الخامس عشر من نيسان/ أبريل2023 ، هذا التاريخ الذي يحفظه السودانيون عن ظهر قلب، توقفت عجلة حياة الناس، تبدلت ألاوضاع، هناك من مات وهناك من فقد عقله ومن عاشوا تفرقوا بين لاجئين ونازحين.
فئة طوعت المستحيل وظلت في منازلها رغم الحرب، وسط كثير من الأزمات، داخل ولاية الخرطوم التي كانت تئنّ ألماً ممّا يحدث فيها، إلا أنه بعد مرور خمسة أشهر على بداية الحرب، بدأت عجلة الحياة تتحرك عند البعض، وسط أزيز المدافع وفرقعات مضادات الطيران، ربما فكر البعض في استعادة ما سلبته الحرب من أرواح بإنتاج أرواح جديدة، إذ عاد الناس لممارسة نشاطهم الطبيعي في حق الزواج، وإقامة المناسبات، وربما هناك دوافع وأسباب دفعت الشباب للتفكير في الزواج رغم الظروف بالغة التعقيد، أهمها أن تكلفة الزواج في تلك الفترة تدنت بصورة كبيرة، فالوضع في البلاد أنتج عذراً ظاهراً لا يحتاج تبرير لأن الجميع فقد كل شيء.
"فرح انتزعناه من بين ركام الأحزان"
حاول كثير من الشباب أن يغتنموا تلك الفرصة لتحقيق حلم الزواج الذي كان قبل الحرب يكاد أن يلامس المستحيل لارتفاع تكاليفه.
وعلى رغم الحرب وتأثيرها، إلا أن الشباب ما زالوا يتغلبون على الواقع ويتزوجون بما تيسر من تكاليف.
تقول سوسن البشرى، ربة منزل سودانية، لرصيف22: "ما زلت أذكر تفاصيل ذلك الزواج، كان عبارة عن فرح انتزعناه من بين ركام الأحزان، كانت مراسمه أيام القصف. في الحقيقة هو تأجل أكثر من مرة لكن كان لا بد من إقامته رغم الظروف الخطيرة".
وتضيف أنه يوم الزواج، وصل الزوج من مسقط رأسه في مدينة ربك بولاية النيل الأبيض إلى منزل أهل الزوجة بأم درمان، وكان القلق والتوتر سيدَي الموقف نتيجة نقطاع الاتصال معه طوال رحلته والتي استغرقت ثلاثة أيام، قبل أن يصل مع أصدقائه صباح يوم الزواج نفسه. هذه الواقعة لم تخلُ من مفاجأة، إذ عاشت الأسرة تفاصيل أخرى من الخوف مع بداية المراسم، نتيجة وقوع اشتباكات بين كرري وأمبدة، مما أدى إلى تأخير حضور العروس من الكوافير إلى مكان المناسبة.
"ما زلت أذكر تفاصيل ذلك الزواج، كان عبارة عن فرح انتزعناه من بين ركام الأحزان، كانت مراسمه أيام القصف. في الحقيقة هو تأجل أكثر من مرة لكن كان لا بد من إقامته رغم الظروف الخطيرة"
وتكشف سوسن أنه بعد ذلك الزواج، تواترت حالات زواج في تلك الفترة رغم الظروف، لأن كثيراً من الناس أصبحوا لا يتمسكون بضرورة دفع مهر غالٍ لأهل العروس، كما لا يهتم أيضاً كثير من أولياء الأمور بقيمة المهر ويقبلون بقيمة رمزية، الأمر الذي شجع كثير من الشباب على الزواج، رغم ظروف الحرب القاسية، وتالياً، باتت المراسم أيضاً أقل تعقيداً وتكلفة ولا تتجاوز الدعوة عقد القران وتناول وجبة الإفطار.
ثقافة تأجير الصالات
يقطن تامر حسن، حي الإمتداد، وهو أحد الأحياء التي هجرها أغلب سكانها جراء الحرب في الخرطوم.
يقول تامر لرصيف22: "إن حالات الزواج لم تتوقف أيام الحرب. احتفى أحد أبناء الحي بعقد قرانه، وفي الأيام المقبلة متوقع أن تحتفل إحدى الأسر بزواج ابنتها، ونسبة للظروف الراهنة علمنا أن المناسبة ستقتصر على عقد القران في المسجد بحسب التقاليد المحلية، علاوة على جلسة نسائية مع العروس".
ويتوقع تامر أن تساعد هذه المستجدات في تقليل تكاليف الزواج بصفة عامة، وأهمها إقامة المناسبات في صالات الأفراح التي كانت تستأجر بقيمة مالية كبيرة قد تكون وحدها عائقاً لكثير من الشباب بخاصة ذوي الدخل المحدود، كاشفاً أن عدد الصالات التي ما زالت تستقبل مناسبات الزواج قليل في مدينة أم درمان، بينما اختصر أهالي محلية الخرطوم المناسبات في عقد القران بالمساجد.
هذا ويشير إلى أن ثقافة تأجير الصالات غير رائجة بخاصة في الأرياف، إذ يقيم الناس مناسباتهم في الساحات والميادين العامة، ويشهدها عدد غفير من الضيوف طبقاً لثقافتهم القائمة على الكرم والذبائح وإقامة الولائم.
حكايات ألف ليلة وليلة
في حديثها مع رصيف22، تقول الكاتبة الصحافية والاختصاصية الاجتماعية، أسماء جمعة، إن هناك طقوساً وعادات تضاعف تكلفة الزواج في المجتمع السوداني مثل: الجرتق، وقولة الخير عند الخطبة، والشيلة التي تضم مجموعة من الملابس والأغراض النسائية، إضافة إلى حفلة الحناء، ورقص العروس، ووليمة العقد، وموية رمضان وغيرها.
