شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
حضارة دار الإسلام... صراع مفاهيم وإيديولوجيات

حضارة دار الإسلام... صراع مفاهيم وإيديولوجيات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 2 يوليو 202002:42 م

ثمة إشكالية مفاهيمية بدأت أوائل القرن العشرين بين المؤرخين، سواء العرب أو الأوروبيين، حول مصطلح الحضارة في عصور عالم الإسلام، وتمحورت التساؤلات حول الماهية الإيديولوجية للحضارة، هل هي حضارة عربية، أم إسلامية، أم حضارة عربية إسلامية؟

الحقيقة أن تلك المفاهيم الخاضعة للتنوع الإيديولوجي الإثني– الديني، كانت خاضعة لواقع سياسي عالمي، وهو عالمية سيادة الإسلام كدين، بانعكاساته الفكرية والثقافية المختلفة، علاوة على أن العنصر العربي كان هو الأساس الإثني لبناء تلك الحضارة، على اعتبار أن عرب شبه الجزيرة العربية كانوا أساس الانطلاقة نحو الشرق والغرب، فيما اعتُبر أنه حالة انكار تاريخي لأجناس أمم أخرى صاحبة حضارات قديمة عتيدة، مثل بلاد العراق القديم وفينيقيا شرقاً، واليونان والرومان غرباً.

تشكل مفهوم حضارة دار الإسلام في واقعه المادي التاريخي، أثر العنصر العربي فيه، وكذلك التشكيلات الاجتماعية المختلفة التي انصهرت داخل مجتمعات العرب. معاً ساهمت في بناء الحضارة الإسلامية

أما مفهوم الحضارة الإسلامية فهو منطوٍ فقط على فضل الدين الإسلامي في بناء ذلك الصرح الكبير الذي شهدته العصور الوسطى، ومن ثم، لا فضل لأي ملل أو أديان أخرى ساهمت بقدر كبير جداً في تشكيل سمات ومعالم تلك الحضارة. ليصير هذا المفهوم مفارقاً، لا تاريخياً ومتعالياً على معطيات الواقع التاريخي بمكوناته السوسيو– اقتصادية والسوسيو- سياسية، فإذا كان كل من آدم ميتز، كلود كاهن، فلهاوزن، جولدتسيهر، بتروشوفسكي، موريس لومبار، جوستاف لوبون، بارتولد، كراتشكوفسكي وتوينبي، قد قدموا مجهوداتهم العظيمة لإبراز إنتاج تلك الحضارة، بمختلف المناهج التحليلية، تحت مفاهيم الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الإسلامية، فإن المؤرخ والمفكر الكبير محمود إسماعيل، قد صك المفهوم التاريخي "حضارة دار الإسلام".

مفهوم حضارة دار الإسلام، هو مفهوم تشكل في واقعه المادي التاريخي، فإذا كان العنصر العربي هو أساس الانطلاقة العسكرية والسياسية من صحراء الجزيرة العربية تحت مظلة الدين الإسلامي، فإن التشكيلات الاجتماعية المختلفة التي انصهرت داخل المجتمعات التي سيطر عليها العرب بفعل الغزو، قد ساهمت بشكل كبير جداً في صياغة وبناء ذلك الكيان المسمى بالحضارة الإسلامية، بمعنى أدق، إن مساهمة الفرس والترك واليهود والمسيحيين والصابئة والمجوس لا تقل عن مساهمة العرب، بل ربما تجاوزتها بفعل الانفتاح على الثقافات الخارجية والنقل منها والتأثر بأفكارها وثقافتها، لذا كان مفهوم "دار الإسلام" له دلالة اجتماعية وثقافية أشمل وأوسع، مستوعباً لجل الأفكار والثقافات داخل الدار الذي يخضع لإيديولوجيا دينية تتمثل في الإسلام.

تاريخ عقيدة أم عقيدة تاريخ؟ تساؤل في محيط الوعي

نتجاوز تلك الاشكالية المفاهيمية إلى إشكالية منهجية تخص تناول مفهوم حضارة دار الإسلام، من خلال طرح تساؤل جدير بالإجابة عليه: هل تاريخ الحضارة تاريخ عقيدة أم عقيدة تاريخ؟ يبدو التساؤل متعلقاً فقط بنواحي منهجية تتناول نصاً تاريخياً في فترة زمنية متشابكة مثل العصور الوسطى، لكنه في الحقيقة ذو صلة بالوعي، نعم بتشكيل الوعي وتحديد بوصلته، سواء الرجعية أم التقدمية، صراع بين الإيديولوجيا الدينية الأصولية والعلمانية، صراع بين استهداف تزييف الوعي وإيقاع العقول في ضبابية وغياهب الأصولية من جهة، وعقلنة النص وزيادة الوعي وإدراك الحداثة بمفهومها التاريخي، من جهة أخرى.

