مع هذه العقوبات.
إيران والبرنامج النووي
تعود العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران إلى عام 1979، بعد واقعة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران، إذ قامت الولايات المتحدة بوقف جميع التعاملات مع إيران، باستثناء بعض الأنشطة المتعلقة بالمعدات الطبية والزراعية والمساعدات الإنسانية. ولكن العقوبات الأمريكية لم تشكل خطراً داهماً على الاقتصاد الإيراني، حتى جاء عام 2006، عندما تبنى مجلس الأمن ستة قرارات تطالب طهران بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن برنامجها النووي، وتضمنت القرارات فرض عقوبات تدريجية عليها في حالة عدم الاستجابة. ونتيجة لعدم استجابة إيران للقرارات الدولية، قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في يوليو 2012 بفرض عقوبات تتضمن حظراً على صادرات النفط والتعاملات المصرفية الإيرانية. ويذكر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن الاقتصاد الإيراني صُنف في 2010 كثالث أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، والتاسع والعشرين في العالم بحجم 337.9 مليار دولار، وقد شكَّل النفط والغاز 80% من الصادرات التي مثلت 60% من دخل الدولة. ويتابع تقرير المركز، أنه على الرغم من كل الإجراءات التي لجأ إليها الإيرانيّون للتخفيف من تأثير العقوبات، تكبّد الاقتصاد الإيراني خسائرَ فادحة، إذ فقد الريال الإيراني في 2012 فقط نحو 80% من قيمته أمام الدولار الأمريكي، كما فقد الاقتصاد الإيراني نحو 40% من صادراته النفطية، مما دفع رئيس البنك المركزي الإيراني إلى وصف العقوبات الغربية بـ"الحرب" المعلنة على الاقتصاد الإيراني. وأعلن وزير الخزانة الأمريكي جاك ليو أن الناتج المحلي الإجمالي الإيراني انخفض إلى 20% نتيجة العقوبات، مضيفاً أن طهران خسرت ما يزيد على 160 مليار دولار من عوائد النفط منذ 2012. ولكن النظام الإيراني عاد وأبدى مرونة مع القوى الدولية أدت إلى رفع العقوبات الأوروبية والأمريكية عنه في يناير 2016، بعد الاتفاق على تقويض البرنامج النووي الإيراني، وإخضاعه للمراقبة الدولية. وبمجرد رفع العقوبات، استعادت إيران حصتها في تصدير النفط للاتحاد الأوروبي، كما أعلن رئيس البنك المركزي الإيراني ولي الله سيف أن طهران ستسترد 32 مليار دولار من الأموال المجمدة لديها في الخارج.العراق... الحصار الأشرس
يمكننا وصف الحصار الدولي على العراق خلال فترة حكم صدام حسين بأنه "الأشرس والأصعب". رداً على غزو العراق للكويت، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 661، في 6 أغسطس 1990، وأعلن فيه بداية الحصار على العراق. وتضمن القرار، الذي اتخذ بأغلبية 13 صوتاً وامتناع اليمن وكوبا عن التصويت، 11 نقطة يقرّ فيها المجلس منع استيراد وتصدير أيّة سلع أو منتجات من وإلى العراق، وإيقاف أي نوع من المعاملات المالية أو المشاريع، أو توفير الأموال والموارد الاقتصادية لحكومة بغداد، أو التعامل مع السفن التي ترفع علم العراق، باستثناء المواد الطبية والمواد الغذائية المقدمة في ظروف إنسانية. وبمقتضى هذا القرار، توقفت صادرات العراق النفطية إلى دول العالم، وكانت تمثل الركيزة الأساسية والمورد الرئيسي للنظام الاقتصادي العراقي. بعد انتهاء الحرب وخروج القوات العراقية من الكويت في 26 فبراير 1991، استمر الحصار على العراق بحجة السعي لامتلاك أسلحة نووية حتى غزو العراق وسقوط نظام صدام حسين في 2003، وزاد من أثره قيام قوات التحالف بتدمير جانب كبير من البنية التحتية العراقية خلال حرب الخليج الثانية.هل تستفيد قطر من تجارب دول أخرى في الحصار؟ نظرة على سنوات الحصار في كل من إيران، العراق، كوريا وكوبا
العقوبات على كوريا الشمالية لم تفلح يوماً... هل تكون قطر أقرب إلى التجربة الكورية أم إلى التجربة المصرية؟
آثار الحصار على العراق
