بـ23 ألف عامل واستثمارات بمليارات الدولارات... ماذا تفعل الصين في ليبيا؟

بـ23 ألف عامل واستثمارات بمليارات الدولارات... ماذا تفعل الصين في ليبيا؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

السبت 20 ديسمبر 202511 دقيقة للقراءة

على مدار العقد الماضي، عززت الصين حضورها في شمال إفريقيا بشكل مطرد، مع بروز ليبيا كمحور رئيسي لطموحات بكين المتنامية. وفي إطار مبادرة "الحزام والطريق"، تسعى الصين إلى تسريع استثماراتها متعددة القطاعات في الطاقة والبنية التحتية والخدمات اللوجستية، مستفيدةً من الفراغ الإستراتيجي وتفكّك المشهد السياسي المحلي، بما يعزز نفوذها ويؤسس لوجود طويل الأمد في منطقة حيوية تربط بين إفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط.

مساحة واعدة

أعادت الصين فتح سفارتها في طرابلس، في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، وذلك بعد أن أعلنت في أيار/ مايو 2016، تعليق عمل السفارة في ليبيا بسبب تفاقم الصراعات في البلاد والاكتفاء بتقديم الخدمات من خارج ليبيا.

أكد رئيس اللجنة الليبية-الصينية العليا للتعاون، عبد المجيد مليقطة، أنّ إعادة فتح السفارة تمثّل خطوةً مهمةً في تعزيز العلاقات بين البلدين، ولا سيّما في مجالات الاقتصاد والاستثمار والتجارة، وإحياء المشاريع الاستثمارية المتوقفة منذ عام 2011، بسبب العقود غير المسدّدة، فضلاً عن تسهيل إجراءات السفر بين البلدين.

الغرب الليبي مرتبط باتفاقات مع القوى الأوروبية وتركيا والولايات المتحدة، ما يقلل من فرص الصين في التواجد هناك، وهو ما دفعها إلى التوجه نحو شرق البلاد في محاولة لترسيخ نفوذها في شمال إفريقيا

من جهته، يرى الباحث السياسي الليبي أحمد عرابي، في تصريحه لرصيف22، أنّ الصين تعود إلى ليبيا وسط نفوذ اقتصادي متزايد وسباق جديد على إعادة الإعمار. ولا تبدو خطوة عودة السفارة الصينية إلى العاصمة الليبية وافتتاح أبوابها مجدداً بعد نحو عقد من الزمن، مجرد إجراء دبلوماسي طبيعي، بل تحمل مؤشراً واضحاً على بدء مرحلة جديدة من التواجد الصيني داخل البلاد، ضمن سياستها في شمال إفريقيا.

ويضيف عرابي أنه، وبرغم التعامل الرسمي مع الحدث بوصفه عودةً تقنيةً، فإنه يعكس انتقال بكين من الحضور الهامشي إلى تموضعٍ منظم تتقاطع فيه المصالح الليبية الباحثة عن شريك اقتصادي موثوق مع الحسابات الصينية التي ترى في ليبيا مساحةً واعدةً لم يُستثمر فيها بعد ضمن مشروعها التوسعي العالمي.

ويرى المحلل السياسي الليبي إدريس عبد السلام، في حديثه إلى رصيف22، أنّ عودة السفارة الصينية إلى ليبيا خطوة مهمة، لكن لكي تكون هناك آفاق حقيقية للتعاون، لا بد من توفر الاستقرار في البلاد. فمع استمرار الانقسام السياسي والأزمة الاقتصادية، يصبح من الصعب ضمان تعاون مستمر بين البلدين ما لم تُحلّ الأزمة الليبية أولاً.

فوق خطوط الانقسام

لم يكن فتح السفارة هو البداية الفعلية للعودة الرسمية، إذ يشير تقرير لموقع إفريقا إنتليجنس، إلى أنّ عودة الصين الرسمية بدأت بعد لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ، مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية محمد المنفى، في أيلول/ سبتمبر 2024، خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي في بكين، حيث أبدت بكين اهتماماً بإحياء شراكاتها مع ليبيا بعد فترة من التراجع.

