كيف يواجه أبناء المعتقلين السياسيين في مصر الوصمة الاجتماعية؟

كيف يواجه أبناء المعتقلين السياسيين في مصر الوصمة الاجتماعية؟

حياة نحن والحرية

الثلاثاء 25 نوفمبر 20258 دقائق للقراءة

لا يواجه أبناء المعتقلين السياسيين في مصر غياب ذويهم فقط بل يواجهون وصماً اجتماعياً يومياً.

من هنا، تحاول الكثير من الأسرة إخفاء الحقيقة المرة، سواء عن أطفالهم أو عن محيطهم الاجتماعي، وذلك لحماية الأبناء من الوصمة أو التهميش والإقصاء.

"متلعبيش معاه… أبوه إرهابي"

إن الاختفاء القسري يحدث عند "القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغماً عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها أو على أيدي مجموعة منظمة، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون"، وفقاً للإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.

وثقت حملة "أوقفوا الاختفاء القسري"، التابعة للمفوضية المصرية للحقوق والحريات منذ إطلاقها عام 2015 وحتى آب/ أغسطس 2025، تعرض 4828 شخصاً للاختفاء القسري، من بينهم 185 سيدة.

ومن بين الـ4828 حالة موثقة، لا يزال 400 شخص مختفياً قسراً بينما ظهر الباقون في أغلبهم في مقار النيابات، وخصوصاً نيابة أمن الدولة العليا بالقاهرة.

لا يواجه أبناء المعتقلين السياسيين في مصر غياب ذويهم فقط بل يواجهون وصماً اجتماعياً يومياً

تقول أميرة (25 عاماً) وهي ابنة سجين سياسي في مصر، إنها وأشقاؤها واجهوا وما زالوا يواجهون ظروفاً صعبة للغاية بسبب نظرة الناس إليهم التي لا تفرق بين معتقل رأي وسجين جنائي ارتكب جريمة حقيقية.

وتشير أميرة إلى موقف سيئ تعرض له شقيقها الصغير، ذو الثلاثة عشر عاماًـ بعد اعتقال والدها قبل 4 سنوات، فبينما كان يلعب في الشارع مع أبناء الجيران، صرخت إحدى السيدات في حفيدها حتى لا يلعب مع أخيها لأن "أبوه إرهابي".

وتوضح أميرة، لرصيف22، أنها لا تعاني شخصياً من نظرة الناس بعد اعتقال والدها بتهم ملفقة، أبرزها الانضمام لجماعة إرهابية، بقدر ما يعاني أشقاؤها بسبب صغر سنهم، لافتة إلى أن شقيقها دائماً يُسأل: أين والدك؟ ولما هو في السجن؟ وما الجريمة التي ارتكبها، مؤكدة أنه يعاني نفسياً جراء تلك الأسئلة ومحاولة شرح أسباب اعتقال والده.

هذا وتكشف عن الحيلة التي لجأ إليها شقيقها للهروب من الأسئلة التي توجه له: "لم يعد شقيقي يقول 'بابا في السجن' إنما بات يقول 'بابا مسافر' حينما يُسأل عنه"، مشيرة إلى أن الناس لا تفهم أن هناك من يُسجن بسبب فكر أو كلمة أو رأي: "المجتمع يؤمن بأن من في السجن لا بد أنه مخطئ، لهذا محاولات التوضيح غير مجدية".

توضح أميرة إنها مرت بما مرّ به أشقاؤها، لكن كل فرد منهم كان له رد فعله الخاص وطريقته المختلفة في التعامل مع الأمر، مشددة على أن أسرتها مرت بسنين صعبة للغاية وما زالت تعاني بسبب نظرة الناس لهم: "كنا نسمع في النهاية جملة: طيب هو عمل في نفسه كده ليه؟ ما كان يسكت، هو كان هيغير الدنيا يعني؟".

وتضيف: "هذا الكلام مؤلم للغاية ويسبب وجعاً كبيراً، الناس ترى أن ما حدث ليس بطشاً واستبداداً وإنما طريق اختاره المعتقل بنفسه".

واللافت أن أميرة في هذه المرحلة لم تعد مهتمة هي وأشقاؤها بشرح أسباب اعتقال والدها رغم تأكيدها تأثرهم وحزنهم من بعض المواقف التي تعرضوا لها خصوصاً موقف الجارة التي وصفت والدها بـ"الإرهابي": "نحن غير مضطرين لتفسير أو إثبات شيء لأحد، يكفي أننا نصدق ونؤمن أنه لم يقترف جرماً".

بابا مسافر!

تقول سلمى (30 عاماً) وهي زوجة لمعتقل سياسي جرى القبض عليه وإخفاؤه قسراً لبضع سنوات قبل أن يظهر متهماً على ذمة إحدى القضايا السياسية، إنه حين اعتُقل زوجها كان ابنها يبلغ من العمر عاماً ونصف العام (يبلغ حالياً 7 سنوات)، فلجأت في البداية للكذب عليه وأخبرته بأن والده مسافر، واستخدمت الكذبة نفسها مع محيط نجلها حينما كبر والتحق بالمدرسة حتى تجنبه التعرض للوصم.

عندما ظهر زوجها قبل نحو عام في نيابة أمن الدولة العليا، التي قررت حبسه احتياطياً بتهمة "الانتماء لجماعة محظورة"، أخبرت سلمى ابنها بالحقيقة لكونها قررت أن تأخذه معها إلى السجن خلال الزيارات الشهرية حتى يتعرف إلى والده: "ابني كان زي الطفل اليتيم طوال سنين الاختفاء"، وفق ما تقول لرصيف22.

