لم تكن كوكاكولا تتوقع أن يتحول إعلانها الموسمي الجديد، Holidays Are Coming، إلى نقاش عام حول مستقبل الإعلانات نفسها.
هذا الإعلان الذي أنتجته الشركة بالكامل من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، بدا كأنه أول امتحان فعلي لمدى استعداد الجمهور لتقبل محتوى تجاري لا يمر عبر يدٍ بشرية واحدة.
ورغم أن كوكاكولا قدمت خطوة مشابهة العام الماضي، فإن ردود الفعل هذه المرة جاءت أعنف، بحيث وصفت تعليقات كثيرة على يوتيوب الإعلان بأنه "بارد"، "مصطنع"، أو "يفتقد لروح كوكاكولا"، وقد كتب أحدهم: "اشتقت للإنترنت قبل الذكاء الاصطناعي"، وآخر قال ساخراً: "لم أرغب في شرب بيبسي في حياتي إلى هذا الحد".
وسط هذه الموجة، صرّحت الشركة لـ CNN قائلة إنها ترى الذكاء الاصطناعي "شريكاً إبداعياً"، وإن "الدفء والإنسانية" سيبقيان من صنع البشر، لكن المسألة لم تعد في يد كوكاكولا وحدها، لأنها تضع العلامات التجارية كلها أمام سؤال أكبر: ماذا يحصل عندما يصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً طبيعياً من صناعة الإعلان، بينما الجمهور غير جاهز تماماً لذلك؟
لماذا يقلق الناس من إعلان مصنوع بالكامل بالذكاء الاصطناعي؟
عندما عبّر الناس عن انزعاجهم من إعلان كوكاكولا، لم يكن اعتراضهم تقنياً بقدر ما كان شعوراً غريزياً بأن شيئاً ما في العلاقة بين الإنسان والإعلان تغير جذرياً، فالقلق من محتوى مصنوع بالذكاء الاصطناعي لا يأتي من "الخوارزميات" بحدّ ذاتها، بل من انعكاساتها على الثقافة والبشر والمهن وعلى مفهوم "الصدق" في صناعة الإعلان.
هذا القلق ليس جديداً، لكنه أصبح ملموساً أكثر عندما ظهر في إعلان لعلامة تجارية مرتبطة بذكريات جماعية، لحظات احتفالية وعاطفة عابرة للأجيال.
وصفت تعليقات كثيرة على يوتيوب الإعلان بأنه "بارد"، "مصطنع"، أو "يفتقد لروح كوكاكولا"، وقد كتب أحدهم: "اشتقت للإنترنت قبل الذكاء الاصطناعي"، وآخر قال ساخراً: "لم أرغب في شرب بيبسي في حياتي إلى هذا الحد"
ولعلّ أول سبب لهذا القلق هو فقدان اللمسة الإنسانية، ففي الإعلانات، هناك تفاصيل لا يمكن للذكاء الاصطناعي تكرارها بسهولة: نظرة طفل حقيقية، حركة يد تلقائية، ملمس ضوء طبيعي على وجه شخص يضحك. مشهدية تتراكم فيها خبرة المصور ورؤية المخرج وذوق فريق الإنتاج. وعليه، عندما استبدلت كوكاكولا كل هذا بمولّدٍ بصري، شعر الناس بأن الإعلان "مُصنّع" أكثر مما يجب، وبأن العاطفة لم تعد جزءاً من العملية.
وحتى لو حاول الذكاء الاصطناعي محاكاة المشاعر، تبقى هناك فجوة بين ما هو حيّ وما هو مُولَّد، وهذه الفجوة تترجم غالباً بشعور غامض يسمى في علم النفس uncanny valley، أي حين يشبه الشيء الإنسان، لكن ليس تماماً.
