غادر وفد سعودي - إماراتي عسكري مدينة عدن اليمنية (جنوبي البلاد) بعد ساعات من وصوله من دون الإعلان عن نتائج لقائه رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، وسط تداولات متباينة عن أهداف الزيارة ونتائجها تصدرتها قناة الحدث السعودية التي تحدثت عن ترتيبات لخروج قوات المجلس الانتقالي من حضرموت والمهرة، وهو ما نفته قناة عدن المستقلة الناطقة باسم الانتقالي الجنوبي، نقلاً عن مصدر في المجلس لم تسمّه، بينما اكتفت وكالة الأنباء الرسمية سبأ بالإشارة إلى أن الزيارة كانت لـ"قيادة القوات المشتركة لقوات تحالف دعم الشرعية".
والجمعة 12 كانون الأول/ ديسمبر 2025، اتجهت أنظار اليمنيين إلى مدينة عدن التي أعلنتها الحكومة المعترف بها دولياً عاصمةً مؤقتة للبلاد بعد سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014، هذه المرة بعد وصول وفد عسكري سعودي إماراتي، إثر سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي ميدانياً على محافظتَي حضرموت والمهرة (شرقي اليمن)، بعد مواجهات محدودة مع قوات المنطقة العسكرية الأولى في سيئون عاصمة وادي حضرموت، انتهت بالسيطرة على مقر المنطقة ومطار سيئون الإستراتيجي.
محاولات لـ"احتواء الموقف"… كيف قلبت التطورات في حضرموت والمهرة الأوضاع في اليمن لمصلحة الإمارات؟ وهل تقف السعودية مكتوفةً إزاء ما يحدث في المحافظة التي تعتبرها "مسألة أمن قومي" بالنسبة إليها؟
كذلك، أدّت هذه المواجهات إلى مقتل 32 جندياً وإصابة 45 آخرين، ليغدو هذا التطوّر الأبرز على الساحة اليمنية منذ إعلان الأمم المتحدة هدنة مؤقتة في نيسان/ أبريل 2022 بين الحكومة المعترف بها دولياً والحوثيين. لكنه تطوّر يحمل في طيّاته نزاعاً بين أطراف يفترض أنها تعمل تحت مظلّة المجلس المعلن عن تشكيله وقت الهدنة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي أدّى إلى هذه المواجهات؟ وما الجديد منذ "الهدنة" لتعود المواجهات العسكرية إلى الواجهة في اليمن؟ وإلامَ قد تُفضي هذه المواجهات؟
ما الذي حدث؟
يسيطر المجلس الانتقالي الجنوبي - الذي يتبنّى فكرة العودة إلى ما قبل إعلان الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية شمالاً وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية جنوباً في عام 1990 - على محافظات عدن، وأبين، ولحج، والضالع منذ آب/ أغسطس 2019، عقب المواجهات ضد ألوية الحماية الرئاسية التي انتهت بغارات إماراتية استهدفت ألوية عسكرية كانت في طريقها إلى عدن، لتنضم إلى القائمة تباعاً كل من سقطرى (في منتصف عام 2020) وشبوة (في عام 2022)، مع سيطرة غير معلنة على المكلا، عاصمة ساحل حضرموت.
هذه التطوّرات باتت بمثابة أمر واقع تتعامل معه الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وفق محوريّة التموضع الإقليمي الذي بقي رهيناً للتدخّلات السعودية والإماراتية، ولكل دولة منهما أذرعها السياسية والعسكرية في اليمن التي تحظى بدعمها مالياً وسياسياً وحتّى عسكرياً.
ويحظى المجلس الانتقالي الجنوبي بدعم الإمارات، وكان محافظ عدن الأسبق اللواء عيدروس الزبيدي قد أعلن تأسيسه في أيار/ مايو 2017، وذلك بعدما أقاله الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، ليصبح بعدها عضواً في المجلس الرئاسي الذي نقل هادي إليه كافة صلاحياته، ليتلقّى إثر ذلك اعترافاً ضمنياً وغطاءً يمنحه التحرّك في إطار منظومة القيادة المدعومة إقليمياً والمعترف بها دولياً. ورغم تمثيله رسمياً للمجلس الرئاسي إلا أن الزبيدي لم يخفِ رغبته في العودة إلى ما قبل عام 1990 - عام الوحدة اليمنية - والعمل على ذلك بشكل دائم.
لماذا حضرموت؟
تعد حضرموت كبرى محافظات اليمن من حيث المساحة، حيث تمثّل ما يقارب ثلث مساحة البلاد. كما أنها تتميّز بتنوّع جغرافي يجمع بين البحر والسهل والجبل. وإضافة إلى وجودها على الحدود بين اليمن والسعودية، فهي تضم أكبر حقول النفط في اليمن.