وتشير إلى أن هناك طقوساً وعادات أخرى خاصة بمناطق أو قبائل معيّنة، لكن الحرب والضغوط الاقتصادية والاجتماعية أزالت الكثير منها مما ساهم في تسهيل الزواج، خصوصاً تلك التي تتعلق بالجرتق ورقص العروسة وبعض العادات المرهقة مادياً، واختصر الأمر على وليمة يجتمع حولها الأهل والضيوف لحضور العقد وتحقيق مقصد الإشهار: "حتى هذه الطقوس والعادات تظل مرتبطة بالقدرة الاقتصادية والإقامة في مكان آمن، فمثلاً، نلاحظ أن بعض السودانيين الذين لجأوا إلى مصر وتركيا من أصحاب الحال الميسور ما زالوا يقيمون جميع الطقوس، بل يضيفون إليها لمسات جديدة تجعل الطقس أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة".
في السياق نفسه، تقول أمونة، وهي ربة منزل تقيم في حي الثورة بأم درمان، أن هناك اختلافاً كبيراً في احتفالات الزواج بالمنطقة عمّا كانت عليه قبل الحرب، إذ توضح أن مناسبات الأعراس تنظم حالياً بطريقة موجزة داخل المنازل بعد أن كانت تُقام في صالات الأفراح المستأجرة مع حفلات مكلفة، كاشفة أنه حالياً تجري دعوة الأقارب إلى تناول وجبة الإفطار فقط على وقع الأغاني.
وسط هذه الأجواء تشير أمونة الى تلاشي أحد الطقوس المتعارف عليها في الأعراس السودانية وهي "فطور أم العريس"، باعتبارها عادة مكلفة مادياً، خاتمة بالقول: "سبحان الله رغم الحرب، ظلت مناسبات الزواج خلال العامين الماضيين كثيرة ومختصرة".
وضع اجتماعي جديد
توضح أسمهان أبو طويلة، التي تسكن محلية كرري بأم درمان، إن الأفراح أثناء الحرب الجارية أصبحت مختصرة جداً، لكنها في الوقت عينه تكشف عن وضع اجتماعي جديد أفرزته الحرب: "الجار لم يعد هو الجار الذي نعرفه، ولم يعد كل الأهل موجودين كما في السابق، وهو ما غيّر من طبيعة الأفرح وأجوائها بشكل كبير".
من هنا، تؤكد الاختصاصية الاجتماعية، أسماء جمعة، أن طقوس الزواج تتأثر بالظروف الاجتماعية والاقتصادية حتى في أوقات السلم، لكن التأثير طرأ بصورة أكبر بعد الحرب: "إن الكثير من الناس اضطروا لتبسيط طقوس الزواج والاكتفاء بحدها الأدنى، أو اختصارها على الإجراءات القانونية داخل نطاق الأسرة الصغيرة".
غير أنها تنوه بأن هناك فئة أخرى داخل السودان وخارجه، ما زالت تقيم الأعراس بمظاهر من البذخ والمبالغة تفوق ما كان قبل الحرب، مما أوجد مشهدين متوازيين لمجتمع متقشّف وآخر مبالغ في الاحتفال، كاشفة أن الحرب لها آثار نفسية عميقة على الشباب، إذ تؤثر على أحلامهم وأهدافهم ورغبتهم في الاستقرار خصوصاً بعدما فقد كثيرون منازلهم وأعمالهم وأسرهم، مما يسبب لهم القلق والخوف ويدفعهم إلى تأجيل فكرة الزواج حتى يتمكنوا من إعادة ترتيب حياتهم.
وتوضح أسماء أن ارتفاع نسبة الزواج أثناء فترة الحرب له أسباب متعددة، بعضها نفسي وبعضها اقتصادي واجتماعي، يتمثل في الحاجة إلى الإحساس بالحماية والأمان والاستقرار العاطفي، والمساعدة المتبادلة، وكذلك الأمل في المستقبل. كما قد يكون لدى بعض الشباب رغبة قوية في تكوين أسرة وتأسيس حياة جديدة بعدما شكّلت القدرة المادية عائقاً أمامهم فوجدوا في الحرب فرصة لتحقيق هذا الهدف النبيل.
وتشير إلى أن ارتفاع نسبة الزواج في ظل الحرب قد تواجهه تهديدات بارتفاع نسبة الطلاق لأسباب كثيرة بسبب المتغيرات المستمرة التي تحدث.
"نلاحظ أن بعض السودانيين الذين لجأوا إلى مصر وتركيا من أصحاب الحال الميسور ما زالوا يقيمون جميع الطقوس، بل يضيفون إليها لمسات جديدة تجعل الطقس أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة"
أما ياسر بدوي فيكشف عن قضية اجتماعية خطيرة لم تكبحها الحرب: زواج القاصرات، ويعزو الأمر إلى غياب الرقابة القانونية والمأذون الشرعي في ظل أوضاع النزوح الحالية، لافتاً إجراء عقود القران بواسطة شيوخ غير مأذون لهم شرعياً، من دون المراعاة لسن الزواج القانونية للفتيات.
في الختام، تجدر الإشارة إلى أنه برزت حالات مأسوية داخل مجتمع الخرطوم وبعض الولايات، وهي أن كثيراً من جنود الدعم السريع قد تزوجوا فتيات من مجتمعات أخرى، وأقاموا مناسبات علنية في مناطق شرق النيل تحديداً على سبيل المثال، لكن المأساة تكمن في أن هؤلاء الجنود فروا هاربين مع زحف قوات الجيش على المنطقة تاركين خلفهم زوجات يواجهن مصيراً مجهولاً وربما يقبض عليهن بتهمة التعاون مع الدعم السريع ويحاكمن .
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