الآن؛ بات نجل سلمى يواصل استخدام حيلة "بابا مسافر، بيشتغل" في مدرسته وخارجها.

ورغم محاولة الأم حماية نجلها من الآثار النفسية التي قد تصيبه من أي وصمة مجتمعية قد يتعرض لها؛ تؤكد سلمى أن نجلها يعاني بالفعل من غياب والده طوال السنين الماضية، فهو كما تصف "يتيم وابوه على قيد الحياة ولا يتحدث كثيراً حتى عندما يزوره، إذ يظل صامتاً أغلب الوقت".

رفض وظيفي

أما ميساء (47 عاماً) والتي كان أبناؤها في المرحلة الثانوية والجامعية حينما جرى اعتقال زوجها بسبب نشاطه العمالي قبل ما يزيد على 5 سنوات، فتقول إن أبناءها عانوا بالطبع نتيجة اعتقال والدهم رغم كبر سنهم.

ورغم تعاطف بعض أصدقاء الطفولة وأهاليهم، تشير ميساء إلى أن بعض الأهل والجيران ابتعدوا عن أولادها ولم يحاولوا حتى الاطمئنان إليهم هاتفياً.

ومن أبرز المواقف التي تتذكرها ميساء عدم تعيين ابنتها في إحدى الشركات الخاصة بعد تخرجها في الجامعة بعد اجتيازها الاختبارات والمقابلات اللازمة وقبولها وطلب أوراقها للتعاقد بسبب كون والدها معتقلاً سياسياً: "كانت فترة قاسية جداً، وما زلنا نعاني منها حتى الآن".

تقول الدكتورة عايدة سيف الدولة، أستاذة الطب النفسي، إن الوصم المجتمعي الذي يتعرض له أبناء المعتقلين مشكلة حقيقية يواجهها كثير من الأطفال الذين حُرموا من آبائهم/ أمهاتهم جراء الاعتقال السياسي، لافتة إلى أن تعامل الأسر مع هذه المشكلة ومواجهة آثارها أو تجنبها يتوقف على عناصر كثيرة منها عمر الطفل ومدى إدراكه لفكرة السجن السياسي.

وتضيف إنها لا تستطيع اعتبار إخفاء مسألة اعتقال الأب أو الأم عن الطفل "كذب" لأن الأسر تؤلف قصة أخرى تفسر من خلالها الغياب بخاصة أن الطفل لا يدرك معنى "معتقل سياسي": "السجن بالنسبة إليه يعني جريمة وأن الشخص الموجود في السجن سيء"، وعليه، ترى سيف الدولة أن كيفية تبرير غياب الأب أو الأم متروك لتقدير الأسرة ومدى استيعاب الطفل.

وتنوه عايدة بأنه في بعض الأوقات حينما تطول فترة الاعتقال ويكبر الطفل ويشاهد/ يقرأ الأخبار ويفتح الإنترنت يعرف بطريقة أخرى بعيداً من دعم الأسرة وتوضيحها للأمر، لهذا لا بد من أن تأخذ هذا القرار الأسرة بنفسها أو تمهد له بالتدريج مع الوضع في الاعتبار كل العناصر الأخرى في محيط الطفل.

وتعتبر أنه أحياناً يكون من المفيد الاستعانة بشخص متخصص يساعد الأسرة في هذه العملية وفي توصيل المعلومة للطفل دون ترهيب أو خوف، لأن الإخفاء من الممكن أن يكون له آثار سلبية إذا أصبح الطفل لديه القدرة على التمييز ولم يشرح له أحد الوضع: "الأطفال صعب عليهم تقبل فكرة إن الأهل بيكذبوا"، وبالتالي ينبغي إطلاع الطفل بالحقيقة بشكل تدريجي وملائم لعمره ومدى استيعابه.

هذا وتلفت إلى أن الآثار السلبية لإخفاء الحقيقة تتمثل في أن يعي الطفل أنه محروم من أبيه/ أمه من دون أن يدرك السبب، خصوصاً أنه لا يوجد سبب حقيقي لأن يبقى المعتقلون السياسيون في السجن لسنوات، فضلاً عن حرمان بعضهم من زيارة الأهل.

"يتيم وابوه على قيد الحياة ولا يتحدث كثيراً حتى عندما يزوره، إذ يظل صامتاً أغلب الوقت"

وفق تقرير أصدرته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في العام 2021 يبلغ عدد السجناء والمحبوسين السياسيين في مصر نحو 65 ألفاً؛ منهم نحو 37 ألف سجين احتياطي.

وتقول منظمة العفو الدولية إن السلطات المصرية في العام 2024 واصلت قمع الانتقاد، وخنق المجتمع المدني، وفرض قيود على التظاهرات في الشوارع، لافتة إلى أنه في الوقت الذي أفرجت فيه السلطات عن 934 سجيناً احتُجزوا لأسباب سياسية، قبضت على 1,594 آخرين، وكان من بين الذين استُهدفوا صحافيون، ومحامون، ومعارضون، وسياسيون معارضون، وأشخاص انتقدوا سجل الحكومة الحقوقي، وتعاملها مع الأزمة الاقتصادية.

وهكذا تعاني أسر المعتقلين سياسياً في مصر جراء غياب الأب/ الأم والوصمة الاجتماعية التي يواجهها الأبناء في محيطهم الاجتماعي ومدارس الأبناء وحتى الشركات التي ترفض تعيينهم في العمل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image