عانى العراق من آثار الحصار الذي فرض عليه طيلة 13 عاماً، وتمثلت أبرز أوجه المعاناة في تراجع الرعاية الصحية. ويرصد تقرير للممثلية الدائمة للعراق لدى الأمم المتحدة في 2003، أكثر من مليون ونصف مليون حالة وفاة حتى 2002، منها أكثر من 700 ألف لأطفال بعمر أقل من 5 سنوات، وذلك بسبب الالتهاب الرئوي والإسهال وسوء التغذية. وعلى المستوى الاقتصادي، انخفض الناتج المحلي لأقل من 30%، إذ بلغ 38 مليار دولار في 1989، ليتهاوى إلى مستوى أقل من 10 مليارات دولار في السنوات التالية للحصار، كما انخفض متوسط دخل الفرد من 2304 دولارات إلى 938 دولاراً في 1990. ومن 1991 وحتى 1996، لم يتجاوز دخل الفرد أكثر من 507 دولارات سنوياً. وعلى مستوى ميزان المدفوعات، انتقل العراق من تسجيل 696 مليون دولار فائضاً في الموازنة عام 1989، إلى عجز ضخم بلغ ملياراً و232 مليون دولار في 1991، كما انهارت قيمة الدينار العراقي الذي كان يعادل 3.11 دولارات، إلى سعر صرف تراوح ما بين 1500 و2000 دينار لكل دولار حتى 2003، وذلك بحسب تقرير لجهاز المخابرات الأمريكية CIA.النفط مقابل الغذاء
ولم يجد العراق منفذاً من الاختناق إلا في برنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي وضعه مجلس الأمن في قراره رقم 986 الصادر في 14 إبريل 1995، والذي سمح للدول باستيراد النفط من العراق، بمجموع عائد لا يتجاوز مليار دولار كل 90 يوماً، وذلك "اقتناعاً منه بضرورة توفير الاحتياجات الإنسانية للشعب العراقي، كإجراء مؤقت، إلى أن يفي العراق بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة". كان هذا البرنامج الذي بدأ تطبيقه مطلع 1996، بمثابة قبلة الحياة للعراق، لمنع تفاقم كارثة إنسانية كبرى، ومنذ بداية هذا العام ارتفع الناتج المحلي بشكل تدريجي، حتى اقترب من مستوى 35 مليار دولار في عام 2000.كوريا الشمالية
لدى بيونغ يانغ تاريخ طويل من فرض العقوبات الدولية عليها، والسبب الرئيسي في ذلك تجاربها النووية الخمس التي يرصدها تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، بداية من أكتوبر 2006، حتى سبتمبر 2016. كان الإجراء الأول من الولايات المتحدة تجاه تجربة 2006، مع حظر الصادرات العسكرية لبيونغ يانغ، ثم أصدر الكونغرس في 2016 تشريعاً يعاقب الأفراد الذين يستوردون أو يصدرون السلع وينقلون الأموال لكوريا الشمالية. وعلى المستوى الدولي، قام مجلس الأمن بإصدار أكثر من قرار يفرض المزيد من العقوبات على كوريا الشمالية بسبب تجاربها النووية، بداية من القرار رقم 1695 لعام 2006، والذي طالب بحظر بيع أي مواد أو سلع أو تكنولوجيا متعلقة ببرنامج كوريا الشمالية النووي، وحتى آخرها رقم 2356 في يونيو 2017، الذي فرض حظر على السفر وتجميد الأصول على قائمة جديدة تضم 14 مسؤولاً كورياً شمالياً.العقوبات لم تفلح
يتناول تقرير لموقع CNN Money الأسباب التي أدت لفشل العقوبات الموقعة على كوريا الشمالية لثنيها عن برنامجها النووي، ويرصدها في 5 مجالات رئيسية، أولها الأسلحة، حيث تفرض العقوبات حظراً على استيراد وتصدير السلاح من وإلى بيونغ يانغ. وتتحايل كوريا الشمالية على هذا الحظر عن طريق مجموعة من شركات الواجهة "Front Companies" والوسطاء الدوليين، ودفع قيمة السلاح نقداً أو بالذهب، بحسب تقرير للأمم المتحدة في مارس 2017. الأمر الثاني يتمثل في الفحم، الذي يُعتبر المصدر الرئيسي للعملة الصعبة لاقتصاد كوريا الشمالية، وقد منعت الأمم المتحدة استيراد الفحم والحديد والذهب والمعادن الأخرى من كوريا الشمالية، ولكن منفذ بيونغ يانغ لتصدير الفحم كان الصين، إلا أن الأخيرة أعلنت في فبراير الماضي وقف جميع واردات الفحم من كوريا الشمالية حتى نهاية 2017. المعاملات المصرفية أيضاً من الأمور المحظورة على الدولة النووية، إذ يحظر على الدول والشركات تقديم خدمات مالية لكوريا الشمالية، إلا أن تقرير الأمم المتحدة أكد استخدام بيونغ يانغ لشركات الواجهة كمنفذ لها للوصول للبنوك العالمية. ويخلص تقرير CNN إلى أن العقوبات ليست فعالة إلا بقدر استعداد الحكومات وقدرتها على تنفيذها، مضيفاً أن الأمم المتحدة ليست لديها وسائل مستقلة لتفعيل القيود، وكثيراً ما تفتقر العديد من الدول إلى الدافع السياسي للقيام بذلك.كوبا... الحصار الأطول في التاريخ