أما السبب الثاني فهو الخوف من الإزاحة المهنية، إذ عندما يرى العاملون في المجال (كتّاب السيناريو، المصورون، المخرجون، أو حتى العاملون في الاستوديو)، إعلاناً موسمياً ضخماً أُنتج من دون الاستعانة بأي منهم، يشعرون بأن المجال الذي عرفوه ينهار أمام أعينهم. ليست المسألة هنا مجرد "أداة جديدة" بل تحوّل يهدد البنية التقليدية للإبداع، وهذا ليس قلقاً محصوراً بالعاملين فقط؛ فالجمهور نفسه يشعر بأن ما يشاهده لم يعد نتيجة جهد بشري، ما يقلل من قيمة العمل نفسه في نظره.
السبب الثالث هو قلق ثقافي من سرعة التغير. فالذكاء الاصطناعي يتقدم بسرعة تفوق قدرة المجتمعات على استيعابه. فجأة، يجد الناس أنفسهم أمام صور واقعية لا يمكن التمييز بينها وبين الحقيقي، أمام فيديوهات تستبدل الوجوه، وأصوات تحاكي أشخاصاً حقيقيين، ومحتوى يُنتج خلال دقائق بدل أسابيع. في سياق بهذه السرعة، يصبح اعتراض الناس على إعلان كوكاكولا جزءاً من اعتراض أكبر على عالم يشعرون بأنه يُفلت من بين أيديهم. الإعلان ليس المشكلة؛ هو مجرد أول "مؤشر بصري" على التحوّل الكبير.
والسبب الرابع، وربما الأكثر عمقاً، هو الحنين. الإعلان الموسمي، خصوصاً إعلان عيد الميلاد يرتبط بذكريات الطفولة والعائلة والاحتفال، وأي كسر لهذه العاطفة يُقرأ كتهديد للذاكرة نفسها. عندما قال أحد المعلقين: "اشتقت لعالم الإنترنت قبل الذكاء الاصطناعي"، كان يعبّر عن إحساس عام بأن التكنولوجيا الجديدة تبعدنا عن البساطة التي عرفناها، وكأن الناس يقولون إنهم يقبلون التقدم، لكن ليس على حساب اللحظات التي يسمونها "إنسانية".
وبالتالي، فإن قلق الناس من إعلان كوكاكولا لم يكن عن الإعلان بحدّ ذاته، بل ناجم من شعور جماعي بأن الشركات قد تتخلى عن البشر في مساحات كانت تعتبر دوماً امتداداً للمشاعر والعلاقات. وهذا القلق يمهد للسؤال الأكبر: إذا كان الجمهور غير مستعد، فلماذا يبدو أن الشركات مصرّة على المضي في هذا الاتجاه؟
من يقود من: التكنولوجيا أم العلامات التجارية؟
حين نقرأ ردود الفعل على إعلان كوكاكولا، يبدو واضحاً أن المشكلة لا تتعلق بالإعلان نفسه فقط، بل بالسؤال الذي وضعته هذه التجربة على طاولة الصناعة كلها: من يملك زمام القرار اليوم في عالم الإعلان؟ التكنولوجيا أم العلامات التجارية؟ هذا السؤال ليس نظرياً، ولا يتعلق برغبة الشركات في "مجاراة العصر" فحسب، بل يتعلق ببنية اقتصادية كاملة بدأت تتبدل منذ سنوات، وأصبحت اليوم أكثر وضوحاً مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى كل مراحل الإنتاج: التخطيط، الكتابة، التصوير، المونتاج، وحتى تحليل الجمهور قبل الحملة وبعدها.
البيانات الأخيرة التي نشرها الـ Interactive Advertising Bureau تكشف هذا التحول بشكل حاسم: قبل سنة فقط، كان 22% من الإعلانات الرقمية منتجاً أو معززاً بالذكاء الاصطناعي. اليوم، صار الرقم يقترب من الثلث، والتوقعات تشير إلى أن العام المقبل قد يشهد ارتفاع النسبة إلى 40% وربما أكثر.