في عام 2013، أُعلن عن تشكيل حلف قبائل حضرموت الذي يتزعَّمه الشيخ القبلي عمرو بن حبريش الذي ينادي بحكمٍ ذاتي لحضرموت. حتى بعد تعيينه وكيلاً للمحافظة في عام 2016 بقرار جمهوري، استمر الرجل في ما يتبناه ووصل إلى حد تشكيل قوات عسكرية، معلناً رفضه لأية تحركات تجاه حضرموت من خارجها، وداعياً إلى ضرورة حماية المنشآت النفطية باعتبارها حقاً لحضرموت وأبنائها، وهو ما قام به الحلف عندما سيطرت وحدات من قوات حماية حضرموت التابعة للحلف على منشآت حقول نفط المسيلة أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2025.
وتصاعدت الأحداث بعدما طالب بن حبريش، الذي تربطه علاقات وثيقة بالسعودية، في وقت سابق من العام الجاري بحصة أكبر من عائدات النفط وخدمات أفضل لسكان المحافظة، فضلاً عن انتقاده علناً الإمارات، ومن ثمَّ سيطر مسلحون تابعون له على الحقول النفطية، مما أدى إلى تعطيل الإمدادات النفطية.
من الهدنة إلى فرض الأمر الواقع… المجلس الانتقالي الجنوبي يُحكم سيطرته على سيئون والمهرة، ويُعيد رسم خريطة أشبه بما قبل 1990، فكيف تهدّد عملية "المستقبل الواعد" وحدة مشروع مواجهة الحوثيين؟
ومطلع كانون الأول/ ديسمبر 2025، أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي عن عملية "المستقبل الواعد" لـ"تحرير وادي وصحراء حضرموت والمهرة من الهيمنة العسكرية" لما وصفها "جماعات الإخوان الإرهابية". وبعد المرور من هضبة حضرموت حيث تسيطر قوات حلف حضرموت دون مواجهات، أعلنت قوات المجلس الانتقالي سيطرتها على مقر المنطقة العسكرية الأولى ومطار سيئون، لتكتمل سيطرتها على وادي حضرموت، قبل أن تتجه نحو السيطرة على محافظة المهرة بمحاذاة سلطنة عمان، باسطةً نفوذها على أراضي "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" قبل عام 1990.
حسبة جديدة؟
في غضون ذلك، تحظى الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً بدعم سياسي سعودي مطلق، وتشارك الإمارات في منح هذه الحكومة غطاءً دولياً إلى جانب السعودية، إلا أن أبو ظبي تدعم مكونات ذات توجهات مختلفة على الرغم من أنها تنضوي تحت الحكومة وتحظى بتمثيل فيها وفي مجلس القيادة الرئاسي، كالمجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الزبيدي العضو في مجلس القيادة، والذي يتزعَّم القوات المسلحة الجنوبية التي إلى جانب مواجهتها للحوثيين تدعم توجّه الانتقالي في العودة إلى ما قبل عام 1990.
وفي عضوية مجلس القيادة والمجلس الانتقالي يتواجد عبد الرحمن المحرمي قائد ألوية العمالقة، أما نجل شقيق الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح، طارق صالح، فهو عضو في مجلس القيادة الرئاسي وقائد قوات المقاومة الوطنية في الساحل الغربي، وهذه التشكيلات العسكرية تحظى بدعم إماراتي واسع، مع سيطرة شبه كاملة على السواحل اليمنية والمنافذ البحرية والجوية للبلاد.
وينظر خبراء ومحللون إلى التطوّرات الحالية على أنها تمنح الإمارات حضوراً كاملاً في المشهد اليمني على حساب السعودية التي تصدّرت منذ إطلاق "عاصفة الحزم" وتدخلها كمتزعّمة للتحالف العربي، وهي ذاتها التي تبلور منها مجلس القيادة الرئاسي في نيسان/ أبريل 2022، برئاسة رشاد العليمي وعضوية سبعة آخرين، لتطوى بذلك صفحة الرئيس هادي مع العمل على تهدئة المواجهات العسكرية، واقتراح خارطة طريق لحل دائم في البلاد، وبدأ ذلك فعلياً بتبادل الزيارات بين الرياض وصنعاء. لكن كل شيء توقّف بحلول السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ودخول الحوثيين على خط المواجهة المباشرة مع إسرائيل، وما ترتّب على ذلك من هجمات عنيفة على البلاد.
وتعتبر الباحثة الأولى في مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، ميساء شجاع الدين، ما حدث "تحولاً كبيراً في موازين القوى لمصلحة الإمارات، وهي وضعية غير مريحة للسعودية التي لن تتقبّلها وستسعى إلى تغييرها بشكلٍ أو بآخر إذ لن تقبل فكرة سيطرة الإمارات على جزء كبير من حدودها الجنوبية". علناً، تتبنّى السعودية والإمارات نهجاً حذراً ولا تُظهران عداءً أو تضارباً في المواقف إزاء التطوّرات في اليمن. لكن كثيرين يعتبرون أن التطورات ليست إلا نتاج تضارب في المصالح ومحاولات بسط النفوذ للبلدين.