كانت البداية من منتصف القرن الثاني الهجري الذي شهد عملية التدوين التاريخي، كانت عملية التدوين على أنماط تدوين السيرة النبوية والأحاديث والمغازي عن طريق السند والعنعنة، ليكتسب تدوين التاريخ في بداياته صيغة دينية، تلك الصيغة التي كانت ردة فعل للواقع السوسيو- سياسي، المتمثل في نظام الخلافة الإسلامية المؤسس على أساس ديني، وهو خلافة الرسول في حكم الأمة الإسلامية، فقد غزا المسلمون الأوائل مع الرسول محمد بدافع نصرة الإسلام كعقيدة في مواجهة أعدائه، ثم بعد وفاة الرسول أخذ خليفته الأول، أبو بكر الصديق، على عاتقه مواصلة نشر الدين خارج شبه الجزيرة العربية تحت زعم الفتوحات.

ومن بعده عمر بن الخطاب، الذي استطاع غزو أراضي أكبر إمبراطوريتين تاريخيتين هما الفارسية والرومانية، ثم عثمان بن عفان الذي توسع ناحية الغرب في شمال إفريقيا. بعد انقضاء العصر الراشدي ومجيء العصر الأموي، توسع الغزو من بلاد ما وراء النهر وبلاد السند شرقاً إلى بلاد المغرب والأندلس غرباً، إلى أن جاء العباسيون الذين استكملوا الفتوحات حتى ترامت واتسعت رقعة الدولة الإسلامية إدارياً وسياسياً، من الصين والهند شرقاً إلى شبه الجزيرة الإيبيرية غرباً، تحت مظلة الإيديولوجيا الدينية الإسلامية.

هنا أستعير مقولة مهدي عامل العظيمة: "إن أول فعل للنقد هو إسقاط الحصانة عن النص"، للتحليل المنهجي التاريخي لفترة زمنية معقدة ومتشابكة على جميع الأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وهو المسمى بالتراث الحضاري للإسلام، لكننا هنا لسنا بصدد مناقشة وتحليل أسباب تقدم حضارة دار الإسلام أو أسباب نكوصها أو انغماسها في التخلف والرجعية، لكننا نناقش هل نحن نحلل نصاً تاريخياً بشري الصنع أم نصاً دينياً مقدساً سماوي الصنع؟

الأمر الذي يدفع في اتجاه دراسة و تحليل بنى الواقع المكونة للفكر، تلك البنى التي تشكل في وسطها النص التاريخي، لذلك كان النقد هو أول خطوة لإسقاط الحصانة الوهمية الزائفة عن النص، فكان اتّباع منهج الشك الديكارتي خطوة أولى للنقد، حتى يمكن الوصول إلى حقيقة ما جرى في عصور حضارة دار الإسلام. فكانت الأدوات التي تمثلت بالنهاية في المادية الجدلية التاريخية التي تكشف النقاب عن الواقع التاريخي المتناقض المتطور في منحنى حلزوني، ليس منحنى خطي صاعد لكل الأحداث، في سيرورته وصيرورته.

حتى الدين نفسه هو تاريخ واقع بشري معاش على الأرض، قد جرى نسج أواصره وروابطه وتفاصيله في محيط صحراء الجزيرة العربية، المليء بالتشابكات الاجتماعية والاقتصادية، محيط قوامه السياسي نظام قبلي، شهد صراعات عسكرية للسيطرة على طرق التجارة، واحتكار السلع القادمة من سواحل المحيط الهندي إلى الشام والعكس حيناً، والمهادنات والأحلاف القبلية العسكرية الداخلية والخارجية حيناً آخر. ففي ظل هذا الوعاء التاريخي نشأ الدين الإسلامي بعقيدته الجامدة الرامية إلى السيطرة والنفوذ، منذ هجرة الرسول وأصحابه إلى يثرب، خصوصاً بعد أن قويت شوكته هو والذين آمنوا معه، حتى نشوء الكيانات السياسية الواسعة المصطلح عليها بالخلافة الإسلامية.