في تموز/ يوليو 2024، وقّع المدير العام لصندوق ليبيا للتنمية وإعادة الإعمار، بلقاسم خليفة حفتر، مذكرة تفاهم مع شركة Power China الصينية وشركة Future البرتغالية، لتنفيذ مشاريع إستراتيجية في بنغازي، شملت تطوير مطار بنينا الدولي وإنشاء المنطقة الحرة في المريسة.

تمنح طبرق وصولاً مباشراً إلى قناة السويس وشرق المتوسط وعمق إفريقيا، ما يجعلها نقطة ارتكاز رئيسية ضمن مسارات التجارة وسلاسل الإمداد التي تسعى بكين إلى تعزيزها في المنطقة.

ويتضمن الاتفاق بين الجانبين إنشاء محطات للطاقة الشمسية ومحطات لمعالجة المياه، بالإضافة إلى خط سكة حديد يربط بنغازي بمدينة المرج قرب الحدود المصرية، بما يربط شرق ليبيا بشكل مباشر بشبكات النقل الإقليمية.

كما وقّعت مجموعة السكك الحديدية الصينية (CRIG)، مذكرة تفاهم مع هيئة السكك الحديدية الليبية لإنشاء خط سكة حديد يمتد من بنغازي إلى مرسى مطروح المصرية عبر معبر مساعد الحدودي، بتكلفة تصل إلى 20 مليار دولار، ويستهدف فتح ممرات جنوبية نحو السودان وتشاد.

ومن خلال ذلك، تسعى الصين إلى بناء طريق تجاري متكامل رأسياً يتجاوز المعابر البحرية التقليدية، ويعزّز مكانتها في الأسواق الإفريقية الناشئة، مع استخدام ليبيا كبوابة قارية.

في أيار/ مايو 2023، تم إطلاق مشروع مترو بنغازي، من خلال اتفاقية بين الحكومة الليبية في الشرق والمجموعة الصينية BFI، ومجموعة السكك الحديدية الصينية، وشركة الاستشارات البريطانية Arup، بتمويل صيني يُقدَّر بـ30 مليار يورو. ويمتد مترو بنغازي على مساحة تُقدّر بـ64 ألف هكتار، ليربط بين وسط المدينة والضواحي الناشئة ومنطقة الجبل الأخضر. ومن المتوقع الانتهاء من المشروع بحلول عام 2032.

في السياق ذاته، أصدر وزير الاقتصاد والتجارة الليبي محمد الحويج، في حزيران/ يونيو 2024، توجيهاً بتفعيل الغرفة الليبية الصينية المشتركة بهدف تيسير العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين القطاع الخاص الليبي والصيني وتشجيع الاستثمارات الصينية في ليبيا.

كما أشار رئيس الوزراء الليبي في طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، خلال افتتاح المنتدى الاقتصادي الصيني-الليبي الأول في بكين في حزيران/ يونيو 2024، إلى وجود 23 ألف عامل صيني في ليبيا حالياً، بعد أن كان عددهم لا يتجاوز خمسة آلاف عامل خلال السنوات الماضية.

وقبل ثورة 2011، كانت 75 شركةً صينيةً تسيطر على 50 مشروعاً كبيراً في ليبيا، بقيمة تعاقدية تجاوزت 20 مليار دولار أمريكي، واضطرت الصين إلى إجلاء 35،860 مواطناً صينياً من البلاد.

ولتسهيل الاستثمارات الصينية، وافقت حكومة شرق ليبيا على إنشاء المصرف الليبي للطاقة والتعدين، في خطوة تعكس توجهاً نحو بناء أدوات مؤسسية تسمح بتوسيع الشراكات مع الصين. وينتظر المصرف حالياً موافقة مصرف ليبيا المركزي على تخصيص رمز سويفت لبدء المعاملات الدولية، ما سيجعله قناةً ماليةً رئيسية.