ويعتكف اللواء السعودي محمد القحطاني، الذي ترأّس وفد المملكة إلى حضرموت عقب الأحداث الأخيرة، إلى اليوم في المحافظة حيث يتنقّل بين عاصمتيّ الساحل والوادي، ويعقد لقاءات مع قيادات السلطات المحلية والوجاهات الاجتماعية والمشايخ القبليين، ليؤكد موقف السعودية الملتزم بخروج كافة القوات التي قَدمت من خارج المحافظة ذات البعد الإستراتيجي للسعودية بل والتي تعتبرها "مسألة أمن قومي" لها.
ويوم السبت 13 كانون الأول/ ديسمبر 2025، أكد شهود عيان، لرصيف22، أن عدداً كبيراً من قوات المجلس الانتقالي انسحبت من وادي حضرموت من دون الإعلان عن ذلك بشكل رسمي، في ما يبدو وكأنه يحدث ضمن تفاهمات مع السعودية.
لكن المجلس الانتقالي الجنوبي عبر وسائله الإعلامية، وعلى لسان المتحدث باسمه أنور التميمي، يناقض هذه السردية، بالتأكيد على أن ما قام به في حضرموت والمهرة هو جزء من عمله ضمن "منظومة الحكومة الشرعية"، ويهدف إلى وقف خطوط التهريب والإمداد للحوثيين، وأن القوات الموجودة هي من أبناء حضرموت قَدمت من الساحل إلى الوادي والصحراء ضمن العملية التي أُعلن عنها.
وفي حديثه لصحيفة فرانكفورت الألمانية، يقول خبير الشؤون اليمنية في المعهد الملكي للشؤون الدولية تشاتام هاوس، فارع المسلمي: "يُقدّم الحوثيون أنفسهم علناً بصفتهم الحامي الأخير لوحدة الجمهورية اليمنية. لكنني على يقين تام بوجود قلق داخل القيادة العسكرية. فهناك الآن في الجنوب قيادة موحّدة. إضافة إلى ذلك، كانت بعض المناطق في جنوب اليمن بمثابة نقاط مريحة لتهريب الأسلحة والبشر. يتبنّى المجلس الانتقالي الجنوبي والإمارات نهجاً أكثر صرامة هناك".
فرصة أخيرة
لا ينظر البعض لما حدث على أنه يخدم وحدة مشروع مواجهة الحوثيين الذي تحجّم أخيراً في ظل الحديث عن خارطة طريق للسلام في اليمن، وعلى رأسهم رئيس مجلس القيادة اليمني الرئاسي، رشاد العليمي، الذي غادر عدن فور اندلاع الأحداث الأخيرة مع رئيس حكومته، سالم بن بريك، ولحقه عدد من الوزراء إلى العاصمة السعودية الرياض، يتمسّك برفض ما يصفها بـ"إجراءات أحادية" من المجلس الانتقالي الجنوبي، خارج الاصطفاف الوطني، معتبراً أنها "تُضعف مؤسسات الدولة، وتقوّض الشراكة القائمة بين القوى الوطنية المناهضة لمشروع المليشيات الحوثية الإرهابية"، ومطالباً بانسحاب القوات من حضرموت والمهرة.
اليمن أمام "حسبة جديدة"... إلى أي مدى ينسف التصعيد العسكري في حضرموت والمهرة التفاهمات السياسية ويعيد ترتيب الأولويات في الصراع اليمني؟
وفي قراءة موائمة، بدا للناشط الشبابي رامز الشارحي أن الرياض كانت تعمل على احتواء الموقف، والتعامل معه وفق ما سيحدث بعد التحرّكات الإقليمية والدولية في المنطقة من خلال إعادة انتشار في مسرح العمليات لقوات تدعمها مثل "درع الوطن"، وربما قد تكون ذهبت إلى أبعد من ذلك من خلال إعادة تشكيل مجلس القيادة وهو الأمر الذي دفع المجلس الانتقالي إلى القيام بـ"عملية استباقية".
في الأثناء، ترى ميساء شجاع أن "فرص السلام والتسوية باتت مؤجلة حتى إشعار آخر، لأن المجلس الانتقالي له أجندته الخاصة والمختلفة مع خارطة الطريق التي كانت السعودية تعمل عليها مع الحوثيين بشكل منفرد، ولا أحد يتكهّن بما سيؤول إليه الوضع"، معتبرةً ما جرى "تحولاً كبيراً وستكون له تداعياته الكبيرة على الصراع في اليمن".
وسط هذه التحرّكات، لم يُكشف عن نتائج اجتماع الزبيدي مع الوفد العسكري السعودي الإماراتي، في حين تستمر اجتماعات موفدين سعوديين مع الوجهاء والأعيان والسلطة المحلية في حضرموت، ويبقى اليمنيون ينتظرون ويأملون في حلول نهائية وجذرية لحرب تجاوز عمرها العشر سنوات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