دراسة تاريخ طويل وشائك مثل حضارة دار الإسلام التي استمرت ما يقرب من سبعة قرون، هي دراسة لبنى سوسيو- اقتصادية مؤسِسة لأنظمة حكم وإدارة وعلوم وفنون وثقافة، لا تستلزم مطلقاً دمغها بالقداسة أو إعطاءها صفة التقديس. فإذا وُجه النقد لتلك النصوص التاريخية، فإن ذلك يُعد نقداً للدين نفسه كعقيدة، وبالتالي تقع في شرك الزندقة والتكفير، لذا أتى النقد في عملية  مركبة تاريخياً، استتبعه تحليل بنيوي وتفكيكي للأساطير المروية والمنسوجة في خيال المؤرخين الإخباريين الأصوليين، ما يدفع في المقابل مؤرخ الفكر إلى عقلنة النص وإخضاعه للفحص المجهري، ليكون عقلاً كاشفاً عن المسكوت عنه واللا مفكر فيه، ما ينتج تأويلات جديدة وقراءات جديدة للتراث برمته .

إن دراسة تاريخ طويل وشائك مثل حضارة دار الإسلام هي دراسة لبنى سوسيو- اقتصادية مؤسِسة لأنظمة حكم وإدارة وعلوم وفنون وثقافة، لا تستلزم مطلقاً إعطاءها صفة التقديس ولا يعد نقد نصها نقداً لعقيدة الإسلام

نسج التاريخ في مغازل الأصوليين 

أما الأصوليون الحاليون الذين بدأوا يمتشقون حسام ما أطلق عليه "أسلمة المعارف"، أي جعل النص النصوص المعرفية هي نصوص دينية تخضع لآليات الفكر الإسلامي، ما يترتب عليه تحويل علم التاريخ من مجال حيوي ديناميكي جدلي بشري إلى دوغمائية ستاتيكية، لا مجال فيها لإعمال العقل والنقد، حتى تسهل، حسب جرامشي، "الهيمنة الثقافية"، وهذا له علاقة بنيوية ووظيفية بالطبقة الحاكمة المسيطرة وأهدافها، ليعلو صوت الرجعية والتدجين على صوت التقدمية والتثوير.

حيث تم إدخال النص في غياهب اللاهوت ليطغى صوت الشوفينية الدينية بنزعاتها المغيبة العنيفة ضد العقل والوعي، ليصبح تاريخ حضارة كبيرة، مثل حضارة دار الإسلام، هو تاريخ الرسالة السماوية والرسول وأصحابه ونظام الخلافة الذي لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه قط، بل تجاوزوا ذلك إلى البيوريتانية والتطهر الأخلاقي المثالي، بحيث تم غزل ثياب الحضارة البشرية في مغازل الدين كعقيدة، لتظهر ثياب ناصعة البياض، لم يصبها دنس قط.

مثال ذلك ما تم في بيعة سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة المسلمين، فالأمر محض تاريخي، وهو صراع على السلطة تدخلت فيه عوامل حيازة الثروة والانتماء القبلي، لتلعب دوراً مهماً في تشكيل نظام الخلافة كنظام سياسي جديد على المسلمين، إلا أن الأصوليين يصورون الأمر على أنه فضيلة ويجب عدم الحديث عن صحابة الرسول بهذا الشكل، فأنت بذلك تتهجم على الدين وناشريه والذين دافعوا عنه، وكذلك قضية الصراع بين علي ومعاوية، وقضية علي ضد حلف عائشة، زوجة الرسول، وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام، ومن ثم يخرج المنتوج النهائي:نص إسلامي أخرس، لا يشي بما خلفه من بنى اجتماعية اقتصادية كانت حاضنة للنص التاريخي.

ماذا ينتج عن "أسلمة المعارف" سوى نص إسلامي أخرس، لا يشي بما خلفه من بنى اجتماعية اقتصادية كانت حاضنة للنص التاريخي؟

هنا يتدخل المؤرخ المفكّر بشرح المادية الجدلية التاريخية، ليحلل ويفكك بنى النصوص التاريخية، ويتعامل مع كيان الحضارة على أنه مخلوق بشري تاريخي وليس المقدس السماوي. تلك هي عقيدة التاريخ، هذه العقيدة التي تشك ثم تفكك ثم تحلل ثم تستنبط، فتصدر الأحكام والنتائج، لتنزع عن ذلك الكيان الحضاري الغطاء اللاهوتي وتلبسه العباءة البشرية الخالصة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image