البداية كانت مع نجاح الثورة الكوبية عام 1959 بقيادة فيديل كاسترو، وقيام النظام الاشتراكي الجديد بتأميم الشركات الأمريكية في كوبا. منذ ذلك الحين تفجرت خلافات كبيرة بين الدولتين، كان المشهد الأبرز فيها حصاراً اقتصادياً استمر 55 عاماً، وهو الأطول في التاريخ الحديث.إجراءات الحصار
أول إجراءات الحصار الأمريكي على كوبا كانت في عام 1960، وتمثل في فرض الرئيس دوايت أيزنهاور عقوبات على الواردات من كوبا، وعلى رأسها واردات قصب السكر، وتبعها فرض حظر على الصادرات إليها، باستثناء المواد الطبية والغذاء. وفي 1962، فرض الرئيس جون كينيدي حظرا تجارياً كاملاً على كوبا، بموجب قانوني المساعدة الخارجية وتصنيف التعريفات الجمركية، كما تم فرض حظر بحري على الدولة الاشتراكية، ومُنعت سفن البضائع من الوصول إليها. كما فرضت لوائح مراقبة الأصول الكوبية عام 1963 حظراً على جميع المعاملات المالية مع كوبا، وتم تجميد أصولها في الولايات المتحدة، ووضعت قيود على تنقل الأفراد بين البلدين.آثار الحصار
عانى الاقتصاد الكوبي كثيراً منذ بداية فرض الحصار الأمريكي على البلاد، وتكبد خسائر مالية قدرتها الحكومة الكوبية بـ1066 مليار دولار، بالإضافة إلى 245 مليون دولار إجمالي الأموال الكوبية المجمدة في الولايات المتحدة حتى 2011، وفقاً لما ذكره تقرير الدورة السابعة والستين للأمم المتحدة عام 2012. وتوضح دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي عام 2011، الأضرار التي لحقت بكوبا منذ بداية تطبيق الحصار، إذ أدى غياب قطع الغيار إلى خروج ربع الحافلات عن العمل في أواخر 1961، وتعطل نصف مقطورات الركاب في القطارات عام 1962.وأوضحت الدراسة أن 70% من الواردات الكوبية كانت أمريكية حتى عام 1958، ولكنها انخفضت إلى 4% فقط منذ 1961، وكانت الولايات المتحدة تمثل 15% من إجمالي التجارة الكوبية مع الدول غير الاشتراكية، بما يعادل 50 مليون دولار سنوياً، لتنتهي هذه التعاملات بسبب الحصار الأمريكي. وكان قطاع الرعاية الصحية من أكثر القطاعات تضرراً بسبب سياسات الحصار التي وضعت قيوداً على وصول الدواء إلى كوبا. وتقول منظمة الصحة العالمية إنه ترتب على الحصار أثر سلبي مضاعف في تكاليف المنتجات الصحية، إذ تضطر كوبا إلى شراء الأدوية والمعدات الطبية من أسواق بعيدة، الأمر الذي يزيد من تكاليفها. وأوضحت بعثة لتقصي الحقائق أرسلتها الرابطة الأمريكية للصحة العالمية الأمريكية عام 1997، أن الحصار ساهم في سوء التغذية الذي أثر بشكل خاص على النساء والأطفال، وسوء نوعية المياه، وعدم الحصول على الأدوية واللوازم الطبية، والحد من تبادل المعلومات الطبية والعلمية بسبب القيود المفروضة على السفر. وقالت الرابطة إن "كارثة إنسانية تم تجنبها في كوبا فقط لأن الحكومة الكوبية حافظت على مستوى عال من الدعم المالي لميزانية نظام الرعاية الصحية المصممة لتقديم الرعاية الأولية والوقائية للجميع"، وفقاً لتقرير منظمة العفو الدولية عام 2009 عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية للحصار الأمريكي على كوبا.تفاصيل الحصار الأطول في التاريخ (كوبا) والحصار الأشرس في التاريخ (العراق)...
كيف واجه الكوبيون الحصار؟
على المستوى الدبلوماسي، رفض الحصار الأمريكي على كوبا عدد كبير من الدول، خاصة في السنوات الأخيرة، حيث تتبني الجمعية العامة للأمم المتحدة سنوياً منذ 26 عاماً قرارات تطالب بإنهاء الحصار على هافانا، كان آخرها في أكتوبر 2016، في قرار بأغلبية 191 صوتاً، وقد امتنعت أميركا عن التصويت عليه. على المستوى الاقتصادي، مثلت مساعدات الاتحاد السوفياتي الركيزة الأساسية لصمود كوبا، وبدأت موسكو في يد مد العون لهافانا منذ 1960، بتوقيع اتفاقيات بين البلدين تقضي باستيراد السكر من كوبا، وتزويدها بالنفط الخام. وقدرت دراسة معهد بيترسون حجم المساعدات السوفياتية لهافانا لمواجهة الآثار السلبية للحصار بـ3115 مليون دولار من 1961 حتى انهيار الاتحاد في أوائل التسعينيات. كذلك اعتمدت كوبا على التصنيع الداخلي، رغم افتقارها للتكنولوجيا الحديثة، وحاولت دائماً إيجاد بدائل محلية للاحتياجات الأساسية للمواطنين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...