يوضح المحلل السياسي الليبي أحمد عرابي، أنّ الغرب الليبي مرتبط باتفاقات مع القوى الأوروبية وتركيا والولايات المتحدة، ما يقلل من فرص الصين في التواجد هناك، وهو ما دفعها إلى التوجه نحو شرق البلاد في محاولة لترسيخ نفوذها في شمال إفريقيا، في ظل وجود عوامل تمنحها زخماً أكبر.

ويشير تقرير إلى أنّ ما يجري اليوم ليس مجرد عودة تجارية عابرة، بل اختراق اقتصادي منظم تتحرك فيه الشركات الصينية على جبهتين: في الغرب عبر حكومة الدبيبة، وفي الشرق عبر صندوق إعمار برقة الذي يقوده بلقاسم حفتر. وهذه الازدواجية لا تمثّل مأزقاً بالنسبة للصين، بل ميزة، إذ تمكّنها من العمل فوق خطوط الانقسام.

في ظلّ حكومتين

توضح الدكتورة تمارا برو، المتخصصة في الشؤون الصينية، في حديثها إلى رصيف22، أن الصين عملت خلال السنوات الأخيرة على توسيع شبكة علاقاتها مع شمال إفريقيا، بالنظر إلى الموقع الجيوستراتيجي الذي تتمتع به المنطقة.

وتذكر برو، أنّ الصين ترى أنّ ليبيا تمثّل بوابتها نحو إفريقيا وأوروبا، في ظل منافسة بكين للممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي الذي انطلق عام 2023.

تضيف برو، أنّ حسابات عديدةً تدفع بكين إلى تعزيز حضورها في ليبيا، فالدور الصيني يبدأ من البعد الاقتصادي نظراً إلى أهمية موقع ليبيا في مبادرة "الحزام والطريق". من أبرز هذه الحسابات، خطة تحويل ميناء طبرق إلى موقع لوجستي وطاقة إقليمي ضخم، يتضمن تطوير بنى تحتية ومصفاة نفط عملاقة بقيمة 10 مليارات دولار، قادرة على معالجة 500 ألف برميل نفط يومياً، بالإضافة إلى ربطه بخطوط سكك حديدية.

وتقع مدينة طبرق في شرق ليبيا، على بُعد نحو 400 كيلومتر فقط من جزيرة كريت وجنوب أوروبا. ولا يُعدّ مشروع المصفاة المزمعة إقامته هناك مشروعاً منفصلاً، إذ تشير تقارير إلى أنّ الصين تنظر إلى طبرق على أنها مركز لوجستي متكامل يضمّ مرافق لتخزين الوقود، ومحطات لإعادة الشحن، ومستودعات إمداد تربط بين النقل البحري والبري.

ويمنح الموقع الجغرافي الفريد للمدينة وصولاً مباشراً إلى قناة السويس وشرق البحر المتوسط وعمق القارة الإفريقية، ما يجعلها نقطة ارتكاز رئيسية في شبكة متشابكة من مسارات التجارة وسلاسل الإمداد التي تسعى بكين إلى تعزيزها في المنطقة.

تشير الدكتورة تمارا برو، إلى أن الصين معروفة بعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول، وابتعادها عن البيئات غير المستقرة أمنياً، وأن دخولها مجدداً إلى ليبيا جاء بعد دراسة مستفيضة خلصت إلى إمكانية الانخراط في شرق ليبيا، ولكن بشكل حذر.

ثمة قلق غربي من أن تقوم الصين باستغلال تدخّلها الاقتصادي في التجسس على الدول الأوروبية وحلف الناتو، وخوف من إنشائها قاعدةً عسكريةً في ليبيا

وتؤكد برو، أنّ الحضور الصيني لن يكون سهلاً، إذ يواجه عوائق عديدةً، خصوصاً في ظل وجود حكومتين، على الرغم من محاولة الصين الحفاظ على علاقات متوازنة مع الجانبين. وتوضح أنّ بكين لا يعنيها شكل الحكومة بقدر ما يعنيها الحفاظ على مصالحها.

وتذكر برو، أنّ الانقسام ظهر عندما أعلنت الهيئة العامة للاتصالات والمعلوماتية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، في آب/ أغسطس 2025، إيقاف جميع أنشطة شركة "هواوي" الصينية داخل ليبيا، متهمةً الشركة بمخالفة القوانين الوطنية والدولية واختراق سيادة الدولة، بعدما دخلت في تعاقدات وتعاون مع الحكومة في شرق ليبيا.