هذه الأرقام لا تعكس "ترند" مؤقتاً بل تحولاً عميقاً في نموذج العمل الإعلاني. ما حدث مع كوكاكولا ليس خطوة منفردة، بل تعبير عن واقع جديد: التكنولوجيا أصبحت في موقع القيادة، والشركات، حتى العملاقة منها، تجد نفسها مضطرة للحاق وليس للقيادة. فالمنافسة اليوم ليست فقط بين العلامات التجارية، بل بين سرعة الإنسان وقدرة الخوارزمية على إنتاج آلاف النسخ خلال دقائق.
وهنا يظهر التناقض الذي تعيشه العلامات التجارية اليوم: هي مضطرة لاستخدام الذكاء الاصطناعي كي لا تبدو "متخلفة" عن السوق، وكي تتمكن من مواكبة وتيرة المحتوى غير المسبوقة، وفي الوقت نفسه، تخشى أن يؤدي هذا الاستخدام نفسه إلى إضعاف هويتها العاطفية، وهي رأس مالها الحقيقي. فالإعلان، مهما تغير شكله، يبقى فعل "بناء علاقة"، وليس مجرد عرض صور أو أصوات.
هذا التوتر يظهر بوضوح في بيان كوكاكولا نفسه: "نعتبر الذكاء الاصطناعي شريكاً إبداعياً، لكن الدفء سيظل من صنع البشر". البيان يريد أن يطمئن الجمهور، لكنه يكشف أيضاً أن الشركة تتحرك داخل مساحة رمادية: تستفيد من التكنولوجيا لكنها تخشى ردود الفعل، وهذا يطرح سؤالاً أوسع: هل ما زالت الشركات تتحكم برواياتها أم أن التطور التقني بات يفرض عليها خيارات لم تكن تخطط لاعتمادها بهذه السرعة؟
المنصات الرقمية اليوم تغيّر قواعد اللعبة أسرع مما تستطيع الشركات تنظيم نفسها. التفضيلات، الصيحات، طرق الاستهلاك، كلها أصبحت متقلبة. في هذا المناخ، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة "إنقاذ" لفرق التسويق التي تحتاج إنتاج كميات هائلة من المحتوى بأقل وقت وأقل كلفة، لكنه في المقابل يتحول إلى عبء حين يشعر الجمهور أن العلامة التجارية فقدت إنسانيتها أو انزلقت نحو "الإبهار التكنولوجي" على حساب الجوهر.
باختصار، إن العلاقة بين العلامات التجارية والتكنولوجيا لم تعد علاقة "اختيار"، بل علاقة "اضطرار". الشركات اليوم تتحرك في مساحة ضيّقة بين ما تفرضه السوق وما يتحمله الجمهور. أزمة إعلان كوكاكولا ليست سوى انعكاس لهذه المعضلة: التكنولوجيا تقود والعلامات التجارية تحاول أن تواكب من دون أن تخسر نفسها.
هل سنصل إلى لحظة يصبح فيها الإعلان الحقيقي استثناء؟
عندما أثار إعلان كوكاكولا كل هذا الجدل، بدا واضحاً أن الخلاف الحقيقي ليس حول إعلان واحد، بل حول مستقبل صناعة كاملة تقف اليوم على حافة تحول جذري. السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو التالي: إذا كانت هذه مجرد البداية، فكيف سيبدو عالم الإعلانات خلال السنوات المقبلة؟ وهل سنصل فعلاً إلى مرحلة يصبح فيها الإعلان المصنوع يدوياً، بجهد بشر حقيقيين، استثناءً نادراً بدل أن يكون القاعدة؟
لننظر إلى الاتجاهات الحالية: نسب الإعلانات المصنوعة أو المعززة بالذكاء الاصطناعي ترتفع بوتيرة متسارعة. الشركات تجري تجارب واسعة النطاق وكبرى الوكالات الإعلانية بدأت تعتمد أدوات الــ AI على مستوى الكتابة، التصميم، إنتاج الفيديو، وحتى التخطيط الاستراتيجي. الأهم من ذلك، الجمهور نفسه بات يعيش في بيئة رقمية مشبعة بمحتوى مُولد آلياً، من الصور إلى المقاطع القصيرة إلى المؤثرين الافتراضيين. ومع الوقت، قد يصبح المحتوى البشري "علامة فاخرة" أكثر من كونه معياراً.