قلق "الناتو" وأوروبا

يشير تقرير صادر عن مركز تاسام، في آب/ أغسطس 2025 إلى أنّ الانسحاب النسبي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من الساحة الإفريقية فتح مجالاً واسعاً أمام الصين لإعادة تشكيل معادلات النفوذ في القارة، ولا سيّما في ليبيا.

التراجع المتعمد في الحضور الدبلوماسي والاقتصادي الأمريكي، ضمن إطار سياسة تقوم على تقليص الانخراط الخارجي والتركيز على الأولويات الداخلية، أوجد فراغاً إستراتيجياً استغلّته بكين لتعزيز حضورها في مناطق تشهد هشاشةً سياسيةً وصراعاً على الموارد، وفي مقدمتها ليبيا التي تمثّل نقطة تماس حيويةً بين آسيا وإفريقيا وأوروبا.

في السياق ذاته، يوضح مركز تاسام، أنّ تركيز الصين على إعادة هيكلة العلاقات مع مختلف الفصائل السياسية في ليبيا لا يهدف فقط إلى تأمين حضور اقتصادي طويل الأجل، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة هندسة المشهد السياسي الليبي بما يتوافق مع مقاربة بكين في بناء نفوذ مستدام داخل الدول الهشة.

ويرى التقرير ذاته أنّ هذه الإستراتيجية تُفضي إلى تقليص هامش نفوذ أوروبا الغربية، التي كانت تاريخياً الفاعل الخارجي الأكثر تأثيراً في ليبيا، عبر تفوّق النموذج الصيني القائم على الاستثمار والبنية التحتية على المقاربة الأوروبية التقليدية المبنية على الأدوات الدبلوماسية والضغط السياسي.

توضح برو، من ناحيةٍ أخرى، أنّ هناك قلقاً غربياً من أن تقوم الصين باستغلال تدخلها الاقتصادي في التجسس على الدول الأوروبية وحلف الناتو، بالإضافة إلى الخوف من إنشاء قاعدة عسكرية في ليبيا. فالإمكانات ذات الاستخدام المزدوج للبنية التحتية المتطورة (الموانئ والمطارات) تثير مخاوف حلف شمال الأطلسي بشأن التوسع البحري والمراقبة الصينية في البحر الأبيض المتوسط.

ويؤكد عرابي، أنه في حال نجاح الصين، تُعيد إستراتيجية بكين في ليبيا تشكيل سلاسل التوريد وتدفقات التجارة الأوراسية، مما يؤدي إلى تحولٍ في ميزان القوة الناعمة والنفوذ الإستراتيجي في شمال قارة إفريقيا، مع تداعيات عميقة على أمن الطاقة والاستقلالية الجيوسياسية لأوروبا لاحقاً.

جهود أوروبا المستمرة لتنويع مصادر الطاقة، خاصةً منذ الحرب الروسية الأوكرانية، جعلت القارة أكثر اعتماداً على مصادر بديلة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فإذا سيطرت بكين على مصفاة ضخمة في طبرق والبنية التحتية للميناء المرتبط بها، فسيكون لها نفوذ كبير على سلاسل التوريد المُغذّية لأوروبا.

ما يحدث في ليبيا ليس مجرد مسألة استثمار أو مشاريع بنية تحتية، بل بداية مرحلة جديدة من المنافسة الجيوسياسية في المتوسط، حيث يشكل حضور الصين عاملاً يعيد تشكيل موازين القوى الاقتصادية والأمنية، ويؤثر بشكل مباشر على أمن الطاقة الأوروبي والإستراتيجية الجيوسياسية للقارة. وعليه، تتحول ليبيا إلى ساحة اختبار لقدرة الصين على ترسيخ نفوذها في بيئة معقدة، ويكون نجاحها مؤشراً على نموذج جديد للتمدد الصيني في مناطق النزاعات والهشاشة السياسية حول العالم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image