إعلان كوكاكولا كان الناقوس الذي نبّه الصناعة والجمهور معاً إلى هذه اللحظة الفاصلة. لحظة يعاد فيها طرح أسئلة أساسية: ما الذي يجعل الإعلان "صادقًا"؟ وما هو الدور الذي يضطلع به الإنسان في عملية إبداعية تزداد آلية يوماً بعد يوم؟
إذا استمرت هذه الوتيرة، قد نصل فعلاً إلى واقع يصبح فيه الإعلان اليدوي نادراً. تخيّلي للأمر بسيناريو بسيط يكون هكذا: إعلان تنتجه شركة مشروبات غازية بطريقة تقليدية تماماً، ويتألف من فريق تصوير، مخرج، ممثلين، كاميرات، مواقع، ميزانية كبيرة. قد يقدم هذا الإعلان يوماً ما للجمهور باعتباره عملاً "حقيقياً"، تماماً كما تسوّق اليوم المنتجات المصنوعة يدوياً مقابل المنتجات الصناعية، عندها تصبح الجملة: "صُوّر بدون استخدام الذكاء الاصطناعي" ميزة تسويقية بحدّ ذاتها.
لكن هل هذا هو الاتجاه الحتمي؟ ليس بالضرورة، إذ إن المعطيات تشير إلى مسارين متوازيين:
المسار الأول: الشركات ستستمر في استخدام الذكاء الاصطناعي بكثافة بسبب السرعة، التوفير، والقدرة على إنتاج محتوى ضخم خلال وقت قصير. المنصات تدفع بهذا الاتجاه، والمنافسة الرقمية تفرضه، والجمهور نفسه يستهلك المحتوى بسرعة تجعل الطرق التقليدية غير عملية دائماً.
المسار الثاني: ارتفاع قيمة "المحتوى الحقيقي". كلما زادت الإعلانات الموّلدة بالذكاء الاصطناعي، زادت رغبة الناس في رؤية بشر حقيقيين، مشاهد حقيقية، أخطاء طبيعية، لغة جسد غير مكتملة، لحظات تلقائية لا تستطيع أي خوارزمية تصنيعها بالطريقة ذاتها. هذا الميل بدأ يظهر في السنوات الأخيرة حتى قبل صعود الــ AI، مع الطلب المتزايد على محتوى أكثر صدقاً وشفافية على المنصات الاجتماعية.
لذلك، ربما المستقبل لا يتجه نحو اختفاء الإعلان التقليدي بقدر ما يتجه نحو إعادة صياغة قيمته. سيبقى موجوداً لكنه سيصبح أكثر انتقائية، يستخدم في الحملات التي تحتاج إلى عمق، أو ارتباط عاطفي، أو رواية حقيقية. في المقابل، ستترك المساحات اليومية أو الترويجية السريعة للذكاء الاصطناعي.
إعلان كوكاكولا كان الناقوس الذي نبّه الصناعة والجمهور معاً إلى هذه اللحظة الفاصلة. لحظة يعاد فيها طرح أسئلة أساسية: ما الذي يجعل الإعلان "صادقًا"؟ وما هو الدور الذي يضطلع به الإنسان في عملية إبداعية تزداد آلية يوماً بعد يوم؟ وهل يكفي أن تبقى "الإنسانية" مجرد وعد في بيان صحافي؟
إذا كان العالم يتجه نحو مستقبل يصبح فيه المحتوى الآلي عادياً، فقد تصبح الأيدي البشرية هي الندرة الثمينة. وربما، كما يحدث غالباً مع التحولات الكبرى، يعود الناس بعد سنوات ليقدروا ما افتقدوه حين يدركون أن بعض القصص لا تروى إلا بعيون بشر وأن بعض المشاهد لا يصنعها إلا قلب بشري يعرف ماذا تعني الفكرة قبل أن تصبح صورة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



